Sharh Al-Wasatiyyah - Yusuf Al-Ghafis
شرح الواسطية - يوسف الغفيص
Genre-genre
شرح العقيدة الواسطية [١]
أول من اشتغل بتقسيم الدين إلى أصول وفروع، وإلى حقيقة ومجاز هم أئمة النظر من المتكلمين ومن اشتغل بشأنهم من الفقهاء ممن كتبوا في أصول الفقه. أما منهج أهل السنة والجماعة في ذلك فهو قبول هذه التقسيمات والحدود باعتبار الاصطلاح اللفظي مع اشتراط أن تنزل هذه الاصطلاحات على معان مناسبة.
1 / 1
مقدمة شرح العقيدة الواسطية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فنسأل الله ﷾ بأسمائه وصفاته، وندعوه ونتوسل إليه بأنه الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.
اللهم لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد.
اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد ﵌ حق.
اللهم لك أسلمنا وبك آمنا، وعليك توكلنا وإليك أنبنا، وبك خاصمنا وإليك حاكمنا، اللهم فاغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، اللهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم الطف بعبادك المسلمين في قضائك وقدرك، اللهم اكف الإسلام والمسلمين شر أعدائهم، اللهم اجعل الدائرة عليهم، اللهم شتت شملهم، وأذهب أمرهم.
اللهم يا ذا الجلال والإكرام، يا قوي يا عزيز، اللهم شتت شملهم وأذهب أمرهم، واجعل الدائرة عليهم، واحفظ بلاد المسلمين وثغورهم وأعراضهم ودينهم من شر عدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز.
ثم أما بعد:
فإن دراسة العلم الذي بعث به محمد ﵊ هو قربة لله ﷾، وهو تعظيم لله ﷿ ونصر له؛ فإن الله يقول: ﴿إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾ [محمد:٧] ومن نصره ﷾ العلم بما بعث به نبيه ﵊، وأشرفه العلم بمسائل أصول الدين التي بعث بها سائر الأنبياء والمرسلين، وبعث بها كذلك خاتمهم محمد ﵊، فإنه لم يختلف عن إخوانه من الأنبياء والمرسلين في تقريرها، لكنه زادها بيانًا، ووضوحًا، وزادها هدىً وقربًا إلى المسلمين، وصارت رسالته ﵊ محفوظة بحفظ الله لكتابه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر:٩].
ومن شريف وفاضل كتب السنة والجماعة المصنفة في الاعتقاد الرسالة الواسطية لـ شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀، والتي كتبها الشيخ ﵀ إلى بعض علماء واسط، حيث ذكر أنه طلب منه أن يكتب له شيئًا في معتقد أهل السنة والجماعة وفي أصولهم، فكتب هذه الرسالة.
1 / 2
خصائص الرسالة الواسطية
إن الحديث عن هذه الرسالة وعظمها وفائدتها يطول، لكن أحب أن أشير إلى ثلاث خصائص فيها:
الخاصية الأولى: أنها رسالة جامعة؛ فإن ثمة رسائل في أصول الاعتقاد للشيخ -أي: لـ شيخ الإسلام - وغيره ممن قبله أو بعده من علماء السنة والجماعة لكن كثيرًا من هذه الرسائل مختصة بباب من أبواب أصول الدين، كالرسالة الحموية لـ شيخ الإسلام نفسه، فإنها مختصة بمسائل الأسماء والصفات، وكبعض الرسائل المصنفة في القدر أو مسمى الإيمان أو غير ذلك من مسائل الاعتقاد.
أما هذه الرسالة فهي رسالة جامعة، ذكر فيها المصنف جمهور مسائل أصول الدين، ولا سيما المسائل التي حدث فيها نزاع بين أهل القبلة، وإن كان ﵀ فصَّل في باب الأسماء والصفات تفصيلًا لم يفعل مثله في غيره من الأبواب، وذلك لعظم شأن هذا الباب ولكثرة الاختلاف فيه؛ ولأن الاختلاف فيه هو أخص مسائل الخلاف بين أهل القبلة، فإن سائر الأغلاط التي وقعت عند الطوائف في مسائل أصول الدين لا يقع لها من الشأن والتغليظ ما وقع لأقوال المخالفين في مسائل الإلهيات -مسائل الأسماء والصفات-.
الخاصية الثانية: أنها رسالة متأخرة في الجملة، فهي ليست من الرسائل المكتوبة زمن الأئمة المتقدمين، مع أن القراءة في كتب المتقدمين لها اختصاص من وجهٍ آخر ولها فضل السبق، لكن هذه الرسالة كتبها إمام متأخر في الجملة، أي: أنها كتبت بعد استقرار مقالات الطوائف في عقائد المسلمين، ومسائل أصول الدين؛ فإن المقولات المأثورة عن سلف الأمة من المتقدمين لم يقع فيها ذكر لمخالفة متكلمة الصفاتية من الكلابية والماتريدية والأشعرية وغيرهم؛ فجاءت هذه الرسالة منبهةً إلى تميز مذهب السلف، ليس فقط عن المذاهب التي عرف عن المتقدمين أنها مخالفة للسنة والجماعة كالجهمية والمعتزلة والقدرية وغيرها، والتي انضبطت مخالفتها، بل جاءت كذلك مميزة له عن كثير من الأقوال والمذاهب التي انتسب أصحابها إلى السنة والجماعة؛ فإن جمهور متكلمة الصفاتية من المنحرفين عن هدي السلف ينتسبون إلى السنة والجماعة، فجاءت هذه الرسالة مبينةً لهذا الوجه الذي وقع من جهته معظم الانحراف الذي دخل على أصحاب الأئمة الأربعة.
فإنك إذا نظرت إلى أتباع الأئمة الأربعة من المتأخرين، رأيت جمهور هؤلاء معرضين إعراضًا بينًا عن مقالات البدع المغلظة التي تحدث فيها أئمة السلف ﵏ كبدع الجهمية المحضة، أو بدع المعتزلة المحضة، أو بدع القدرية المحضة.
مع أنه قد دخلت عليهم مقالات متكلمة الصفاتية في مسائل أصول الدين.
وهذا الدخول إما أن يكون اتباعًا محضًا لهذه المذاهب، وهذه طريقة متكلمة الفقهاء من الأحناف والشافعية والمالكية، وإما أن يكون تأثرًا عامًا، وهذه طريقة مقتصديهم ممن تأثر بهذه المذاهب المخالفة للسنة والجماعة.
الخاصية الثالثة: أن مصنفها ﵀ كتبها بلسان الشريعة، أي: تقصد في مسائلها وحروفها ألفاظ الشريعة ومسائلها؛ وقد بين ﵀ ذلك في رسالته، وهذا المنهج بيِّنٌ من خلال قراءة هذه الرسالة.
وهذه الرسالة يمكن القول فيها: إنها شرحٌ للإيمان الذي ذكره النبي ﷺ في حديث جبريل المتفق عليه، فإن المصنف لما ذكر مقدمته قال: أما بعد ..
فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة، قال: وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره.
وهذا الأصل الجامع للإيمان هو الذي ذكره الرسول ﵊ في حديث جبريل، وهو مجمل ما ذكره الله ﷾ في خواتيم سورة البقرة.
فجاء المصنف شارحًا لهذه الأحرف الشرعية، وقصد في شرحها أيضًا الأحرف الشرعية، فالرسالة بعيدة عن اللغة الكلامية أو المنطقية، كما أنها بعيدة أيضًا عن لغة الرد، فإن معظم هذه الرسالة بلغة التقرير لمعتقد أهل السنة والجماعة.
ولا شك أن ثمة فرقًا بين لغة الرد وبين لغة التقرير لمسائل الاعتقاد.
وهنا أنبه إلى أنه قد يقع لبعض من يقرر في مسائل أصول الدين، أو يتحدث عن ذلك في كتاب أو درس، أو من يشتغل من طلبة العلم بدراسة معتقد أهل السنة والجماعة؛ أنه يقع لبعض هؤلاء بعض القصور في إدراك مسائل الاعتقاد، وذلك أن بعضهم يتناول المسائل على لغة الرد، والأصل أن المعتقد يؤخذ تقريرًا، أي: يؤخذ جملًا من كلام الله سبحانه وكلام رسوله ﷺ وإجماع السلف، وأما الرد فإنه لا يتناهى؛ فإن البدع والاختلاف والمعارضة والخروج عن أصول السنة والجماعة لا يمكن أن يتناهى بزمنٍ أو بجملٍ معينة.
فهذه الرسالة هي رسالةٌ مقررة لمعتقد أهل السنة والجماعة، وأما الرد فإنه درجة ثانية يشتغل به فيما بعد.
لذلك لم يذكر المصنف أسماء الطوائف إلا على قدر الحاجة؛ وذلك حين يقصد تمييز مقولة أهل السنة والجماعة عن غيرهم.
وقد قصد المصنف بكتابة هذه الرسالة بلسان الشريعة أن تكون مقربةً للنفوس، فإن في زمنه ﵀ شاع مذهب متكلمة الصفاتية، لكنه مع هذا لم يذكر مذهب الأشعرية بالتصريح، وإنما أبان أن طريقة السلف تختلف عن طريقة هؤلاء المتأخرين، فهو يشير إليهم ببعض الأسماء المجملة التي ليس فيها تخصيص لهم، وقصده من هذا ﵀: أن تكون رسالته جامعة لهم على قول الله ﷾ ورسوله ﷺ، والإجماع الذي يصرح المحققون من الأشاعرة بأنهم يقصدون إليه.
1 / 3
شرح مقدمة الواسطية
قال المصنف ﵀: [الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا به وتوحيدًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا مزيدًا، أما بعد].
هذه المقدمة يقع في كتب شروح الواسطية -بل ويقع في كتب الشروح بعامة- تعليق على جمل فيها من جهة اللغة؛ كالباء في قوله: بسم الله الرحمن الرحيم، وتعلق الجار بالمجرور وما إلى ذلك، ثم تفسير الحمد، قالوا: ويكون باللسان وبالقلب وبالجوارح
وما إلى ذلك؛ ولهذا أرى أن التعليق على هذه المعاني من الأشياء المتداولة المكررة، ولكن أحب أن أنبه أن هذا النظم الذي يقدم به الأئمة في كتبهم أشرفه ما ذكره الرسول ﷺ في خطبه، وهو قوله: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه
إلخ، هو من النظم الشرعي الذي قد يقع به هداية أقوام من الكفر إلى الهداية؛ فإن ضمادًا -والحديث رواه ابن عباس، كما في الصحيح- قدم مكة وكان من أزد شنوءة، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمدًا مجنون.
فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، قال: فلقيه، فقال: يا محمد إني سمعت ما يقول الناس، وإني أرقي من هذه الريح فهل لك؟ -أي: فهل لك أن أرقيك أو أداويك- فقال النبي ﷺ: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ..
وذكر ﵊ بين يدي حديثه هذه الخطبة، فلما قال: أما بعد، قال له ضماد: أعد عليَّ كلماتك هؤلاء، فأعادها النبي ﷺ مرتين، فقال له ضماد: يا محمد! لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر، هات يدك أبايعك على الإسلام!
فهذه الأحرف الشرعية المأخوذة إما اقتباسًا وإما نقلًا من كلام الله سبحانه ورسوله ﷺ لها شأن باعتبار نظمها؛ فإنها جمل شرعية جامعة لمسائل التوحيد ومسائل الحق ونحو ذلك، ولهذا كان ﷺ يستفتح بها.
ويقع في كتب الشروح -ولا سيما المتأخرة- أنهم يعلقون كثيرًا على مسألة الابتداء بـ (بسم الله الرحمن الرحيم)؛ فمنهم من يقول: إن هذا اتباع لحديث: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر) ثم يأتي التعقيب بأن هذا حديث لا يثبت، ثم يأتي الالتماس بأوجه.
وهذا فيما أحسب من غريب الحال، فإن هذه المسألة ينبغي أن تتجاوز، فإن البداءة بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) بداءة مناسبة، بل كأنها بداءة فطرية؛ فإن القرآن بدأ بـ (بسم الله الرحمن الرحيم)، بل حتى العرب في جاهليتها كانت تبدأ كتبها ومراسلاتها باسم الله، وإن كانت لا تنطق بهذا التصريح الشرعي.
فمثل هذه التعليقات -فيما أرى- لا ينبغي لطالب العلم كثرة الاشتغال بها وكأنها من التحقيق؛ بل ينبغي في مثل هذه المسائل البينة الواضحة تجاوز النظر فيها إلى المسائل التي لها الأهمية والأولوية لينصرف إليها التأمل والبحث والنظر.
قول المصنف: (فهذا اعتقاد) هذه اللفظة -اعتقاد- ليست مستعملة في الأحرف الشرعية النبوية فضلًا عن أحرف القرآن، ولكن درج كثير من أهل السنة والجماعة -بل وغيرهم من الطوائف- على تسمية ما يختص بمسائل أصول الدين بالمعتقد.
وهذه الكلمة من جهة اللغة تدل على ما يقع في القلب من المعاني والعلم، فإن الاعتقاد محله القلب.
ونحن نعلم أن الأصول الشرعية التي يقال: إنها أصول الدين، ليست بالضرورة مقصورةً على المحال القلبية وحدها.
وهذا يستدعي أن نعلق على مسألة شاعت في كتب المتأخرين ممن كتب في أصول الدين أو مسائل أصول الفقه ونحوها، وهي تقسيم الدين إلى أصول وفروع.
1 / 4
مسألة تقسيم الدين إلى أصول وفروع
نذكر قاعدة بين يدي هذا التقسيم، وهي أن جمهور التقاسيم سواء كانت في باب الاعتقاد أو باب الشريعة فضلًا عن مسائل العلم الأخرى كمسائل اللغة ونحوها، جمهور هذه التقاسيم اصطلاح، فينظر إليها باعتبار المعاني، أما باعتبار الألفاظ، فإن الأصل أنه لا مشاحة في الاصطلاح.
ولكن الشأن يكون باعتبار معانيها، فهل هذه الألفاظ والمصطلحات وضعت لها معانٍ مناسبة للمعاني الشرعية التي بعث بها النبي ﵊ أم لا؟
هناك أمثلة كثيرة: كتقسيم الدين إلى أصول وفروع، وكمسألة الحقيقة والمجاز، والآحاد والمتواتر، وغير هذه التقاسيم، وإنما ذكرت هذه التقاسيم الثلاثة؛ لأنه يقع خلط كثير بين القول فيها باعتبارها ألفاظًا ومصطلحات، وباعتبار كونها من عوارض المعاني.
فنقول: تقسيم الدين إلى أصول وفروع، أو القول بمسألة الحقيقة والمجاز، أو القول بمسألة تقسيم السنة إلى آحاد ومتواتر، النظر في هذا باعتباره من عوارض الألفاظ يقال: إن الأصل أنه لا مشاحة في الاصطلاح، ولكن النظر يكون باعتبارها من عوارض المعاني؛ فمن قسم الدين إلى أصول وفروع، قيل له: هذا مصطلح أمره يسير، أما من جهة المعاني، فإن ثمة إجماعًا بين المسلمين أن الدين ليس درجةً واحدة، بل منه مسائل كلية، ومنه ما دون ذلك، ومنه ما هو ركن، ومنه ما هو واجب، ومنه ما هو مستحب، وأن ثمة مسائل تسمى أصول الدين، ومثل هذا المعنى متفق عليه بين سائر المسلمين على اختلاف طوائفهم؛ فإن النبي ﷺ -بل وجميع الأنبياء والمرسلين- بيّن هذا الأمر.
وقد تكلم شيخ الإسلام وطائفة في نقض هذا التقسيم، لكن هذا لا يعني أنهم لا يصوبون أن تسمى مسائل توحيد الألوهية والأسماء والصفات وإثبات أن الله فوق سماواته مستوٍ على عرشه بمسائل أصول الدين؛ فإن تسميتها بمسائل أصول الدين مجمع عليه بين المسلمين، ولا ينازع فيه أحد.
وإنما تكلم شيخ الإسلام في نقض هذا التقسيم باعتباره من عوارض المعاني، فإن من استعمله وضع له حدًا -أي معنى- ليس مناسبًا للاعتبار الشرعي، وإن شئت فقل: ليس مناسبًا للحد الشرعي.
وذلك أن أول من اشتغل بهذا التقسيم ليس أئمة السنة والجماعة، بل طوائف من أئمة النظر من المتكلمين ومن اشتغل بشأنهم من الفقهاء ممن كتبوا في أصول الفقه أو في فقه الشريعة، فصاروا يقولون: إن الأصول هي المسائل المعلومة بالسمع والعقل، ويقصدون بالسمع الكتاب والسنة، والفروع هي المسائل التي دليلها السمع وحده.
ومن الحدود المشهورة في كتبهم -أيضًا- أنهم يقولون: إن مسائل الأصول هي المسائل العلمية، ومسائل الفروع هي المسائل العملية
إلى غير ذلك من الحدود.
فهذه الحدود لا شك أنها حدود باطلة؛ فإنه لا يصح أن يقال: إن مسائل الأصول هي ما دل عليه السمع والعقل، والفروع هي ما دل عليه السمع وحده، فإن ثمة مسائل في أصول الدين لم تعلم إلا بالسمع وحده، والعقل لا يحيلها، ولكنه لا يدل عليها كمسائل الغيب المحضة، فإنها مسائل علمت بالسمع، والعقل لا يدل عليها، فإن النبي ﵊ لو لم يحدث بأن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، لم نعلم ذلك؛ لأن هذه المسألة لا يدركها العقل ولا يعلمها قبل ورود خطاب الشرع.
إذًا: ثمة مسائل في أصول الدين في باب الأسماء والصفات والشفاعة والغيب واليوم الآخر والقدر وما إلى ذلك ليست معلومةً إلا بالسمع، والعقل لا يدل عليها، وإن كان لا يجحدها.
والعكس كذلك؛ فإن ثمة مسائل معلومة بالسمع والعقل وهي لا تعد من مسائل الأصول، بل تعد من مسائل الفروع أو مما هو دون الأصول.
أما قول من قال: إن مسائل الأصول هي المسائل العلمية -وهذا يوافق التعبير الذي يقول: هي مسائل الاعتقاد- وأن المسائل العملية لا تكون داخلةً في مسائل أصول الدين ..
فهذا غلط أيضًا؛ لأنه لا يطرد، فإن ثمة مسائل علمية -أي: مسائل محلها عقد القلب- ومع ذلك ليست من الأصول بإجماع السنة والجماعة، بل بإجماع المسلمين أنها ليست من مسائل أصول دينهم، ومن ذلك مثلًا: الاختلاف الذي وقع بين الصحابة في سماع الميت لصوت الحي، فإن هذه مسألة علمية محلها عقد القلب، ولكن بالإجماع لا تعد من مسائل أصول الدين.
وثمة مسائل عملية تعد بإجماع المسلمين من مسائل أصول الدين كمسألة الصلاة والزكاة والحج، فإنها أركان في الدين وأركان في الإسلام.
فهل يصح أن يقال: إن الدين ينقسم إلى أصول وفروع؟
الجواب: التقسيم باعتباره اصطلاحًا لفظيًا لا بأس به، لكن بشرط أن ينزل على معنىً مناسب، وحين يقال: لا بأس به ..
فهذا من باب الجواز، وليس من باب أن هذا التقسيم يقصد إلى تقريره وذكره في مسائل أصول الدين أو في تقرير طريقة أهل السنة والجماعة أو منهجهم، لكنه أمر واسع لا ينبغي الإغلاظ في شأنه.
وأما أن هذا التقسيم بدعة، فنقول: إنه لا يكون بدعة إلا إذا قصد منه معنىً لا يكون مناسبًا؛ وإلا فهو من حيث الجملة لا بأس بإطلاقه، وإن كان لا يقصد إليه، فإن السلف لم يقصدوا إلى ذكره والتحدث بلغته.
1 / 5
مسألة تقسيم السنة إلى متواتر وآحاد
تقسيم السنة إلى متواتر وآحاد هو تقسيم وارد في الكتب المتأخرة لعلم مصطلح الحديث.
وقد وقع في كلام بعض المتقدمين كالإمام الشافعي ﵀ ذكر متواتر السنة، ولكن التقسيم الذي وجد في كتب أصول الفقه ودخل على كتب المصطلح المتأخرة هو تقسيم باعتبار حده لا أصل له.
ذلك أنهم يقولون في حد المتواتر: هو ما رواه جماعةٌ عن جماعةٍ يستحيل تواطؤهم على الكذب.
واختلفوا في هؤلاء الجماعة كم يكون عددهم، لكن جمهور ما يذكرونه يقارب العشرة، فعلى قولهم: لا يكون الحديث متواترًا عن النبي ﷺ إلا إذا رواه عنه من الصحابة عشرة، ورواه عن كل واحد من العشرة عشرة، إما من صغار الصحابة وإما من التابعين، ورواه عن كل واحد من هؤلاء المائة عشرة بحيث يصل العدد إلى ألف.
والسوء في هذا الحد في نتيجته أيضًا، فإنهم قالوا: إن الاعتقاد لا يحتج فيه إلا بمتواتر.
وهذا الكلام الذي وضعه أئمة النظار من المعتزلة ومتكلمة الصفاتية، حقيقته إبعادٌ للسنة في الجملة عن الاستدلال في مسائل أصول الدين ..
فإنه لا ينطبق شرط المتواتر اللفظي إلا على عدد قليل جدًا من الأحاديث، لهذا نجد أن أهل المصطلح -كـ ابن الصلاح ونحوه- البعيدين عن شر هذا العلم الكلامي المقاربين للسنة والجماعة لا يتعرضون لذكر هذا الحد؛ لأن مثاله إن لم يكن معدومًا، فإنه يسير جدًا.
وهذا يلخص نتيجة: أنه ليس هناك متواتر لفظي من كلام الرسول ﷺ إلا جملة يسيرة من الأحاديث، وهذا على أحسن تقدير إن لم نقل: إنه لا مثال له من جهة السنة، فهو إن ثبت فله مثال أو مثالان أو أمثلة ليست بالكثيرة، وهذا يستلزم أن جمهور كلام النبي ﵊ الذي اتفق المحدثون عليه، واتفق عليه الصحابة، بل واتفقت عليه الأمة -لولا مخالفة هؤلاء النظار- والذي هو مبنى معتقدها مع كلام الله ﷾؛ أنه لا يصلح حجة في مسائل الاعتقاد ومسائل أصول الدين.
ونحن إذا بحثنا عن أصل الانحراف الذي وقع في مسائل أصول الدين عند المسلمين وجدناه في الإعراض عن سنة النبي ﷺ.
فإن أول انحراف وقع في مسائل أصول الدين هو قول الخوارج الذين ظهروا في آخر خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ﵁، والذين حدث النبي ﵊ بشأنهم، وذكرهم الرسول ﵊ فيما تواتر عنه، حتى قال الإمام أحمد: (صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه).
وقال شيخ الإسلام: (إن حديث الخوارج متواتر).
وقال فيهم النبي ﷺ: (إنه يخرج من ضئضئ هذا -أي: ذي الخويصرة - قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وقراءتكم مع قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) وكان أول هؤلاء ظهورًا هو هذا الرجل الذي قام بين يدي النبي ﵊ وطعن في السنة، والسنة هنا هي قسمه ﷺ للذهب الذي بعثه علي بن أبي طالب ﵁ من اليمن، فقام هذا الرجل وطعن في قسم النبي ﷺ، لما قسمه الرسول ﷺ بين أربعة نفر، وحقيقة هذا الطعن أنه طعنٌ في السنة النبوية.
كذلك لما ظهر هؤلاء القوم الذين حدث النبي بشأنهم، كان أخص ما فارقوا به أصول المسلمين أو استوجب مخالفتهم لمعتقد الصحابة ﵃ هو عدم أخذهم بسنة النبي ﷺ، فإنهم أخذوا جملًا مجملةً من القرآن كقول الله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ [آل عمران:١٩٢] وكقوله: ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا﴾ [السجدة:٢٠] ونحو ذلك، وتركوا مفصل السنة الذي ذكره الرسول ﷺ بشأن الجهنمية، مع أن الصحابة كانوا يحدثون به بين ظهرانيهم.
وهذا يقود إلى نتيجة: وهي أن نظرية تقسيم السنة إلى آحاد ومتواتر، والتي هي مذكورة في كتب أصول الفقه وكتب المتكلمين في أصول الدين، ودخلت على الكتب المتأخرة في علم مصطلح الحديث ..
هذه النظرية يظهر تطبيقها جليًا في أفعال الخوارج وأقوالهم؛ فإن الخوارج لم يعتبروا هذه النصوص، وإنما اعتبروا القرآن وحده، فكأنهم يقولون: إنه لا يحتج بهذه النصوص التي رواها الصحابة لكونها ليست قطعية ..
ولأنه قد يدخلها الخطأ
إلى غير ذلك.
فلما ظهر علم الكلام في قرن التابعين، وظهر النظار، كتبوا هذه النظرية التي رافقت بعض ألفاظها ألفاظًا تكلم بها أئمة الحديث من المتقدمين، فإن لفظ التواتر ولفظ الواحد من الألفاظ المستعملة في كلام متقدمي أئمة الحديث، فلما تشابهت الألفاظ لم يتبين كثيرٌ من المتأخرين الحد الذي يقصده المتقدمون من أئمة الحديث بلفظ الواحد من الحديث أو ما رواه الواحد، فإنهم لا يقصدون بما رواه الواحد ما تقصده أئمة النظار بالآحاد، وكذلك المتواتر الذي ذكره الشافعي وغيره لا يقصدون به المعنى الذي يذكره النظار من المتكلمين.
إذًا: هذا الحد لا شك أنه حد باطل؛ لأنه يستلزم أن جمهور السنة النبوية لا يصح أن يحتج بها في مسائل الاعتقاد، وهذا مبني على مسألة، وهي أن مسائل الاعتقاد لا بد أن تكون قطعية، وأن القطعي: هو الذي يثبت بعلمٍ قطعي، وأن العلم القطعي لا يثبت إلا بالمتواتر الذي شرطه أن يكون رواه جماعةٌ عن جماعة
إلخ، وأما ما عدا ذلك من الرواية والبلاغ والخبر فإنه يكون ظنيًا، والظن لا يناسب أن يكون معتقدًا للمسلمين.
ولا شك أن هذه الحدود وهذه التقارير لا تصح؛ فإن سائر معتقد أهل السنة والجماعة -ولا شك- ثبت بعلمٍ قطعي، ولكن الاختلاف مع هؤلاء النظار ليس في هذا، وإنما فيما يثبت به العلم، وما يكون دون ذلك من الظن، فإن المتفق عليه بين السلف أن الحديث إذا اتفق عليه المحدثون، وجرى عليه الصحابة ﵃، ولم يقع بشأنه اختلاف، فإنه يفيد علمًا ضروريًا قطعيًا، وإن كان مخرجه من جهة الرواية عن الرسول ﵊ من جهة رجل أو رجلين أو نحو ذلك.
1 / 6
فقه الأسماء الشرعية
مسألة الأسماء -ولا سيما الأسماء الشرعية فضلًا عن الأسماء الاصطلاحية- لا بد لطالب العلم أن يفقهها.
فإن جمهور الاختلاف -كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ الذي وقع في مسائل أصول الدين؛ بل وفي مسائل الشريعة بين كثير من المتأخرين يرجع إلى عدم فقه الأسماء الشرعية.
أن المتتبع لنصوص القرآن يجد فيها إشارة إلى أن العلم ليس بلازم لقيام الحجة، وإنما يكفي مجرد السماع والبلاغ، فإن الله ﷾ وصف المشركين بالجهل، وبأنهم لا يسمعون، فقال ﷾: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا﴾ [الأعراف:١٧٩] وقال تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج:٤٦] وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك:١٠] فهذه النصوص تبين: أن قيام الحجة على الكافر لا يلزم له العلم، وإنما مجرد السماع، وأما فقه النص وفهم المراد من الخطاب فإن هذا ليس بلازم؛ لأن الله كفر المشركين من العرب ووعدهم سقر مع أنه وصفهم بأنهم لا يعلمون وبأنهم لا يسمعون ولا يعقلون
إلى غير ذلك.
ثم نجد أن الله ﷾ في القرآن نفسه يقول عن هؤلاء الكفار: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [البقرة:١٤٦] وهذا يدل على أن القوم ليس فقط عندهم معرفة مجملة، بل -أيضًا- معرفة مفصلة.
ويقول الله تعالى عن أخص من أظهر الكفر برب العالمين وهو فرعون ومن معه: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾ [النمل:١٤] فكيف يوصف من عندهم اليقين -يقين النفس- ومن عندهم المعرفة التي كمعرفتهم لأبنائهم بأنهم لا يعلمون؟!
فقد يظن باعتبار فساد ذوق اللغة وعدم فقه الأسماء الشرعية وسياقها في كتاب الله وسنة نبيه ﷺ أن هذا من باب التناقض، وأن وصف الإنسان بكونه مستيقنًا يتناقض مع وصفه بكونه جاهلًا لا يسمع، ولا يعقل.
وبعض الناظرين من غير أولي التحقيق قد يظن أن قيام الحجة لابد فيه من الإدراك والفهم والفقه، ويستدل بمثل قول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [البقرة:١٤٦] وبقوله تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾ [النمل:١٤].
وبعضهم يذهب إلى الرأي الآخر، فيقول: إن الله سبحانه قال عن المشركين: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ﴾ [الفرقان:٤٤] فمعناه: أنه لا يلزم لقيام الحجة على الكافر أن يكون يسمع.
وقال بعض المعاصرين ممن تكلم في هذه المسألة: إن الله سبحانه يقول: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ﴾ [الفرقان:٤٤] كما لو أن بعضهم عنده إدراك، وبعضهم ليس عنده الإدراك للفقه، لكن مع ذلك قضى بكفر الجميع؛ لأن السياق: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ﴾ [الفرقان:٤٤] فمعناه: أن ثمة معشرًا منهم يسمعون ويعقلون.
وكل هذا الاختلاف والاضطراب وتوهم التناقض في الآيات القرآنية راجع إلى عدم فقه المصطلحات القرآنية: (لا يعلمون) (لا يفقهون) (لا يسمعون).
فهذه الأسماء الشرعية لابد من فقهها، وجمهور الاختلاف إنما دخل على الناس في مسائل أصول الدين بل وفي غيرها من عدم فقههم لها.
1 / 7
شروط أولي التحقيق والفقه للأسماء الشرعية
هذه الأسماء الشرعية لا يكون التحقيق فيها إلا لمن اجتمع له شرطان:
1 / 8
الشرط الأول: الفقه
الشرط الأول: الفقه، أي: يكون فقيهًا، حسن النظر، حسن التأمل، ولا يقع هذا إلا لمن أحسن التدبر لكتاب الله ﷾ ..
فإن هذه المسائل ليست مسائل جزئية مصنفة في كتب الفقه: كمسألة الوضوء من لحم الإبل، أو زكاة الحلي، أو الوقوف في عرفة إلى الغروب، فهذه مسائل يسهل النظر فيها، والخطأ فيها يسير، والوصول إلى محصل الأقوال والدليل فيها يقع ببحث يسير.
لكن هذه المسائل الاستقرائية كمسائل الأسماء الشرعية وسياقها في كتاب الله ﷾، وفي سنة نبيه ﷺ لابد فيها من فقه، ومن لم يكن له فقه فإنه يختلط ولا بد.
1 / 9
الشرط الثاني: الاتباع
الشرط الثاني: الاتباع، فمن كان من أولي الفقه ولكنه ليس من أهل الاتباع فإنه يختلط، وأحيانًا تنغلق عليه النصوص، فلربما ألزم نفسه بفقهٍ انتحله لنفسه؛ لأنه يرى أن هذا هو الاقتداء بقول الله سبحانه ورسوله ﷺ، وإن خالف من خالف.
وهذا المزلق من أخص مزالق الانحراف.
فإنه -لا شك- أن الاعتبار بكلام الله سبحانه ورسوله ﷺ، لكن يمتنع شرعًا أن يكون ما يجب اعتباره من كلام الله ورسوله مخالفًا لهدي الصحابة وهدي السلف ﵃.
ولهذا نجد أن حماد بن أبي سليمان لما قصر في مسألة الاتباع، وتأمل بنفسه مسألة الإيمان، وجد أن الله في القرآن يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [البقرة:٢٧٧] ففرق بين الإيمان وبين العمل، فظن أن هذا يعني أن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان.
قد يقول قائل: إن هذا ليس بحجة له؛ لأن هذا من باب عطف الخاص على العام.
أقول: هذا جواب معروف ذكره جماعة من علماء السنة، لكنه إن لم يكن ضعيفًا فإنه ليس قاطعًا في الحجة.
وشيخ الإسلام ابن تيمية نفسه لا يستحسن هذا الجواب عند التحقيق، ويرى أن التحقيق في غيره، وسيأتي -إن شاء الله- الجواب المحقق عن هذا في مورده.
وإذا نظرت إلى كلام النبي ﵊ وجدت مواضع لا يفهمها إلا أهل التحقيق من أولي الفقه والاتباع؛ ففي حديث جبريل يقول ﷺ: (هو أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره).
لكنه ﷺ لما جاءه وفد عبد القيس -كما في حديث ابن عباس في الصحيحين وجاء من رواية أبي سعيد عند الإمام مسلم - قال: (آمركم بالإيمان بالله وحده، هل تدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم).
فذكر لهم ما فسر به الإسلام في حديث جبريل، وهذا يدل أن جوابه ﷺ يقع فيه هذا التنوع.
أيضًا يقول ﷺ -كما في حديث عثمان ﵁ في الصحيح-: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة).
أيضًا جاء في الصحيحين عن أبي ذر ﵁، أنه قال: (أتيت النبي ﷺ وهو نائم عليه برد أبيض، فأتيته فإذا هو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ فجلست إليه، فقال: ما من عبد قال: لا إله إلا الله -وفي لفظ: يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله- إلا حرم الله عليه النار، قلت: يا رسول الله! وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر) وفي رواية: (وإن شرب الخمر).
وفي حديث محمود بن الربيع عن عتبان بن مالك في الصحيحين لما دخل النبي ﷺ دار عتبان وقد ضعف بصره واتخذ مكانًا يصلي فيه، فطلب من الرسول أن يصلي فيه تبركًا بأثره الحسي في حياته ﵊، فجاء النبي يصلي فيه ومعه معشر من الصحابة، والرسول في صلاته في بيت عتبان، قال: فوقعوا في مالك بن الدخشم، وهو رجل طعن فيه بعض الصحابة بالنفاق، ثم برأه الرسول ﷺ، قال: ودوا أنه دعا عليه فهلك، وودوا أنه أصابه شر، فلما قضى النبي ﷺ صلاته لم يقل: إني أعرف الرجل، ولم يشر إلى حقيقة تختص بـ مالك بن الدخشم، وإنما قال: (أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطاله).
فذكر ﵊ في سنته وعدًا.
ولما ذكر الوعيد قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) وفي حديث ابن مسعود ﵁: (لا يدخل الجنة قتات) وفي الصحيح: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة) وفي الحديث في البخاري: (عبدي بادرني بنفسه -لما قتل نفسه- حرمت عليه الجنة) بل في الصحيحين عن أبي هريرة ﵁: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا) وإن كان لفظ التأبيد ليس محفوظًا على الصحيح.
في حديث سعد بن أبي وقاص في الصحيحين لما قال: (يا رسول الله! أعط فلانًا فإنه مؤمن.
قال النبي ﷺ: أو مسلم؟!) لا تقل: مؤمن: ﴿قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات:١٤].
ومع ذلك يقول الله تعالى في من قتل عمدًا: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ [البقرة:١٧٨].
ويقول الله تعالى: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ [النساء:٩٢] ويدخل فيها الفاسق بإجماع المسلمين.
وقد ذكر الله المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار، فقال تعالى عنهم في سورة التوبة: ﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ﴾ [التوبة:٥٦] وفي سورة الأحزاب قال تعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ﴾ [الأحزاب:١٨] فأدخلهم في سورة الأحزاب بالإضافة وأخرجهم في سورة التوبة، لم يدخلهم في سورة الأحزاب فحسب؛ بل قال: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ﴾ [الأحزاب:١٨].
والمقصود: أن هذه السياقات الواردة في الوعد والوعيد والأسماء والأحكام وأسماء الإيمان والدين لابد من فقهها.
ومن التمس وجهًا واحدًا، فإنه يقع إما في الإفراط إن أخذ بعض النصوص التي تقوده إلى الإفراط، كمن لم يعرف من كلام الله سبحانه وكلام نبيه ﷺ في الوعيد إلا مثل قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا﴾ [النساء:١٤] وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء:١٠] وما إلى ذلك من أحاديث الوعيد التي سبق الإشارة إلى شيء منها ..
فإنه يقع في الإفراط ولا بد؛ لأنه يرى أن هذه هي النصوص.
وكذلك: من لم يعرف إلا نصوص الوجه الآخر، فإنه يقع في التفريط في هذا الباب؛ وهذا الباب قد انضبط الجمع فيه، ودُرئ الإفراط والتفريط في نتائجه المقولة في الآخرة من جهة الخلود في النار أو عدمه.
ولكن الذي يقع به وهم عند بعض المتأخرين وبعض المعاصرين هو في تقدير مسائل الكفر والتكفير وقيام الحجة وعدم قيام الحجة، فإنه يقع نزاع في مسائل لم تنطق بها النصوص أصلًا، كمسألة فهم الحجة هل يشترط؟ على قولين: القول الأول: أنه يشترط، والقول الثاني: أنه لا يشترط، وهذا كله من التكلف اللفظي.
والمعاني الشرعية -ولا سيما هذا المعاني الكبار- إنما تعتبر بحقائقها التي تجمع تحتها سائر النصوص التي قد تبدو لمن ليس له فقه أن ظاهرها التعارض.
1 / 10
شرح العقيدة الواسطية [٢]
سنة الله الجارية في خلقه أن يفترقوا إلى فرق ومذاهب شتى، وقد حصل هذا الافتراق في هذه الأمة، كما حصل عند من سبقها من يهود ونصارى، لكن لا تزال في الأمة المحمدية الفرقة الناجية، وهي أوسط الفرق وأعدلها.
2 / 1
افتراق المسلمين إلى فرق ومذاهب
قال المصنف: [أما بعد ..
فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة].
النبي ﵊ بيَّن أن أمته ستفترق، وهذا متواترٌ عن الرسول ﵊، تلقته الأمة -أعني: أهل السنة والجماعة- بالقبول، ولم ينازع فيه أحد من أئمة الحديث، فإنه تواتر عن النبي ﷺ من رواية جماعة من الصحابة: (أنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة)، وفي وجه: (حتى يأتي أمر الله).
هذا الحديث المتواتر عن النبي ﷺ المتلقى بالقبول يدل على أن ثمة افتراقًا سيحدث.
أيضًا ذكر النبي ﷺ الاختلاف في نصوص كثيرة، كقوله ﷺ -كما في الصحيحين-: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق).
فمثل هذا النص وما في معناه يدل على أن ثمة افتراقًا.
أيضًا الاختلاف والافتراق من جهة الوقوع لا أحد ينكره، فإن الأمة وقع فيها افتراق واختلفت، وصار فيها طوائف متحيزة لمذاهبها وأصولها.
فمثل هذا مما لا ينبغي إنكاره أو التكلف في إنكاره.
وقد جاء عن النبي ﷺ -فيما رواه أهل السنن وغيرهم من حديث أبي هريرة وأنس ﵄ أنه قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة) وهذا الحديث لا يختص وحده بذكر مسألة الافتراق في هذه الأمة، وقد أخرت ذكره؛ لأن فيه طعنًا من جهة صحته.
لكن من أراد أن يرفع هذا الافتراق، ويقول أنه لا وجود له، وأن الأصول السلفية وغير السلفية لا فرق بينها، وإنما هذا اجتهاد للمحدثين، وهذا اجتهاد لبعض النظار ..
وهلم جرا، ويدفع ذلك بأن الحديث المروي في الافتراق -وهو حديث: (افترقت اليهود
إلخ) - حديث ضعيف ..
فقد جاء أمرًا متكلفًا وارتكب شططًا؛ فإنه لو سلم جدلًا أن الحديث ضعيف -ليس بَيِّنَ الصحة والثبوت، وإن كان الأظهر فيه أنه ثابت- فإن الحكم لا يختلف؛ لأن الحديث المتواتر بيَّن أن الأمة سيقع فيها اختلاف، وأن طائفةً منها ستختص بالصواب، وإن كان اختصاصها بالصواب لا يلزم منه أن سائر ما يقع لغيرها من الأقوال والأفعال يكون باطلًا، بل يقع لهم قدر من الصواب إما مجملًا وإما مفصلًا، ولكن الذي اقتدى بسنة النبي ﷺ على تفصيلها هم أصحاب هذه الطائفة الناجية المنصورة.
2 / 2
الفرقة الناجية من فرق المسلمين
هذه الطائفة ليس لها اختصاص بزمانٍ أو مكان أو جهة علمية كالحديث أو الفقه أو نحوه، إنما جاء في خصائصها أنها متبعة لكتاب الله ﷾ ولسنة نبيه ﷺ، فكل من اعتبر هذين الأصلين ولم يخرج عنهما إلى غيرهما، ولم يتكلف إفساد شيء منهما، فإنه يكون منها؛ فإنه ليس هناك طائفة من طوائف أهل القبلة الخارجة عن السنة والجماعة تعتبر هذين الأصلين.
ويقع عند بعض العلماء الكبار من المحققين المعاصرين أنهم يضيفون -كثيرًا-: فهم السلف الصالح، وهذه الإضافة إضافة حسنة في الجملة -ليس المقصود الاعتراض عليها- لكنها ليست شرطًا لابد من ذكره.
فإذا قيل: إن الطائفة الناجية المنصورة إنما هي معتبرة بالكتاب والسنة لكان هذا كافيًا.
وقد يقول قائل: إن كثيرًا من الفرق الإسلامية تقول: إنها على الكتاب والسنة، ولكن لا أحد منها يقول: إنه على فهم السلف.
فأقول: إن الاستقراء الدقيق لسائر هذه الطوائف بلا استثناء يُعلم به أنه ليس هناك طائفة تعتبر أقوالها بالكتاب والسنة وحدهما؛ إنما يقع أحد أمرين: إما أن هذه الطائفة تجعل مع الكتاب والسنة أصولًا في الاستدلال، وهذا وقعت فيه جمهور الطوائف المخالفة للسنة والجماعة، وإما -وهو حال معتقدي المخالفين من الطوائف- أنهم لم يدخلوا أصولًا في الاستدلال إلا أنهم لا يعتبرون دلالة الكتاب والسنة على الإطلاق، كقولهم أن خبر الآحاد لا يحتج به في الاعتقاد.
قد يقول قائل: إن التفسير لهذا الكلام حقيقته فهم السلف الصالح.
فنقول: نعم، ومن هنا نقول: إن من أضاف هذا القيد فقد أضاف كلامًا حسنًا، وكأنه -بحسب الحدود المعروفة في المنطق- قيدٌ بياني؛ وذلك لأن إجماع السلف الصالح لا يخرج عن الكتاب والسنة، فإذا قلت: إن معتبر هذه الطائفة هو الكتاب والسنة فقد أصبت، وإذا قلت: إن معتبرها الكتاب والسنة والإجماع فقد أصبت.
وقد ورد هذا التنوع في كلام السلف من الصحابة والأئمة، فإننا نجد أنهم يذكرون الكتاب والسنة تارة، وتارة يذكرون الكتاب والسنة والهدي أو الإجماع، أو ما إلى ذلك من الأحرف المعبرة عن هذا المعنى الفاضل.
وهذه الطائفة مختصة بهذا الأمر، وهو أنها معتبرة بدليل الكتاب والسنة، وهي الطائفة الناجية -أي: من عذاب الله ﷾ وهي المنصورة، وكأن لفظ النجاة -والله أعلم- إشارة إلى نجاتها في الآخرة، ولفظ النصر إشارة إلى حالها في الدنيا، وكأن هذا هو موجب هذا التعبير وهذا التعبير، وليس هناك اختصاص لهذه الفرقة الناجية عن الطائفة المنصورة أو عكسه.
2 / 3
شرح قول المصنف: (إلى قيام الساعة)
قال المصنف: [أما بعد ..
فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة].
قوله: "إلى قيام الساعة" لأن النبي ﷺ بيَّن: (أنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر الله)، وفي رواية: (حتى تقوم الساعة).
مع أنه صح عن النبي ﷺ -في الصحيح وغيره- أنه قال: (أن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق)، ولا تقوم حتى لا يقال في الأرض: (الله الله) وهذا من التعبير العربي الواسع، فإن قوله: (حتى تقوم الساعة) ليس بالضرورة أن يدل على أن الساعة تقوم عليهم، بل عند قيامها؛ فإن من أمارات الساعة الريح التي يبعثها الله ﷾؛ فتأخذ نفوس المؤمنين، حتى يبقى الكفار فعليهم تقوم الساعة.
فهذا معنى قوله ﷺ: (حتى تقوم الساعة)، وبهذا يتبين أنه ليس معارضًا لخبره: (أن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق).
2 / 4
شرح قول المصنف: (أهل السنة والجماعة)
قال: [أما بعد ..
فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة].
أهل السنة: أي هم المتمسكون بسنة النبي ﷺ.
قد يقول قائل: لِمَ لم يقل: أهل القرآن؟
الجواب: أنه ليس المقصود بالسنة هنا الحديث الذي هو كلام الرسول ﷺ، بل معنى السنة هنا أعم من ذلك، فإنه يراد بالسنة في هذا السياق ما بعث به النبي ﷺ، فسنة المرسلين هي رسالتهم، ويمكن أن يقال: إن أهل السنة هنا بمنزلة أهل الرسالة، فقوله: (أهل السنة) أي: المتمسكون بسنة النبي ﷺ، وسنته ليس فقط ما قاله ﷺ، بل ما بعث به، وأخصه القرآن الذي هو كلام الله ﷾، ثم ما أوحاه الله ﷾ إلى نبيه من الأقوال، وكذلك ما وقع له ﷺ من الأفعال الشرعية.
قوله: "والجماعة" يقع في كلام بعض المتكلمين وأهل البدع أن هذا الاسم -يعنون "الجماعة"- دخل عليهم لما اجتمع الناس على معاوية ﵁، وهذا كله تكلف، فإن الجماعة لفظٌ شرعي، فقد قال الله ﷾: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران:١٠٣] فيقصد بالجماعة الاجتماع.
وفي هذا إشارة إلى أن الإصابة الشرعية معتبرة بشرطين:
الأول: الفقه ..
وهذا ما يمكن أن نعبر عنه بقول المصنف: "السنة".
الثاني: الاتباع أو الاقتداء، وهو قوله: "الجماعة".
وهذا يستلزم نتيجةً شرعية لا بد من فقهها: أن ثمة تلازمًا بين السنة والاجتماع، أو أن ثمة تلازمًا بين الفقه وبين الاتباع ..
وهلم جرًا من المعاني.
فمن اختص بفقه -ولاسيما في المسائل العامة التي تكلم فيها السلف- ليس عليه أثر صريح من كلام السلف فإنه ينكر عليه مهما أظهر للناظر أو للسامع أنه بناه على النصوص، وهذه النصوص من لم يفقهها فإنه يقع له اختلاطٌ كثير، ليس في مسائل الفقه، بل في مسائل فوق ذلك.
وأضرب لذلك مثلًا:
ذكر النبي ﷺ الخوارج فوصفهم بقوله المتواتر عنه: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر -أي: الرامي- إلى نصله فلا يجد فيه شيئًا، ثم ينظر إلى رصافه فلا يجد فيه شيئًا، ثم ينظر إلى قذده فلا يجد فيه شيئًا، قد سبق الفرث والدم، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) وفي وجه: (قتل ثمود) وفي وجه: (قاتلوهم؛ فإن لمن قاتلهم أجرًا عند الله) وفي وجه: (لو يعلم المقاتل لهم ما أعد له لنكل عن العمل).
فهذه الأحرف النبوية قد تقود الناظر فيها ابتداء -ولا سيما أنهم خرجوا على المسلمين، وكفروهم واستباحوا دماءهم، وأنهم لم يعتبروا حديث النبي ﷺ إلى أن هؤلاء قومٌ كفار، وأن الذي كفرهم هو الرسول ﵊؛ لأنه قال: (يمرقون من الدين) ليس أي مروق، بل: (كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله ..
قد سبق الفرث والدم) كالسهم إذا دخل رمية فخرج وليس فيه أي أثر لفرث أو دم، وكأنهم خرجوا من الإسلام لم يبق معهم منه أي أثر.
فالأحرف فيها كنايات قوية في ذمهم وفي مروقهم وبعدهم عن السنة وما بعث به النبي ﷺ.
لكن الصحابة ﵃ مع كل هذه النصوص لم يتطرق -حسب ما نقل في الرواية- إلى صحابي واحد أن النبي ﷺ قصد تكفيرهم، فإنهم لما ظهروا بآيتهم الحسية وبقتالهم للمسلمين، وبتكفيرهم لأئمة الصحابة الذين أدركوهم، وبسلهم السيف على المسلمين، لم يختلف الصحابة في قتالهم، لكن لم ينقل أي اختلاف عن الصحابة في كونهم ليسوا كفارًا، فقد أجرى فيهم علي بن أبي طالب والصحابة معه رضوان الله عليهم أجمعين سنة المسلمين، فلم يجهزوا على الجريح، ولم يتبعوا المدبر، ولم يغنموا الأموال، ولم يسبوا النساء والذراري.
بل لما قتل أحدهم عليًا ﵁، وأدخل علي الدار قال: (إن مت فاقتلوه، وإن حييت فأنا ولي الدم).
فقوله ﵁: (فإن حييت فأنا ولي الدم)، يدل على أن الرجل مسلم؛ لأنه لو كان كافرًا مرتدًا لم يكن لـ علي ﵁ ولاية في دمه، ولكان حكمه القتل مطلقًا: (من بدل دينه فاقتلوه)، وهذا ليس توانيًا من علي ﵁؛ فإنه لما ظهر الكفر الصريح البواح ما تردد ﵁ -بل ربما فعل أمرًا عده بعض الصحابة من الزيادة- في قتل من أظهره، فإنه لما ظهر المؤلهة التناسخية -وهي فكرة زندقية فلسفية نقلت من بلاد فارس وأدخلها قوم يظهرون التشيع، وليس لها أثارة لا في العقل ولا في الشرع ولا حتى في ديانة أهل الكتاب- وألهوا علي بن أبي طالب ﵁، أحرقهم بالنار، فاعترض ابن عباس ﵄ وطائفة على مسألة الإحراق، وقال ابن عباس ﵄ -كما في البخاري -: (لو كنت أنا لم أحرقهم، ولقتلتهم؛ لأن النبي ﷺ يقول: من بدل دينه فاقتلوه).
فهذا الباب يحتاج إلى فقه واسع، ومن العجب أن ترى بعض طلبة العلم لا يجزم في بعض المسائل -وهي مسائل فقهية مفصلة- ويقول: إني متوقف فيها، مع أنها مسائل قد درست وصرح بدراستها، وضبطت في كتب الفقهاء.
لكن تراه في هذه المسائل الاستطرائية وفي شأنها تخبط كثير، إفراطًا وتفريطًا فإن التفريط فيها ليس بعيدًا من جهة قدره وانتشاره عن الإفراط، فالإفراط موجود ولكن التفريط والتقصير في تحقيق هذه المسائل موجود أيضًا.
2 / 5
أصول أهل السنة والجماعة في أصول الإيمان
[وهو: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره].
قصد المصنف ﵀ أن يكون ما يذكره في معتقد أهل السنة والجماعة من باب التفصيل للإيمان الذي بينه النبي ﷺ في حديث جبريل؛ فإن هذه الأصول من الإيمان هي التي ذكرها الرسول ﵊ في حديث جبريل لما فسر الإيمان، ومن هنا فإن سائر جمل المصنف التي يذكرها في باب الأسماء والصفات أو في باب الإيمان ومسماه، أو باب القدر، أو باب اليوم الآخر؛ هي داخلة في الإيمان بالله؛ فإن الإيمان بجميع ما هو من شرع الله ﷾ -العلمي والعملي- من الإيمان به ﷾.
كذلك سائر هذه التفاصيل التي يذكرها المصنف ﵀ هي من الإيمان بالكتب، ومن الإيمان بالرسل؛ لأن الدلالات يتنوع موردها، فقد يدل السياق على معنىً من المعاني بدلالة المطابقة أو بدلالة التضمن أو بدلالة التلازم، فسائر هذه المعاني تقع على هذا الوجه.
ويمكن أن يقال: إن هذه التفاصيل العقدية التي ذكرها المصنف ﵀ وغيره في معتقد أهل السنة والجماعة حقيقتها الإيمان بالله ﷾.
والمصنفون إذا ذكروا الإيمان فتارةً يريدون به القول في مسماه والرد على المرجئة بذلك، وتارةً يريدون به مسائل الاعتقاد والأصول على الإطلاق.
والطريقة الأولى هي طريقة البخاري في صحيحه، والثانية هي طريقة الإمام مسلم في صحيحه، فكتاب الإيمان في صحيح البخاري هو على الطريقة الأولى، أي: القول في مسماه، فقد ذكر البخاري ﵀ فيه مسمى الإيمان والرد على المرجئة في ذلك.
أما الإمام مسلم فإنه لما وضع في صحيحه كتاب الإيمان قصد بذلك أصول الاعتقاد، ولهذا ضمنه جمهورًا من أحاديث أصول الاعتقاد في التوحيد والقدر والشفاعة وغير ذلك.
2 / 6
الطريقة المثلى لتدريس العقيدة
قول المصنف: (وهو الإيمان بالله
إلخ) مما يبين أن معتقد أهل السنة والجماعة لا يخرج عن الأصول التي بعث بها النبي ﵊.
وهذا ينبه إلى مسألة، وهي: أن ما أحدثته الطوائف من أقوال بدعية في مسائل أصول الدين لا يوجب الزيادة على ما بعث به النبي ﵌، بل يبقى معتقد أهل السنة والجماعة هو المعتقد الذي كان عليه الرسول ﵊ وأصحابه من بعده.
ولهذا كانت الجمل المستعملة في كلام أئمة السلف التي لم ترد بألفاظها في كلام الله ورسوله أو في كلام الصحابة هي -في الغالب-: إما جملٌ سياقها يقع على النفي، أو جملٌ يقصد بها درء شبهة ودفع باطل قد طرأ على الحق.
مثلًا: شاع في كلام أئمة السنة والجماعة إذا ذكروا مسألة القرآن القول بأن القرآن غير مخلوق؛ مع أن هذه الجملة من جهة حرفها لا وجود لها في الكتاب والسنة أو في كلام الصحابة ﵃، وإنما الذي في القرآن أنه كلام الله؛ لقول الله تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ﴾ [التوبة:٦].
وهذا الأمر -وله أمثلة كثيرة في كلام السلف- يبين لنا أنه حين يقرر المعتقد الواجب على سائر المسلمين أن يتبعوه، وهو معتقد أهل السنة والجماعة والمعتقد الذي بينه النبي ﷺ للأمة كلها، وأوجب على الأمة أن تتبعه، فإن هذا المعتقد يجب أن يذكر بطريقة التقرير ابتداءً؛ فإنها الطريقة المعتبرة في القرآن والسنة.
أما ذكر هذا المعتقد بطريقة الردود وجمل النفي من غير ذكر لجمل الإثبات، فإن هذا ليس من منهج أئمة السلف، فضلًا عن كونه غير معرف بالحق، فإنك لو خاطبت من خاطبت من المسلمين من خاصتهم أو عامتهم بجمل من النفي، فإنهم يعلمون من هذه الجمل أن هذا المنفي ليس حقًا، لكن تعيين الحق من جهة كونه كلامًا مثبتًا مفصلًا قد لا يصلون إليه.
قد يقول قائل: إن النفي يستلزم إثبات الضد، فإذا عرف المسلم (أن القرآن غير مخلوق) علم أن السلف يرون أن القرآن كلام الله ليس مخلوقًا، وأن هذا رد لقول من قال: إنه مخلوق من الجهمية والمعتزلة ونحوها.
فأقول: إن متكلمة الصفاتية يبطلون بدعة الجهمية من جهة عمومها، فينفون أن القرآن مخلوق، ومع هذا فإنهم -أعني عبد الله بن سعيد بن كلاب من بعده من متكلمة الصفاتية- لا يثبتون معتقد أهل السنة والجماعة من كون القرآن هو كلام الله بحروفه، وأن كلام الله ﷾ يقوم بذاته ومشيئته، وأنه بحرف وصوت مسموع
إلخ.
فالمقصود من هذا: أن تقرير المعتقد في سائر المسائل لا ينبغي أن يعتبر ابتداءً بمسألة النفي أو الرد، وإنما يعتبر بجمل التقرير، وهي الجمل الخبرية أو الجمل الأمرية التي سياقها خبري، ولكنها وقعت أمرًا من الشارع، أي: ألفاظها ألفاظ خبرية، ولكنها جاءت في سياق الأمر أو التشريع.
والمصنف ﵀ هنا أتى على هذا القصد الفاضل بقوله: (وهو الإيمان بالله).
وهذا أيضًا تأكيد لما سلف من أن معتقد أهل السنة والجماعة هو الإسلام الذي بعث به النبي ﷺ، وبموجب هذا فإن سائر الطوائف التي يقال عنها أنها مخالفة للسلف هي قبل ذلك مخالفة للإسلام الذي بعث به النبي ﵊.
2 / 7
صور ورود الإيمان في النصوص
قول المصنف ﵀: [وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره].
هذا الذي ذكره الرسول ﵊ في بيان الإيمان، وسائر هذه الجمل الشرعية جمل عقدية، فإن الإيمان بالله والملائكة والكتب والقدر واليوم الآخر هي من محل القلب.
ومن هنا ظن كثير من الطوائف -ولا سيما المرجئة- أن الإيمان هو التصديق، وأهل السنة والجماعة لم يذهبوا بعيدًا عن هذا الأصل الذي ذكره الشارع؛ فإنهم وإن قالوا: إن الإيمان قول وعمل، فإنهم يقولون: إن أصل الإيمان في القلب.
ولهذا فإن الشارع إذا ذكر الإيمان ومعه التفاصيل التي هي تبع لهذا المعتقد؛ فإنه يذكر الإيمان على جهة الاختصاص، وهذا هو الذي وقع في حديث جبريل ﵇؛ فقد جعل النبي ﷺ الإيمان هو المعتقد، وجعل الإسلام هو العمل، وهو ﵊ في حديث عبد القيس فسر الإيمان بما فسر به الإسلام في حديث جبريل ﵇.
وهذا أمر يأتي التفصيل فيه، ولكن يقال هنا: إن السلف وإن قالوا: إن الإيمان قول وعمل إلا أنهم لا يختلفون أن أصل الإيمان في القلب، وأن التصديق هو الأصل في هذا الإيمان، وهو التصديق الذي يقع معه إذعان.
2 / 8
ما اجتمع عليه أهل القبلة وما اختلفوا فيه
قال المصنف ﵀: [وهو الإيمان بالله وملائكته
إلخ].
المصنف في رسالته، بل جمهور من كتب من أهل السنة والجماعة في أبواب أصول الدين يعنون -إذا ذكروا مسائل أصول الدين- بالجمل الخبرية التي وقع في مناطها كثيرٌ من الاختلاف، وهذا تحته تعليقان:
الأول: أن هذه الجمل الكلية من معتقد المسلمين جمهورها متفق عليه بين سائر أهل القبلة.
فمثلًا: حين يقال: إن ثمة خلافًا بين الطوائف في مسائل الأسماء والصفات، فهذا لا شك أنه ثابت، ولكن إذا اعتبرت كليات هذا الباب وهو القول بأن الله ﷾ ليس كمثله شيء، وأنه ﷾ مستحق للكمال منزه عن النقص ..
إلى غير ذلك من هذه الكليات؛ فإن المسلمين جميعًا قد اتفقوا عليها، ولا يعقل أن أحدًا ينتسب إلى الإسلام أو إلى شريعة نبي من الأنبياء صدقًا ينتقص الرب ﷾ أو يقول بأنه ليس مستحقًا للكمال.
وفرق هنا بين الأقوال الدالة بمنطوقها على ذلك، وبين الأقوال التي تستلزم هذا أو تتضمنه، ولكن صاحبها لا يقصد بها هذا المفهوم؛ فأقوال الجهمية -بل ومن دونهم- تعطيل للرب ﷾ عن صفات الكمال، ولكن هذا التعطيل هو إما من جهة التضمن، وإما من جهة اللزوم في مذاهبهم.
أما أنهم صرحوا بهذا التعطيل حرفًا وقصدوه، وعرفوا أنه من النقص، فهذا لم يقع لهم ولم يقع لأحد من أهل القبلة.
الثاني: جمهور المصنفين في معتقد أهل السنة والجماعة -والمصنف في هذه الرسالة- يذكرون المسائل التي هي محل نزاع من جهة تفاصيلها.
فمثلًا: قد يقول قائل: إن مسائل الربوبية -بل وحتى مسائل الألوهية- لا نراها تفصل في الكتب التي تذكر معتقد أهل السنة والجماعة، فإنه وإن كان ثمة كتب من كتب أهل السنة والجماعة مختصة بهذا الباب -كتوحيد العبادة؛ ففيه مصنفات كثيرة- لكن عند النظر فيما صنف في المعتقد نجد أن جمهور هذه الكتب لا تذكر مسألة توحيد العبادة إلا على قدر من الإجمال، ولا تذكرها تصريحًا، والمصنف في هذه الرسالة لم يعن بتقرير هذه المسألة.
وكأن هذا إشارةٌ -والله أعلم- إلى أن السلف ﵏ ومن بعدهم من أتباعهم اشتغلوا بذكر الأصول التي صارت مورد نزاع.
وهذا يبين أن توحيد الربوبية من جهة حقائقه، أو بتعبير أدق: من جهة نتائجه: ليس مورد نزاع، فإن هذا الأصل من حيث هو كلي كان المشركون مقرين به، وإن كان يقع لهم انحراف عن بعض تفاصيله بما هو من الشرك، لكن مسائل الربوبية لم يشتغل السلف ﵏ بتفصيلها وتقريرها: كمسألة إثبات وجود الله وأنه الخالق وأنه الملك وأنه المدبر
إلى غير ذلك.
وإن كانوا فصلوا في باب الأسماء والصفات الذي حقيقته أنه من أخص مقامات الربوبية لله ﷾، فإن غرضهم بتفصيل مسألة الأسماء والصفات هو بيان أن الله ﷾ متصف بهذه الصفات، وأنها صفات تقوم بذاته، وهذا درءٌ للقول الذي أحدثته الجهمية والمعتزلة من القول بأن الرب سبحانه لا يقوم بذاته شيءٌ من الصفات، وإن كانت سائر طوائف المسلمين تثبت ما هو من أحكام الصفات، وإلا فإن من نفى الصفات -أي: من نفى قيام الصفات بالذات- ونفى أحكام الصفات، فإنه لا يكون من الإسلام في شيء، بل ولا ينتسب إلى ديانة نبي من الأنبياء صدقًا.
فإن الجهمية والمعتزلة وإن قالوا: إن الرب ﷾ لا يقوم بذاته صفة العلم أو القدرة أو السمع أو البصر أو ما إلى ذلك، لكن لا أحد منهم يصف الله ﷾ بضد ذلك، فإنهم وإن لم يقولوا بأنه يقوم بذاته العلم، فإنهم لا يصفونه بالجهل
وهلم جرًا.
وأيضًا فإنهم يثبتون أحكام الصفات، أي: كون الرب ﷾ لا يعزب عنه شيء، فهذا المعنى من جهته حكمًا تثبته الجهمية والمعتزلة وسائر من نفى الصفات، وإن كانوا لا يثبتونه صفةً تقوم بذات الرب سبحانه.
إذًا: باب الربوبية لم يشتغل الأئمة بتفصيله كمسألة وجود الله ونحوها؛ لأن القرآن نفسه لم يذكر هذه المسألة على التفصيل التقريري للمؤمنين باعتبارها مسألةً فطرية، وباعتبارها محل إقرار عند جمهور الناس، وإن كان -كما أسلفت- يقع للمشركين انحراف -بل شرك- في بعض تفاصيل الربوبية.
وأما مسألة الألوهية: وهي إفراد الله ﷾ بالعبادة، فهذه المسألة هي أخص مسألة تذكر في كتاب الله ﷾، ومشركو العرب كانوا مخالفين في هذا الأصل، بل هو أصل مخالفتهم هم وغيرهم من المخالفين للرسل، بل يمكن أن يقال: إن العرب لم يكونوا على إظهار للمخالفة في مسائل الأسماء والصفات، بل كان القرآن بين ظهرانيهم يسمعونه، ومع ذلك لم يعترضوا على النبي ﷺ بشيء في باب الأسماء والصفات أو أن العقل يمنع شيئًا من ذلك.
وهذا المعنى من جوابات أهل السنة والجماعة على المعتزلة والجهمية الذين زعموا أن العقل يمنع ثبوت هذه الصفات، فيجيب عليهم أهل السنة بأن العرب لم يعترضوا على شيء من هذا بما يقال: إنه من الطرق العقلية التي لا تختص بأمة من الأمم.
فالذي ذُكر في القرآن على التفصيل هو توحيد العبادة الذي هو إفراد الله ﷾ بالعبادة.
فهنا يقال: هل توحيد العبادة من المسائل التي حدث فيها نزاع بين أهل القبلة؟
هنا جهتان:
الجهة الأولى: أن يقال: إنها مسألة حدث فيه نزاع نظري.
الجهة الثانية: أن يقال: إنها مسألة حدث فيها انحرافٌ عند كثير من الطوائف.
أما على الاعتبار الأول فيقال: إن هذه المسألة باعتبار أصولها مسألة محكمة، بمعنى: أنه لم يسوّغ الشرك على الإطلاق أو يبطل التوحيد على الإطلاق أحد من الطوائف إبطالًا نظريًا، نعم وقع في كلام بعض علماء السنة والجماعة من المتأخرين ومن أخصهم الإمام ابن تيمية ﵀ أن المتكلمين لم يشتغلوا بتقرير توحيد الألوهية، وهذا حق، فإنك إذا نظرت كتب المتكلمين من سائر طوائف المتكلمين لا ترى أن لهم اشتغالًا بتقرير هذا التوحيد، ولكن هناك فرقًا بين كون القوم لم يشتغلوا بتقريره -ولا شك أن ذلك تقصير وافتيات على الأصول- وبين كون القوم لا يقرون به أو حتى لا يعرفونه.
ولهذا: إذا قيل: إن المتكلمين لا يعرفون هذا التوحيد، فإن هذا القول على هذا الإطلاق ليس بصحيح، إلا إذا فسر بمعنىً صواب، فإذا فسّر بأنهم لا يفرقون بين توحيد الله والشرك به فهذا لم يقع لطائفة من الطوائف، بل إن الرازي مثلًا -وهو من المتكلمة المتأخرين من الأشاعرة- إذا ذكر بعض مسائل الشرك الأكبر ذكر أن هذا كفرٌ وخروج من الملة بإجماع المسلمين.
إذًا يقال: إن الذي وقع عند طوائف المتكلمين هو عدم تحقيق هذا الأصل الشريف وهو توحيد العبادة؛ لأنهم لم يشتغلوا بتقريره وبيانه والدعوة إليه والدفاع عنه ..
فهذا الحق قصر فيه هؤلاء المخالفون، وليس هو أول تقصيرهم أو خروجهم عن هدي النبي ﷺ.
أما أن القوم ينكرونه أو لا يؤمنون به أو ما إلى ذلك من المعاني، فهذا ليس بصحيح، فإنه لم يقع لطائفة من الطوائف من أهل الكلام أنها نظّرت في كتبها لمسائل الشرك وأقرتها، وأبطلت مسائل توحيد العبادة وردتها.
إذًا: هذا الأصل وهو توحيد العبادة من جهة كونه أصلًا نظريًا لم يقع فيه اختلاف نظري، لكن الذي وقع هو انحراف في تطبيقه وتحقيقه، وهذا الانحراف جمهوره وقع عند القاصدين إلى مسائل العمل، ممن دخل باسم التصوف أو العبادة أو ما إلى ذلك؛ فإن جمهور هؤلاء العباد المتأخرين المنحرفين عن سبيل السنة والجماعة ومن يتبعهم من العامة وقع لهم انحراف أو تقصير في هذا التوحيد، فضلًا عن الشيعة؛ فإنهم أيضًا منحرفون في كثير من مسائل هذا التوحيد.
إذًا: هذا التوحيد وقع فيه بين طوائف المسلمين انحراف؛ بل يوجد عند بعض الطوائف انحراف يصل إلى حد الشرك الأكبر أحيانًا، لكنه يقرر بوجهٍ من العمل، ليس على جهة كونه شركًا أكبر مضادًا للتوحيد، بل كما قال شيخ الإسلام ﵀: (إنما يقع من المخالفة في العمل عند طائفة من هؤلاء يحسبون أنها من الإيمان الذي بعث به النبي ﷺ، قال: مع أنه يعلم بالضرورة أنها من الشرك الذي بعث النبي ﵌ بإبطاله).
فهو انحراف شائع، إما شرك أصغر وإما بدع، وتارةً يكون شركًا أكبر، وهذا الانحراف ليس مخصوصًا بهؤلاء وهؤلاء، بل حتى عند كثير من المتكلمين يقع شيءٌ من ذلك في بعض المسائل، ولا سيما بعدما امتزجت كثير من مسالك الصوفية بمسالك المتكلمين.
2 / 9
امتزاج التصوف بعلم الكلام
إذا نظرت إلى من أحدث النظر وعلم الكلام من أئمة الجهمية والمعتزلة وجدت أنهم بعيدون عن المسالك العبادية -مسالك العمل- ولهذا ليس بينهم وبين الصوفية شيء من التوافق، حتى بدأ هذا العلم -أعني علم الكلام- يقرب إلى التصوف وبدأ التصوف يقرب إليه.
وكان لهذا موجبات، من أخصها: ظهور المعتزلة البغدادية، والذين كانوا متشيعين لـ علي بن أبي طالب ﵁، فحصل بين التشيع وبين الاعتزال قدر من التآلف والاختلاط، وإلا فإن أصول الشيعة كانوا على مذهب التشبيه في الصفات، ثم انحرفوا إلى مذهب التعطيل على طريقة معتزلة بغداد.
فهذا التآلف -مع ما هو معروف عند الشيعة من الغلو في آل البيت كـ الحسين بن علي وغيره- جعل مسائل النظر تدخل على هذه المسائل الأخرى من العمل، فصار هذا الانحراف النظري يشاركه انحراف في مسائل العمل.
ثم لما ظهر المتفلسفة المحضة -وهم الفلاسفة الذين يصرحون بالفلسفة ويجعلونها طريقًا صريحًا لهم، ولا سيما فلاسفة المشرق كـ أبي نصر الفارابي والحسين بن عبد الله بن سينا وأمثال هؤلاء- كان من طرقهم التي أحدثوها أن الناظر لا يلزم بالضرورة أن يكون له أخذٌ واحد، بل يكون له أخذ من جهة النظر، وأخذ من جهة العمل، فقرروا بذلك طريقًا مخترعًا، وهو أن المذهب الشخصي للواحد -أي: المعتقد للشخص الواحد- لا يلزم أن يكون معتقدًا واحدًا، بل يكون متعددًا.
ومن هنا تجد ابن سينا في بعض كتبه رجلًا عقلانيًا نظريًا، يأخذ الطريقة العقلانية التجريدية المبالغة في العقلانية والتجريد؛ حتى لا يعتبر كثيرًا من أدلة العقل، وهي الأدلة الحسية وما إلى ذلك، معتبرًا أن هذه الأدلة -كما يزعم عن أرسطو وغيره- هي من الدلائل الخطابية أو من الدلائل الجدلية، وأن برهان اليقين لا يكون بمثل هذه الدلائل.
ثم تجده بعد أن استعمل طريقة التجريد العقلي الغالية في الأخذ بالعقليات والبعد عن مسائل الحس وما يتعلق بها، تجده في كتب أخرى له رجلًا صوفيًا إشراقيًا يعتبر مسائل النفس والعمل وما إلى ذلك، ويبتعد عن مسائل النظر والعقل.
فالاختلاط عند هؤلاء المتفلسفة لم يقتصر عليهم؛ إذ لما ظهر متكلمة الصفاتية، وكان خلق منهم قد اشتغل بالفقه، وخلق منهم قد اشتغل بعلم الكلام، وخلق منهم قد اشتغل بعلم الحديث، صار أتباعهم إلى مثل هذه الأنحاء.
فجاء -مثلًا- أبو حامد الغزالي، وهو من متكلمة الأشعرية، من أصحاب أبي المعالي الجويني، فصرف المذهب الأشعري عن صورته الأولى التي كان عليها الأشعري ومتقدمو أصحابه، وانحرف به انحرافًا باطلًا، وإن كان المذهب من أصله ليس على السنة المحضة، فوضع أبو حامد الغزالي للمذهب الأشعري منهجًا ذكره في كتابه (ميزان العمل)، وصرح بأن المذهب ليس واحدًا، بل ثمة المذهب الجدل، وثمة المذهب اليقين، وثمة المذهب العام، فجعل علم الكلام مذهبًا للجدل والدفع عن عقيدة المسلمين كما يقول، وجعل المذهب اليقين طريقة التصوف، الذي هو سر -كما يقول أبو حامد - بين العبد وبين ربه، وجعل للعامة مذهبًا ثالثًا يخاطب به العامة من الناس الذين لا يعرفون طريق النظر ولا يؤهلون لطريق اليقين والتصوف.
فهذه الطريقة التي قررها الغزالي في كتبه انتشرت عنده وعند غيره، ومن هنا يعلم أن الانحراف -أعني الانحراف في توحيد العبادة- لم يختص بالصوفية أو الشيعة فقط، بل وقع حتى عند بعض النظار الذين قرروا مثل هذه المسائل.
2 / 10