Sharh Bab Tawhid al-Rububiyyah min Fatawa Ibn Taymiyyah
شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية
Genre-genre
ذكر الدليل العقلي الفطري على وجود الخالق سبحانه وغناه وافتقار المخلوقات إليه
قال رحمه الله تعالى: [وعلى هذا جاء قوله: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور:٣٥]].
يعني: هذه الحقائق تغني عن كل فلسفة المتفلسفين في أن الله ﷿ هو الخالق، وأن الخلق لا بد له من خالق، فهي دليل على وجود الخالق سبحانه ووحدانيته بالضرورة، كما أنها دليل على كمال الخالق وغناه سبحانه، ثم إنها دليل على حدوث المخلوقات وفقرها إليه ﷿، فقوله ﷿: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ﴾ [الطور:٣٥] إذا استعمل الإنسان ذهنه وجد أن الجواب بدهي، لا يمكن أن يخلقوا من غير شيء، الافتراض الآخر: ﴿أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور:٣٥] أي: لأنفسهم؟ هذه مردودة تصادم العقل السليم والفطرة، فهم لا يمكن أن يخلقوا أنفسهم؛ لأن هذا يؤدي إلى الدور، بمعنى أنه لا بد للخلق من خالق.
فمن هنا ننتهي إلى الحقيقة الشرعية الفطرية بدون مقدماتهم التي لجئوا إليها.
قال رحمه الله تعالى: [قال جبير بن مطعم: لما سمعتها أحسست بفؤادي قد تصدع.
وهو استفهام إنكار يقول: أؤجدوا من غير مبدع؟ فهم يعلمون أنهم لم يكونوا من غير مكوّن، ويعلمون أنهم لم يكونوا نفوسهم، وعلمهم بحكم أنفسهم معلوم بالفطرة بنفسه، لا يحتاج أن يستدل عليه بأن كل كائن محدث].
فقد كان خطباء الجاهلية أفقه من المتكلمين، وقد كانوا على غير شرع؛ أما الحنيفية فقد اندثرت ملة إبراهيم، لكن كانت الفطرة موجودة عند أهل الجاهلية، وكان بعضهم يتكلم ويخطب في أمور بدهية، كقول أحدهم: سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج.
ثم ذكر أدلة على وجود الله ﷿: أن الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير إلى آخره، ثم قال: ألا يدل ذلك على العليم الخبير؟ وهو في الجاهلية يخطب بها في ذي المجاز أو عكاظ أو في أحد أسواق الجاهلية، يعني: كان هذا الإنسان في الجاهلية أفقه بكثير من المتكلمين الذين عقّدوا عقول الناس، وشتتوا المسلمين وفرقوهم الآن إلى أشاعرة وماتريدية وجهمية ومعتزلة، وكل واحد يقول: هذا هو الدين الحق أما الآخر فباطل، إلى أن وصل الأمر عند بعض العلماء الفضلاء بأن زعموا أن هذه المناهج المعقّدة واجبة على كل إنسان، قالوا: يجب على كل إنسان النظر، فإن لم ينظر فهو خارج من الملة لا يدخل في الإسلام، يعني: النظر بهذه الطريقة، سبحان الله! إذًا: ما بقي من المسلمين إلا هم، وهم حينما نظروا هل وصلوا إلى نتيجة؟ وهل اتفقوا على شيء؟ ما وصلوا إلى نتيجة، ولا اتفقوا على شيء.
فإذًا: هذه المسالك هي خلاف الفطرة، حتى الناس الذين كانوا في مجتمعات شركية وجاهلية كانوا يقررون توحيد الربوبية بمبادئ فطرية عقلية بدهية، بعيدة عن هذه التعقيدات الكلامية والفلسفية، بل هذه المسالك التي سلكها المتكلمون هي مسالك الملاحدة خصوم الأنبياء.
قال رحمه الله تعالى: [أو كل ممكن لا يوجد بنفسه ولا يوجد من غير موجد، وإن كانت هذه القضية العامة النوعية صادقة، لكن العلم بتلك المعينة الخاصة، إن لم يكن سابقًا لها فليس متأخرًا عنها، ولا دونها في الجلاء.
وقد بسطت هذا المعنى في غير هذا الموضع، وذكرت دعوة الأنبياء ﵈، أنه جاء بالطريق الفطرية، كقولهم: ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [إبراهيم:١٠].
وقول موسى: ﴿رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الإسراء:١٠٢].
وقوله في القرآن: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا﴾ [البقرة:٢١ - ٢٢] بيّن أن نفس هذه الذوات آية لله، كما أشرنا إليه أولًا من غير حاجة إلى ذينك المقامين، ولما وبخهم بين حاجتهم إلى الخالق بنفوسهم، من غير أن تحتاج إلى مقدمة كلية هم فيها وسائر أفرادها سواء، بل هم أوضح، وهذا المعنى قررته مبسوطًا في غير هذا].
يعني: أن الله ﷿ عندما قرر توحيد الربوبية الذي يقر به هؤلاء على إقرارهم بقوله: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾ [البقرة:٢٢] إلى نحو هذا مما يعرفونها، أراد به ما ذكره في أول الآية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة:٢١] فجعل هذه الأمور للإلزام بالعبادة، لا لأنهم ينكرونها، لكن لتذكيرهم بها؛ لأنهم يعترفون بها، فألزمهم بواسطة الاعتراف بها بعبادة الله، وهذا هو الغاية من الاستدلال بنعم الله وخلقه، أي: الغاية من ذلك أن يعبد الناس الله وحده، أما الربوبية فإنهم مقرون بها، فهو تحصيل حاصل أن نطلب من الناس أن يقروا بالربوبية.
2 / 4