واستأنفت المعددة غناءها الذي كان يمزق القلوب، واستأنف المأتم الرد عليها والبكاء معها، وانهلت الدموع غزارا، واضطربت الأصوات في الحلوق، وألمت النوبات العصبية ببعض النائحات فأسرع إليهن سائر نساء المأتم، يهدئنهن بالقول والعمل، وينضحن على وجوههن الماء. وانصرفت زبيدة من ذلك اليوم وهي تشفق على نفيسة من خطر جديد، وتزمع أن تتحدث إلى زوجها في نقل هذه المتوفاة إلى القاهرة، ولست أدري أتحدثت في ذلك أم لم تجد إلى الحديث فيه سبيلا، ولكن الشيء المحقق هو أن الليل جعل يخيف نفيسة أشد الخوف كلما مالت الشمس إلى الغروب، وكان هذا الخوف يزداد قوة وعنفا كلما تقدم الليل، وكان أبغض شيء إلى نفيسة أن تأوي إلى مضجعها مخافة أن يزورها النوم، فيزورها معه طيف هذا أو تلك من أبويها، فكانت تدافع النوم بالقهوة تسرف في شربها إذا أظلم الليل، لا تكاد تفرغ من كأس حتى تعمد إلى كأس أخرى، ثم أشفقت من العزلة التي كان الليل يضطرها إليها إذا هدأ من حولها كل شيء ونام من حولها كل إنسان، فكانت تستبقي ابنتيها معها حتى يتقدم الليل، فإذا عبث النعاس بالصبيتين ووضع رأس كل واحدة منهما على إحدى فخذيها، أدركها شيء من الجزع وهمت أن توقظهما، لولا أن نسيما كانت تسرع إلى الصبيتين فتحملهما إلى مضجعهما، ثم تعود إلى مولاتها فتسليها بالقصص والحديث، وما تزال بها حتى تسلمها إلى نوم مضطرب ثقيل، وقد اشتد هذا الأمر مع الأيام، حتى اضطرت الخادم إلى أن تنام في غرفة سيدتها، تلقي لنفسها وسادة على الأرض، وما تزال بسيدتها في حديث وقصص، حتى إذا أحست منها استسلاما للراحة أو إذعانا لشيء يشبه النوم استلقت هي على وسادتها فنامت إحدى عينيها وظلت الأخرى مستيقظة لحراسة سيدتها من هذا الطائف المزعج الذي كان يلم بها كلما اطمأنت أو كادت تطمئن إلى النعاس.
وقد عاشت نفيسة ما شاء الله لها أن تعيش، وعمرت ما أذن الله لها أن تعمر دون أن تطمئن إلى النوم ليلة كاملة، إنما كانت تهب من نومها أثناء الليل فزعة جزعة؛ لأنها رأت أمها أو أباها، وسمعتهما يلقيان إليها هذا الأمر دائما: قولي لهم يدفنوها معي فأنا إليها مشوق، وقد وعدتها بذلك قبل أن أموت. أو قولي لهم يدفنوني معه فأنا إليه مشوقة، وقد وعدني بذلك قبل أن يموت. وكثيرا ما رئيت شفتاها أثناء النهار تتحركان دون أن يصدر عنهما صوت؛ فلم يشك من كان حولها في أنها تردد هذا الأمر الذي صدر إليها من أحد أبويها أثناء الليل.
وقد قصت نسيم بعض هذا على سيدها خالد، فاستمع له ثم انصرف عن مولاته وهو يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويقول:
أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين . وقص خالد ما سمع من مولاته على أبيه، فقال: يرحم الله عبد الرحمن! ويرحم الله امرأته! ويلطف الله بنفيسة! هون عليك يا بني وارفق بها؛ فإنما طائف الليل هذا الذي يزورها كجنية البيت التي تراءت لها ذات مساء، وأنبأتها بأنك تريد أن تدخل عليها ضرة في بيتها، أتذكر جنية البيت؟! ثم سكت علي لحظة، ثم استأنف حديثه قائلا: ومع ذلك فيحسن أن نعيد هذا الحديث على الشيخ، فلعله أن يرى لنا في الأمر رأيا. وأعاد علي بمحضر ابنه على الشيخ حديث نفيسة؛ فابتسم الشيخ ابتسامة حزينة وقال: يلطف الله بها، إنما هو طائف من الشيطان قد أولع بها فصرفها عن الحياة وصرف عنها الحياة؛ ومع ذلك فارفقوا بها وجنبوها العزلة ما وجدتم إلى ذلك سبيلا. ونظر الشيخ إلى علي فإذا دمعتان تترقرقان في عينيه ثم لا تلبثان أن تنحدرا على خديه لتضيعا في لحيته الكثة، وإذا هو يقول: اللهم ارحم أم خالد، واغفر لي وللشيخ الكبير ولعبد الرحمن، فقد أنبأتني أني حين أزوج هذين الشابين لا أزيد على أن أغرس في بيتي شجرة البؤس، لقد والله غرستها، فثبتت أصولها في الأرض، وارتفعت أغصانها في السماء، وأخذت تؤتي ثمرها خبيثا مرا. قال الشيخ وهو يضحك: ما أشد ما تعبث الأوهام بعقول العقلاء! وانصرف خالد إلى أهله وهو يطيل التفكير في شجرة البؤس هذه، يسأل نفسه عن أصولها التي رسخت في الأرض، وفروعها التي ارتفعت في السماء، ولكنه لا يسأل نفسه عن ثمراتها المرة الخبيثة؛ فقد ذاق بعضها ووجد طعمها المر الخبيث حين كشف له الغطاء عن قبح زوجه، وحين ألزم المضاهاة بين وجهي الصبيتين ووجه أمهما، وحين لعب الشيطان بنفسه فوسوس له ما وسوس، بل زين له ما زين، بل لقد كانت شجرة البؤس هذه مبكرة في إيتاء أكلها، فقد ذاق أول ثمرها ولما يمض على زواجه إلا وقت قصير. رحم الله أمه! لقد كانت كارهة إذا لهذا الزواج نابية عنه، وأكبر الظن أنه هو الذي قتلها.
الفصل العشرون
وقد كان خالد سعيدا ناعم البال في حياته الجديدة، مغتبطا بما أتيح له من نعمة حين تزوج «منى» وأصهر إلى الحاج مسعود، ولم يمض عام وبعض العام على هذا الصهر حتى رزقته «منى» غلاما ذكرا سماه محمدا، وصور ما شئت من سروره بمقدم هذا الغلام الذي جاء حسن الطلعة جميل المنظر ميمون النقيبة بعد هاتين الصبيتين البائستين، نعم! إن لله لحكمة تعيا العقول عن إدراك كنهها وتعمق حقائقها، لقد غرس أبوه في داره شجرة البؤس فشقيت بها أمه، وشقيت بها نفيسة وأسرتها، وشقيت بها الصبيتان، ولقد غرس الحاج مسعود في داره شجرة النعيم فسعد بها هو، وسعد بها حموه، وسعدت بها منى، فليت أم خالد عاشت حتى تشارك في هذا النعيم وحتى تسعد بهذا الحفيد! وكان قلب خالد يخفق كلما ذكر هذه النعمة، وما أكثر ما كان يذكرها! لأنه كان يشفق أن تسقط في أثنائها ثمرة من أثمار تلك الشجرة البغيضة التي رسخت أصولها، ونمت فروعها في دار أبيه، وقد تواترت نعم الله على خالد، فرزقته «منى» غلاما آخر وغلاما ثالثا، حتى شارك امرأته في الخوف من حسد الحاسدين على هؤلاء الصبية الذكور الذين أخذ بعضهم يتبع بعضا لا تخالف بينهم صبية.
ويصبح خالد ذات يوم وإذا الأسرة في خلاف شديد وخصام يوشك أن يبلغ العنف، فقد تحدث الشيخ في مجلسه أمس، ولم يكن خالد حاضرا هذا المجلس، بأنه قد وجد لخالد عملا خيرا من عمله في محكمة المدينة يؤجر عليه بما يعدل راتبه مرتين غير ما يسوقه إليه من رزق لا حرج فيه، فهذا العمل في بعض مرافق الدائرة السنية، وما أكثر الخير الذي يساق مباركا موفورا إلى الذين يعملون في مرافق الدائرة السنية! ولا عيب لهذا العمل إلا أنه سيضطر خالدا إلى ترك مدينته وأسرته وشيخه وذوي قرابته لينتقل إلى مدينة أخرى في أعلى الإقليم مما يلي الصعيد، ولكن خالدا رجل لا يجد بالانتقال بأسا ولا يلقى فيه مشقة، والأمد بعد قريب بين المدينتين، وما هي إلا ساعات لمن يقطع الطريق ماشيا، وساعات أقل لمن يقطعها على دابة، فأما إذا اتخذ المسافر هذا البدع الجديد الذي جاء من القاهرة منذ حين والذي هو حديد يمشي على حديد، ويرسل بين يديه دخانا وغبارا، ويشق الجو من حوله بالصفير والأزيز والشهيق، هذا الذي يسمونه القطار، فإنه يقطع المسافة في ساعة وبعض ساعة، وما ينبغي لخالد أن يضيع هذه الفرصة أو أن يخيب أمل الشيخ فيه، فلم يكن الشيخ حين وجد هذا العمل واختار له خالدا يفكر في هذا الفت وأسرته وحدهما، وإنما كان يفكر مع ذلك في نفسه وفي طريقته أيضا، فقد كانت هذه المدينة التي يريد أن يرسل إليها خالدا هي المدينة الوحيدة التي استعصت عليه بين مدن الإقليم، فلم ترسل إليه الوفود والهدايا في المواسم والأعياد، ولم تنتدب من فقرائها ولا من أغنيائها من يصحب الشيخ في حجه على نفقته الخاصة أو على نفقة الشيخ، ولم تكن تحفل به إن عبرها مع أصحابه مسافرين على ظهور الخيل أو مر بها مع أصحابه مسافرين على ظهر النيل، قد استقر الشيخ في ذهبيته واستقر أصحابه في السفن التي كانت تتلوها، بل كثيرا ما تجهمت المدينة لهؤلاء السفر الغرباء، حتى كان الشيخ يأمر ألا ينزل أصحابه بها، وألا ترسو سفنه على شواطئها مخافة أن يصيبه ويصيبهم من أهلها بعض ما يكرهون، ذلك أن هذه المدينة وما حولها من القرى كان لها شيخها أو كان لها بيت طريقتها الذي تلتف حوله وتعتز به وتثوب إليه عند الملمات، وتنافس به غيره من المشايخ وبيوت المشايخ.
وكان الشيخ الكبير، رحمه الله، لا يعنى بهذه الأشياء، ولا يحفل بهذه الصغائر، ولا يلتفت إلى من يقبل عليه أو يدبر عنه؛ لأنه لم يكن يبتغي استعلاء ولا جاها ولا بعد صوت، وإنما كان يرى حياته جهادا في سبيل الله؛ فمن ثاب إليه تلقاه لقاء حسنا وعلمه مما علمه الله، ومن نأى عنه لم يفكر فيه إلا مستغفرا له وراجيا له الخير والصلاح، فأما الشيخ الشاب فمع أنه لم يقصر في ذات الله فإنه على ذلك لم يقصر في ذات الدنيا، ولم يكن يطمئن إلى أن تقوم المدينة مستعصية مريبة بين مدن الإقليم، فكان يتمنى أن يرسل إليها رسولا، أو يقر فيها داعية، أو يكون له فيها منزل ينزل فيه إذا مر بالمدينة برا أو من طريق النيل، فلما وجد هذا العمل - وأكبر الظن أنه قد جد حتى وجده - رضيت نفسه واستبشرت، وحزم أمره واصطنع السياسة والحكمة، فلم يفكر في أن يرسل إلى المدينة رسولا أو يقر فيها داعية، وإنما اكتفى أول الأمر بأن يذهب هذا الموظف، فيقيم في المدينة كغيره من موظفي الدائرة السنية، ويتخذ لنفسه فيها دارا رحبة، وينفق فيها راتبه وأكثر من راتبه، فسيأتيه فيها رزق كثير، وسيمده حموه بخير كثير، وسيألفه أهل المدينة ويطمئنون إليه ويجعلون له بينهم مكانا رفيعا، فإذا استقر هذا الموظف في بيئته الجديدة تلك عاما وعاما، ومر الشيخ بالمدينة مصعدا أو مصوبا، لم يكن بأس من أن ينزل ضيفا عليه هو وأصحابه، وما كان أكثر أصحابه هؤلاء؛ وهناك يفرح من يفرح، ويحزن من يحزن، ويغتاظ من يغتاظ، ولكنه سينزل في المدينة ويقيم فيها اليوم أو الأيام، ويقيم فيها حلقة الذكر أيضا، وكان الشيخ يطرب طربا غريبا إذا رأى في خياله أنه سيقيم حلقة الذكر في هذه المدينة التي استعصت على أبيه ولكنها لن تستعصي عليه.
ولم يتحدث الشيخ بشيء من هذا إلى أصحابه حين ذكرهم أنه وجد هذا العمل واختار له خالدا، وإنما ذكر مزايا هذا العمل الجديد وحاجة خالد إلى اتساع الرزق؛ فقد أصبح صاحب أسرة ضخمة له بنون وبنات، وينبغي أن يلتمس لهم من رزق الله، ولمح تلميحا خفيفا بأننا قد نزور خالدا بين حين وحين، فرضى أصحابه، وحمد بعضهم للشيخ هذا السعي الحسن، ووجد بعضهم على الشيخ في دخيلة نفيسه؛ لأنه لم يجد إلا خالدا يؤثره بهذا العمل الذي يغل على صاحبه خيرا كثيرا، فأما علي ومسعود فقد سمعا ورضيت قلوبهما وابتهجت نفوسهما، وشكرا للشيخ عطفه وحبه: يشكره علي باسما، ويشكره الحاج مسعود ودموعه تنهل، ويجد الشيخ ما يرضيه من بكاء هذا وابتسام ذاك.
وعاد علي ومسعود إلى أهلهما حين تقدم الليل، وأصبح خالد فغدا إلى عمله في المحكمة، فلما عاد إلى أهله رأى في داره اضطرابا واختلافا، فلما سأل عن ذلك أنبأته «مني» وهي تضحك بأن الشيخ قد وجد له عملا آخر في مدينة أخرى من مدن الإقليم، وأن أمها ضيقة بهذا الانتقال رافضة له؛ لأنها لا تحب أن تفارق ابنتها ولا أن تفارق حفدتها، وإنما تريد أن تراهم متى شاءت، تريد أن تراهم مصبحة إن أعجبها أن تراهم مصبحة، وأن تراهم ممسية إن أحبت أن تراهم آخر النهار، وأن يزوروها إن أرادوا وتستزيرهم هي إن أرادت. فأما هذه المدينة التي يسافر المسافر إليها على ظهور الخيل أو الإبل أو الحمر أو في هذا القطار البغيض، فليس لها فيها أرب، لن تأذن بأن يفرق مفرق بينها وبين ابنتها، وحسبها بالموت مفرقا للمحبين. فإذا ذكر لها ارتفاع الراتب وكثرة ما سيصيب ابنتها من الخير سخرت من ذلك ورفعت له كتفيها وقالت: ما حاجة خالد إلى ارتفاع الراتب وإلى هدايا الناس والخير عندنا كثير! وهل شكا خالد أو أحد من أهله تقتيرا في الرزق أو ضيقا في ذات اليد؟! فإذا ذكر لها أن الشيخ هو الذي وجد هذا العمل واختار له خالدا، أخذها غيظ شديد، وقالت: إن أتباع الشيخ كثيرون، منهم الشباب والكهول والشيوخ، فما باله لم يختر إلا خالدا؟ خلوا بيني وبين الشيخ، فلئن لقيته لأغيرن من رأيه، فإن لم أستطع فسأعصي أمره مجاهرة له بالعصيان؛ أفتظنون أني أخاف الشيخ أو أفرق منه؟! لقد رأيته صبيا يدرج، ولقد لاعبته وداعبته قبل أن يبلغ العاشرة من عمره؛ اتخذوه لكم شيخا؛ فأما شيخي أنا فقد مات، ولو كان حيا ما فرق بيني وبين ابنتي.
Halaman tidak diketahui