قال سليم في شيء من الجد: وماذا تريد أن تصنع إذا؟ فإن حال نفيسة لا تطاق، ولا سبيل إلى تمريضها حيث هي الآن. وهم خالد أن يجيب ، ولكن «منى» سبقته إلى الحديث، فقالت: إنما مكان نفيسة هنا في هذه الدار، أقوم عليها أنا ومن معي، ويرعاها أبو ابنتيها من قريب كما كان يرعاها قبل أن ينتقل إلى هذه المدينة. قال الرجلان معا: أوتفعلين؟ قالت مني: ولم لا؟ سأتخذ ابنتيها ابنتين لي، وقد رزقني الله أربعة غلمان ولم يرزقني بنتا واحدة. قال سليم وعلى ثغره ابتسامة راضية وفي صوته حنان لم يعرف منه: بل تتخذين ابنتيها أختين لك، فما أرى أن الفرق بينك وبين سميحة عظيم. أما خالد فقد عجز عن ضبط نفسه فأرسلها على سجيتها، وعن إمساك دموعه ففرق ما بين جفونه، وإذا هو ينتحب، وإذا دموعه تنهمل على خديه انهمالا.
فلما رأى سليم ذلك من أمره عاد إلى المألوف من عنفه الظاهر وجفوته البادية، فأغرق في الضحك وهو يقول: ما رأيت كاليوم رجلا يشبه النساء وامرأة تشبه الرجال، انظر أيها الأحمق إلى امرأتك وتعلم منها كيف يكون لقاء المحن؟! وكيف يكون الثبات للخطوب؟! ألا تستحيي أن يدخل بنوك وأن يروك في هذه الحال! ثم التفت إلى «منى» وهو يقول: جففي له دموعه أو ابغيه منديلا يجفف به هذه الدموع، ولكنكما لما تسألاني كيف كان بدء هذه القصة التي انتهت بنفيسة إلى ما هي فيه؛ فإن هذه القصة مؤلمة حقا، ولكن فيها مع ذلك كثيرا من الغرابة وكثيرا من الفكاهة أيضا. قالت منى: من الفكاهة؟! قال سليم: نعم من الفكاهة. أتعرفين من دفع نفيسة إلى هذه الحال؟ قالت منى: من دفعها إلى هذه الحال؟ قال سليم: أتذكرين أم رضوان أم لعلك نسيتها؟ قالت منى: أم رضوان! وكيف أنساها، ولم يبعد عهدي بها بعد. قال سليم: فهي التي فتحت لنفيسة هذا الباب المنكر الذي لا نعرف كيف نخرجها منه. قالت منى: وكيف ذاك؟
قال سليم وهو يلتفت إلى خالد: إنك لتعرف دار أبيك في ذلك اليوم من الشهر حين يهيأ الخبز، وإن أم رضوان هي التي تخبز لهم، فتذكر إن كنت ناسيا، كيف يكون الاستعداد لهذا اليوم: لا تكاد الشمس تجنح إلى مغربها حتى تكون إحدى نساء الدار مشغولة بإعداد الخميرة، فإذا تقدم الليل شيئا تعجل النساء نومهن ونامت في الدار أم رضوان، فلم يذقن النوم إلا غرارا؛ فهن ينهضن إذا انتصف الليل أو قارب ثلثيه، وهن يسرعن إلى عجينهن ينفقن فيه الساعة أو أكثر من الساعة، يتنافسن فيما يبذلن من جهد، لكل واحدة منهن وعاؤها الذي تعجن فيه، حتى إذا أتممن ذلك وفرغن من تنافسهن وما يكون بينهن من حديث يهمسنه همسا أو غناء يخافتن به مخافة أن يصل إلى آذان الرجال، والجاهلات مع ذلك لا يلحظن أن ما يحدثن من الصوت في أوعيتهن كاف لإيقاظ المغرقين في النوم العميق، ولكنهن لا يتحدثن إلا همسا، ولا يتغنين إلا إسرارا، فإذا فرغن من عملهن ثبن إلى مضاجعهن يلتمسن فيها علالة من نوم ريثما يرتفع العجين، وتنهض إحداهن قبل صاحباتها لتحمي التنور، فتمتلئ القاعة وهجا، وتمتلئ الدار دخانا، ويهب أهل الدار مع الفجر: فأما الرجال فيصلون ويتعجلون قهوتهم، ويغدون مع الطير، وأما النساء فيسرعن أو يبطئن إلى قاعة التنور؛ فهن قد اتخذنها موعدا للقاء. هنالك تجلس أم رضوان إلى جانب الفرن لتنضج الخبر ترقصه على مطرحتها حينا ثم تدفعه إلى التنور دفعا، ثم لا تلبث أن تخرجه بغصنها ذاك اليابس من سعف النخل، وما تزال ترقص رغيفا وتخرج رغيفا حتى يرتفع الضحى والنساء من حولها يداعبنها ويتلاغطن بأحاديث مختلفة، فيها الجد وفيها الهزل وفيها الشكوى وفيها المؤاساة.
قال خالد وقد كاد يرد إلى صباه: فما شأن هذا كله وما نحن فيه؟ قال سليم: شأن هذا كله وما نحن فيه، أن نفيسة كانت بين النساء في قاعة التنور، فقصت أم رضوان قصة سمعتها نفيسة فصدقتها وهمت أن تحققها، فلما ردت عن ذلك بعد جهد أصابها ما هي فيه الآن. قال خالد: وما قصة أم رضوان هذه؟ قال سليم: كان النساء يتجاذبن أحاديث الجن وأحاديث الجنيات خاصة حين يظهرن إذا تقدم الليل ويرقصن في ضوء القمر. فقالت أم رضوان: لقد رأيت في قريتنا أمرا عجبا، رأيته بنفسي فلا أستطيع أن أكذبه، ولو حدثني به أحد غيري لرفضته كل الرفض. قال النسوة: وماذا رأيت يا أم رضوان؟ قالت: إني أخاف أن أقص عليكن ما رأيت. قال النسوة: بل قصيه علينا. وألححن في ذلك وفي نفوسهن ثقة بأن أم رضوان لم تر شيئا، ولكنه الشوق إلى القصص والرغبة في الشعور بالخوف وهذه اللذة الغريبة التي يجدنها في إثارة الفزع في نفوسهن.
قالت أم رضوان: كنت أخبز في قريتنا لجارة لنا ذات مساء كما أخبز الآن، وكانت صاحبة الدار أم عثمان جالسة معي بين أتراب لها وجارات، وكنا نتحدث كما نتحدث الآن، وإذا امرأة من أهل القرية تدخل علينا متفزعة متفجعة، فإذا سألناها عما بها زعمت لنا أنها خرجت مع صاحباتها من آخر الليل يملأن جرارهن، وإنهن لعائدات يغنين في صوت خافت يستأنسن بالغناء من وحشة الليل، وإذا هن يسمعن أصواتا لا يكدن يتبينها، فيصغين ويمددن أبصارهن فيرين نساء يلطمن وجوههن وهن يتغنين بمثل ما تتغنى به النادبات، فيقلن:
يا ساريات في السحر
يسعين في ضوء القمر
إذا بدا الصبح الأغر
فقلن يا نشر الزهر
إن أبا يحيى عمر
Halaman tidak diketahui