ولما مثلت هذه الراهبة لأول مرة بحضرة القنصل «ب» وزوجته اهتزت جوارحها وارتجفت فرائصها واختلجت أعضاؤها، وبأقل من لمح البصر اندفع الدم من قلبها المضطرب فلون خديها العجيفين الممتقعين بحمرة وردية، على أن الأب والأم المومأ إليهما لم يكونا ليلحظا ما طرأ على تلك الراهبة من الاضطراب والتأثر السريعين؛ وذلك لأن الحزن كان شديد الوطأة عليهما لا يعيان شيئا ولا يدركان أمرا.
وكانت الراهبة الفتية تقوم بواجبات مهمتها بإخلاص لا يماثله في التناهي إلا تقواها الحميمة التي كانت تستطرق إلى النفوس محيطة بها كالشمس تنفذ أشعتها في الأجسام الشفافة، وفضلا عن ذلك فإن حركاتها وسكناتها كانت تشير إلى كرامة أصلها وطيب عنصرها، وكانت الديانة قد تجسدت فيها بصورة حية، بل كأنها الرحمة قد تقمصت بها ثوبا قشيبا؛ ولذلك فإن تلك الراهبة استهوت النفوس بدون أن تشعر بالأمر واستلفتت الأنظار إليها استلفاتا.
وكانت السيدة تسر خاصة بمحادثتها ومكالمتها، وتشعر على أثر كل محادثة بابتهاج داخلي يخامر نفسها، بل كثيرا ما كان صوت تلك الراهبة غير المعروفة منها يخترق أعماق أحشائها وتهتز منه جوارحها دون أن يدرك لذلك سببا، وحاولت مرارا عديدة أن تستنطقها عن أمر بلادها وأهلها، ولكنها كلما تأتي بمثل تلك المفاتحات كانت الراهبة «أغنس» تحول المكالمة إلى موضوع آخر؛ ولذلك عمدت السيدة «ب» إلى الإقلاع عن تلك المخاطبة؛ لئلا تحزنها، محترمة بذلك رصانتها وتحفظها، بيد أنها أدركت رغما عن ذلك أن والدي الراهبة ما برحا في قيد الحياة، وأنها غير مولودة في بلاد النمسة.
ومما يذكر أن الراهبة كان يبدو على محياها سيماء الانزعاج عندما كانت تجتمع ب «سوسنة» بل كانت تبذل جهدها؛ لكي لا تقابلها على انفراد، بل إن «سوسنة» لحظت جملة مرات أن الراهبة كانت تحول عنها نظرها؛ لتكفكف دمعة تندفع من عينها فورا.
وفي أحد الأيام ورد بريد سورية وفيه للقنصل «ب» مكاتيب ورسائل متعددة، فأخذ يقرأها وشرع أهل البيت يتحدثون بالأخبار الواردة من بيروت ولبنان، وكانت الراهبة «أغنس» في تلك الفرصة مهتمة شديد الاهتمام بتحضير دواء للبارون على أنها لما سمعت كلمة بيروت التفتت إلى القوم بالرغم عنها، ولم تتمالك أن أبدت حركة دلت على اهتمامها ورغبتها في الاستجلاء والاستطلاع، لكنها انتبهت حالا لأمرها ورجعت عن تلك الحركة الفارطة منها ذهلا، بيد أن زوجة القنصل لحظت منها ذلك، فقالت لها مستفهمة: «يظهر لي أن حوادث سورية تهمك يا حضرة الأخت.»
فأجابت الراهبة بقولها: «صدقت أيتها السيدة الفاضلة، إنني كنت دائما أغبط سكان تلك البلاد الجميلة، أوليست تلك البلاد وطن المخلص؟! أوليس قد تمت فيها أسرار ديانتنا المقدسة المتناهية في تأثيرها بالنفوس؟! أجل، إنني في صباح هذا اليوم نفسه بينا كنت أتلو فرضي القانوني؛ إذ وقفت على وصف جميل عن لبنان وعن عظمة الأرز القائم على رءوسه ... وفضلا عن ذلك أن الهواء في تلك الربوع لطيف منعش نقي صاف ليس فيه ما نراه هنا من الكدورة والغيوم المتلبدة والمطر الرذاذ المنهمل عندنا منذ أسبوع ...»
ثم انقطعت إلى موضوع آخر فقالت ملتفتة إلى المريض بعين الشفقة: «لهفي على البارون، فإنه منذ جملة أيام لم يستطع الذهاب لاستنشاق الهواء النقي.»
وقد اجتهدت أن تمزج بكلامها هذا السذاجة الفطرية بلهجة الانعطاف الخالص والصداقة المجردة، وهي اللهجة التي عرفت بها طائفة الراهبات حتى إن زوجة القنصل لم يخطر لها إذ ذاك أن في الأمر سرا.
على أنها بعد خروج الراهبة من الغرفة أخذت تحادث زوجها بمحامد الراهبة «أغنس» مكررة ذكر سجاياها، فوافقها على ذلك القنصل و«سوسنة» كل الموافقة، بحيث إن العائلة كلها فتنت بجمال تلك الفضيلة اللامعة بالوداعة والإخلاص والحشمة والاعتدال.
13
Halaman tidak diketahui