وكذلك كان يمضي في طريقه هذه، لا يفكر في عاقبة، ولا يحفل بموعظة، ولا يسمع لنصيحة، وإنما هو مندفع في حياته واقتضاء لذاته المباحة، كما يندفع السيل إلى الوجه الذي دفع إليه. فلا غرابة في أن تشغلنا حياته هذه عن حياة ابنه خالد، وقد كانت ضئيلة نحيلة في ظل هذه الحياة الضخمة العريضة التي تندفع أمامها لا تقف عند شيء ولا تلوي على شيء، وقد كان خالد مع ذلك حين عاد من القاهرة بعد أن رد امرأته وابنتيه إلى حميه مقسم النفس بين نوعين من الشعور؛ فقد كان في نفسه شعور بحزن مقيم مقعد حاول هو أن يفهمه فلم يستطع، ولكن فهمه مع ذلك يسير.
كان حزينا أيسر الحزن لفراق امرأته التي عاشرته أعواما ورزقته ابنتين، ولم تره في سيرتها معه إلا خيرا. وكان حزينا لأنه كان ينتظر لنفسه حياة غير هذه الحياة وحظا غير هذا الحظ: كان يرجو أن يتيح الله له زوجة صالحة يحبها ويسكن إليها ويرى فيها متعة عينه وقلبه وأم ولده وربة بيته وصاحبته، منذ بدأ هذا الطريق إلى أن ينتهي منها، ولكن الله لم يتح له هذه الزوج. وقد رضي مع ذلك بما قسم الله له، ورآه نعمة وفضلا، ولكن الله أبى أن يتم عليه هذه النعمة وأن يكمل له هذا الفضل، فكشف له الغطاء عن قبح امرأته، وامتحنه بهذا القبح حينا، فكاد يخفق في الامتحان، ولكنه حاول أن يثبت له، وكاد يخرج من المحنة ظافرا لولا أن الله قد ابتلاه بمحنة أخرى، فأغرى بامرأته جنية البيت، تلك التي تسكن حنايا السلم والتي جعلت تتراءى لها متى خلت إلى نفسها فتغرها وتضلها وتلقي في روعها الأباطيل، حتى أفسدت عليها أمرها، وسلبتها ما كان لها من عقل، وإذا هو مضطر - بعد أن ردها إلى أبيها - إلى هذه الحياة الفارغة المؤلمة، حياة الوحدة؛ فقد كان على كل حال يأنس إلى امرأته، فيرى في عشرتها راحة وروحا، وقد كان ينعم بطفولة ابنتيه، ويرى في ابتسامهما أملا ونعيما، وإذا هو قد حرم هذا كله ورد إلى وحدته الأولى، بل أين وحدته الآن من وحدته قبل أن يتزوج، فقد كان بين أم ترأمه وتحنو عليه، وبين أب يحبه ويؤثره بالكرامة، فأما الآن فهو غريب في دار أبيه بين هؤلاء الضرائر اللاتي لا ينظرن إليه ولا يحفلن به؛ لأنه لا يغني عنهن شيئا فيما يكون بينهن من تنافس وتباغض وخصام، وبين هؤلاء الصبية الذين يكثرون في كل يوم وينبتون كما ينبت العشب في الأرض، لا يدري كيف جاءوا.
فأما أبوه فقد كان عطوفا عليه حفيا به أيام محنته، فلما بعد بها العهد، شغل عنه بهذه الهموم الكثيرة التي لا يتركها في الدار إذا غدا إلا ليلقاها في المتجر، ولا يتركها في المتجر إذا راح إلا ليلقاها في الدار، وهو سعيد كل السعادة أن تركت هذه الهموم له طريقه حرة بين داره ومتجره، لم ينتظره في هذا الثني أو ذاك من أثناء الطريق، ولم يخرج له بعضها من هذا العطف أو ذاك من أعطاف المدينة. فهذا نوع من الشعور الذي كان يجده خالد عندما آب من القاهرة، ولكنه كان يجد نوعا آخر من الشعور ليس أقل من هذا النوع تأثيرا في قلبه وفي حياته العاملة بنوع خاص. فقد كان يشعر كأن حملا ثقيلا ألقي عن عاتقه، وكأن شيئا من الراحة والأمن رد إلى قلبه، ذلك أن لقاءه امرأته كل يوم مصبحا وممسيا، ونظره إلى ابنتيه وما كان بينهما من اختلاف، وموازنته بين ابنتيه وأمهما، كل ذلك كان يسوءه ويؤذيه، فقد أراحه الله من هذا السوء ورد عنه هذا الأذى، وأتاح له حياة فارغة، تؤذيه من غير شك، ولكن لا كما كانت تؤذيه حياته تلك الملأى.
وكذلك كان خالد يضطرب بين الحزن والرضا، وبين القلق والأمن، وكان إذا أحس الرضا صلى ودعا وقرأ القرآن حامدا لله على نعمته، وإذا أحس السخط صلى ودعا وقرأ القرآن مستعينا بالله على نقمته، وكان أشد ما يخاف أن يغري به الشيطان في وحدته على نحو ما كان يغري به قبل أن ترحل عنه زوجه، فكان يكثر من القراءة والدعاء والصلاة تحصنا من هذا الشيطان، ولكن الله صرف عنه الشيطان صرفا تاما، فكانت وحدته نقية حتى من التفكير في الإثم، وكانت عزلته طاهرة حتى من الشعور بأن له غرائز يجب أن ترضى، وقد هم أن يستأنف حياته الأولى، فيختلف إلى المساجد، ويتبع حلقات الذكر ويواظب على مجالس الوعظ، ولكنه لم يجد من نفسه نشاطا إلى هذه الحياة، وإنما وجد من نفسه شوقا إلى عمل أحسن غناء وأقرب نفعا من هذه الحياة المشردة، وقد ألقي في روعه أن التقرب إلى الله لا يكون بالاختلاف إلى هذه المساجد والحلقات ومجالس الدرس والوعظ فحسب، وإنما يمكن أن يكون بأن يظل الإنسان على ذكر من ربه دائما، يذكره إذا خلا إلى نفسه، ويذكره إذا لقي الناس، ويذكره حين يقدم على العمل أو يحجم عنه، فتكون خشيته لله هي التي تحمله على الإقدام أو الإحجام، وكان خالد على ذكر من ربه دائما، حتى إن أيسر انفعالاته كان يترجم عنه بهذه الكلمات التي تجري بها ألسنة الناس كثيرا، ولكنها لا تصدر عن قلوبها إلا قليلا، فكان إذا أنكر شيئا أو أسخطه شيء قال: سبحان الله. وإذا رضي عن شيء أو سره شيء قال: الحمد لله. وإذا أعظمه أمر يسر أو يسوء قال: الله أكبر. وإذا أحس من حوله شرا يدنو منه أو يبعد عنه قال: لا إله إلا الله.
وكان الناس يحبون خالدا في المدينة ويعجبون به ويودون لو أن أباه ترك له تجارته، وفرغ هو لما يعنيه من أمر دنياه وأمر دينه، ولكن أباه كان شديد النشاط لم يشعر بعد بالضعف، ولم يحتج بعد إلى الراحة، وهم خالد أن يعين أباه على تجارته، فلم ير من أبيه ابتهاجا بهذا العون، ولم ير من نفسه ميلا إلى التجارة، وكان له ابن عم لم نتحدث عنه إلى الآن - ويظهر أننا سنكثر الحديث عنه منذ الآن - كان له ابن عم يدعى سليما، توفي عنه أبوه محمد ولما يبلغ السنتين من عمره، فكفله عمه علي من بعيد، يقوم بحاجته ويشمله ويشمل أمه خديجة بالبر المتصل، ولكن خديجة توفيت عن ابنها ولما يتم العاشرة من عمره، فكفله علي من قريب، ضمه إليه، وأقره في داره، واتخذه لخالد أخا، فكان يقسم بينهما حبه وعطفه وبره، وتلقت أم خالد هذا الصبي لقاء حسنا، فبرته ورفقت به كما كانت تبر ابنها وترفق به، ورحم الله أم خالد! فقد كانت خيرة من جميع نواحيها، ولم تكن أم خالد إذا تحدثت إلى ابنها عن سليم تقول له: ابن عمك قال كذا أو كذا أو فعل كذا أو كذا. وإنما كانت تقول له: أخوك قال أو فعل.
وكان سليم يكبر خالدا بثلاثة أعوام، فكانت أم خالد تلقي دائما في روع ابنها أن سليما أخوه الأكبر وأن له عليه حق الكبير على الصغير، وقد أنفق خالد صباه وهو مؤمن بأن سليما أخوه، لم يتبين حقيقة الصلة بينهما إلا حين تقدمت به السن شيئا، ولكن ذلك لم يغير من سيرته مع سليم قليلا ولا كثيرا، أحبه دائما، وأكبره دائما، ووقره دائما، وآثره دائما على إخوته بعد أن كثروا، فلم يكن يولي أبناء العلات من إخوته وأخواته إلا ميلا قليلا وعطفا معتدلا، فأما سليم فقد كان له وده كله وإخاؤه كله، حتى كان الناس يضربون المثل بما كان بين هذين الشابين من تعاطف ومودة.
وقد تتابعت الأيام والأشهر والأعوام ومضى جيل من الناس وأقبل جيل، فلم يكد الجيل الطارئ يشك في أن خالدا وسليما أخوان أبوهما علي وأمهما تلك التي يقسم لها علي بعد أن ماتت يومها فيما يقسم من أيامه بين نسائه، وكان الشيوخ يبسمون في حنان ورضا إذا سمعوا أحاديث الشباب بذلك، وقلما كانوا يردونهم عن هذا الخطأ الذي يصور مثلا نادرا للمودة والإخاء. وقد بعدت الأسباب شيئا بين هذين الصديقين الأخوين حين بلغ سليم رشده وأسلم إليه علي ما ترك له أبوه، ولم يكن شيئا ذا غناء؛ فقد جد الفتى واجتهد وأصلح من أمره، واتخذ لنفسه زوجا أحبها وأحبته، وأقام مع امرأته في دار خاصة به مقصورة عليه، فآذى ذلك عمه بعض الشيء أول الأمر، ثم اطمأن إليه بعد ذلك، وكانت زبيدة زوج سليم معتدلة الجمال، ولكنها كانت خفيفة الروح كثيرة المرح والدعابة في براءة وطهر وخفر، وكانت أسباب المودة قد اتصلت بينها وبين نفيسة على ما كان بينهما من اختلاف في النشأة والتربية، ومن اختلاف في المنظر بنوع خاص؛ فقد نشأت في القاهرة، ونشأت مترفة في بيت ثروة وغنى، على حين نشأت زبيدة في المدينة وفي أسرة لا تكاد تبلغ الطبقة الوسطى من الناس. وكان الصديقان الأخوان سعيدين بهذه المودة المتصلة بين زوجيهما، ينتظران منها خيرا كثيرا، وآية ذلك أن «جلنار» لم تكد تبلغ الشهر السادس من عمرها حتى خطبتها زبيدة لابنها سالم، وكان سالم في الثانية من عمره، وتضاحكت المرأتان لهذه الخطبة، وقالت نفيسة لصاحبتها: إنك لتسيئين الاختيار لابنك، فأين أنت من سميحة وهي على ما ترين من جمال ورواء؟! قالت زبيدة ضاحكة: إن سميحة أكبر من سالم، وإني أرى البركة في جلنار، وإن اسمها يعجبني، فإنه من أسماء «الذوات»، وسيسعدني أن أسمع ابني يدعو زوجه، فيقول: يا جلنار. فأما سميحة فاسم بلدي كاسمك وكاسمي. وأي فرق بين سميحة وحميدة وخديجة. قلت لك: إني أخطب جلنار، ولن يتزوج ابني إلا جلنار. وكان الصديقان الأخوان قد جلسا غير بعيد، فلما سمعا هذا الحوار أعجبهما، قال خالد لسليم: أتسمع؟ قال سليم: أسمع. قال: أرضيت؟ قال سليم: رضيت. قال خالد: فامدد يدك ولنقرأ الفاتحة. فبسط سليم يده، وتصافح الرجلان وقرءا الفاتحة. ولم تشك الأسرتان منذ ذلك الوقت في أن سالما وجلنار زوجان، ولا سيما حين سمع علي هذا النبأ، فأقر الخطبة وبارك الخطيبين، ورفع الأمر إلى الشيخ فأقره ودعا للعروسين، وانتهى النبأ إلى عبد الرحمن في بعض زياراته للمدينة، فقال لسليم وهو يبتسم: فإن ابنك ابني منذ اليوم.
أقبل خالد ذات يوم بعد محنته على صديقه وأخيه، فتحدث إليه في شيء من أمن وثقة وقال له فيما قال: إنه ضيق بالحياة التي يحياها؛ فقد بلغ الخامسة والعشرين من عمره وليس له عمل يطمئن إليه ويكسب منه قوته، وقد تركت له أمه شيئا، ولكنه لا يدري أين هو فقد اختلط بمال أبيه، وأبوه لا يبقي على شيء، وقد أحب أن يعمل مع أبيه في التجارة فلم يجد من نفسه ولا من أبيه ارتياحا إلى ذلك، وهو لا يشكو من أبيه بخلا ولا تقتيرا، ولا يذكر أن أباه قد أنكر عليه تصريحا أو تلميحا هذه الحياة الفارغة التي يحياها، ولكنه هو ينكر هذه الحياة أشد الإنكار ويمقتها أعظم المقت، وقد أخذت أسرة أبيه تعظم وتمتد، وأخذ بنوه وبناته يكثرون، وما يحب أن يرزقه أبوه كما يرزق هؤلاء الصبية الصغار، أو كما يرزق هؤلاء النساء المحمقات.
قال سليم: أما انصرافك عن التجارة، فإني أراه الخير كل الخير؛ فليس لك ولا لي ولا لأمثالنا في التجارة أرب. إنا لم نخلق لها أو قل: إنا خلقنا لتجارة قد انقضى عهدها، ألا ترى إلى هذه المتاجر الجديدة! أين منها متجر أبيك ومتاجر أصحابه الشيوخ! صدقني! إن مثلك ومثلي من الشباب ينبغي أن يتخذوا لأنفسهم أعمالا جديدة. ألا ترى إلى هذه المناصب الحكومية الكثيرة في المديرية والمراكز والمحاكم والدائرة السنية؛ إن كثيرا من الشباب يأتون من القاهرة أو من أقاليم غير إقليمنا يعملون في هذه المكاتب والدواوين، فما لنا لا نعمل كما يعملون!
قال خالد: فإنا لم نهيأ لعمل الحكومة. قال سليم: فإنا نحسن القراءة والكتابة والحساب، ولسنا بالمغفلين ولا بالحمقى، وما أريد أن يكون أحدنا مديرا أو مأمورا، وإنما يكفيك ويكفيني منصب الكاتب في هذا الديوان أو ذاك؛ أما أنا فأحب أن أكون كاتبا في المديرية. قال خالد: وأما أنا فأحب أن أكون كاتبا في المحكمة الشرعية. قال سليم وهو يضحك: طبعا بين المفتي والقاضي والمأذون. قال خالد: بين العمائم على كل حال. ثم سكت الفتيان حينا، ثم قال خالد لصاحبه: إن هي إلا أحلام يا سليم؛ فقد علمت أن هذه المناصب لا تنال إلا بالواسطة. قال سليم وهو يضحك: ألستم تقرءون في أورادكم: «إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط.» قال خالد: لا تعبث بأورادنا فإني أخاف عليك عاقبة هذا العبث. قال سليم: فإني لا أعبث بشيء، وإنما أبحث عن الواسطة وقد وجدتها. قال خالد: وجدتها؟ وما عسى أن تكون؟ قال سليم: كلمة من شيخنا في أمرك وأمري إلى الباشا تبلغنا ما نريد.
Halaman tidak diketahui