وما أقبل المساء حتى كان خالد قد لقي أباه مستحييا ووضع في كفه الدنانير متأثما؛ فابتسم الشيخ ابتسامة فيها خجل كثير، وقال لابنه: أقم فسنشهد العشاءين مع الشيخ.
وأقبل الصبح من غد، فرأى عليا في غرفة أم خالد وقد رفع إلى الله كثيرا من الصلاة والاستغفار والندم، وسكب كثيرا من الدموع؛ لأنه لقي ابنه البر بما يكره، وكان له ظالما وعليه متجنيا، ثم تمنى على أم خالد ألا تضطغن عليه ما قدم إلى ابنهما من مكروه، ثم لا يكاد يفرغ من قهوته حتى يطرق الباب ويستأذن الخادم لسليم، فإذا دخل وحيا وضع في يد عمه دنانير وهو يقول: معذرة إليك يا عم؛ فلو استطعت لأديت إليك أكثر منها: فإن نفقتك كثيرة ونحن مقبلون على شهر الصوم. قال الشيخ وقد جادت عيناه آخر الأمر ببعض الدمع: وصلتك رحم يابن أخي! فقد أعنتني في وقت الحاجة إلى المعونة.
ولما انصرف سليم لم يكن علي يشك في أن الله قد استمع لدعائه الكثير وعفا له عما أسلف إلى ابنه من مساءة. ولولا ذلك لما ساق إليه هذا الرزق الذي لم يكن يرجوه.
الفصل الثامن عشر
وقال الشيخ ذات ليلة لخاصته مقالته لهم في العام الماضي، وآذنهم بأنه سيستعد للحج وبأن من شاء منهم أن يصحبه فليعد للسفر الطويل عدته، وتقدم إليهم أن يؤذنوا في الفقراء وأوساط الناس بأن عليه نفقة من أراد منهم أن يحج بيت الله ولم يجد ما ينفق، ثم التفت إلى الحاج مسعود وقال ضاحكا: أما أنت يا مسعود فقاعد هذا العام فقد أتممت حججك السبع. قال مسعود وقد ظهر على وجهه غضب شديد لم يلبث أن استحال إلى حنان رحيم انهلت له دموعه حتى بللت لحيته الكثة - قال مسعود: أغاضب أنت علي يا سيدنا؟ قال الشيخ وهو يغرق في الضحك: غفر الله لمسعود! غفر الله لمسعود! غفر الله لمسعود! قوم يضحكون، وقوم يبكون، إنما قصدت إلى دعابتك يا مسعود، ولو أردت الجد لما تحدثت إليك.
هنالك تهلل وجه مسعود ونهض مسرعا فأكب على رأس الشيخ يقبله وهو يقول: لقد كنت نذرت لله ألا يحج شيخنا الكبير إلا صحبته، فلما انتقل إلى جوار الله جددت النذر ألا تحج إلا صحبتك، لا يمنعني من ذلك إلا أن أبلغ أرذل العمر وتعجز قدماي عن حملي. فأعاد الشيخ مقالته: غفر الله لمسعود! ثم قال في صوت ملؤه الجد: فأما وقد نذرت هذا النذر فأنت صاحب حجنا منذ الآن، فدبر أمر سفرنا وإقامتنا، وأنفق على ذلك من مالنا فإن فيه سعة. قال مسعود: ومن مالي فإن فيه سعة أيضا. وقال بعض الحاضرين: أفلا نؤذن عليا بما آذننا به مولانا الشيخ؟ فسكت الشيخ حينا ثم قال: لا تفعلوا؛ فإن عليا لا يحج العام. وعرف علي ما كان من حديث الشيخ إلى أصحابه، ولكنه لم يتأهب للحج، ولم يزر الشيخ إلا لماما، ولم يخرج مع الناس لوداع القافلة، فلما كان الشيخ في بعض الطريق ذكروا له عليا وتخلفه عن الحج وتقصيره في الوداع، وتلا بعض أصحاب الشيخ قول الله عز وجل:
ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين . فلما سمع الشيخ هذه الآية ظهر الغضب في وجهه وقال: صدق الله العظيم، ثم أطرق ساعة، ثم رفع رأسه وقال في صوت تحطمه العبرة: لا تتل هذه الآية يا فلان، ولكن اتل قوله تعالى:
ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا
أما إن أخاكم لا يستطيع إلى الحج سبيلا، وقد كنتم أحرياء أن تبروه وترفقوا به وتصلوا خيرا مما فعلتم، ثم أطرق إطراقة قصيرة وهو يتلو:
ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا . ثم طال صمت الشيخ وصمت أصحابه، لا يقول الشيخ شيئا، ولا يجرؤ أحد من أصحابه أن يقول بحضرته شيئا، وصاحب المقالة مستخذ قد خفض رأسه حياء، والقوم قلقون لا يدرون كيف يستأنفون ما كان عليه أمرهم من غبطة ورضا، فلما طال عليهم هذا الصمت المخيف اجترأ مسعود فقال: سبحان الله! ثم اتجه إلى الشيخ وهو يقول في صوته المتهدج: ما إغراق مولانا في هذا الصمت المخيف؟ إنا كغيرنا من الناس نخطئ ونصيب، ولكننا نحسن أن نتوب إلى الله من خطايانا، فلا تعذبنا بهذا الإعراض، ومر بما تشاء. فرفع الشيخ رأسه وهو يقول: غفر الله لمسعود! أما فلان - يريد صاحب المقالة - فيغيب عني وجهه ثلاثة أيام، ثم يلقاني إذا صليت الصبح، فعسى الله أن يرضي عنه قلبي. هنالك تنحى صاحب المقالة مستخذيا لا ينظر إلى أحد، ولا يكاد ينظر إليه أحد، فلما انصرف قال الشيخ لأصحابه: لا تهجروا أخاكم، ولكن واسوه وأحسنوا النصح له، أما أنت يا مسعود، فإذا عدنا من حجنا، فازفف إلى خالد أهله، فإن ذلك سيرفه على علي. قال مسعود: سمعا وطاعة يا مولاي.
Halaman tidak diketahui