ولم يكن عبث الشيطان بنفيسة أقل من عبثه بخالد، ولكنه كان من نوع آخر، فلم يكن الشيطان يغريها بفتنة ولا يدعوها إلى إثم، وإنما كان يعرض عليها صورتها البشعة في كل وجه توجه إليه طرفها، ثم يعرض عليها نساء حسانا رائعات الحسن ويلقي في روعها أن زوجها يتمثلهن ويفكر فيهن ويتمناهن، وأن أصدقاءه وأترابه والنساء من أسرته يغرونه على الزواج ويحرضونه على أن يدخل عليها في دارها ضرة، ثم يصور لها حياة الضرائر وما يكون من هذا الحقد البغيض والتنافس المنكر في أحط ما يتنافسن فيه، وما يكون بينهن من الكيد والغدر، وما يدفعن إليه من الإثم والخزي، وكان الشيطان يتبع نفيسة حيثما وجهت من دارها، فلا تكاد تلقى زوجها حتى يصوره الشيطان لها منصرفا عنها ضيقا بها زاهدا فيها، فلا تكاد تسمع صوت زوجها حتى يخيل الشيطان إليها أن هذا الصوت يقطر بغضا لها ونفورا منها، وكان الشيطان مع ذلك يذكي في نفسها غرائز الحب، فإذا هي لم تكلف قط بزوجها كما تكلف به الآن، ولم ترغب في التلطف له والرفق به كما ترغب فيهما الآن، ولم تحتج قط إلى حنان زوجها وعطفه كما تحتاج إليهما الآن، وكل ذلك مصروف عنها أشد الصرف وأقساه، وكذلك أصبحت الحياة جحيما بين الزوجين. ويروح خالد على أهله ذات ليلة، فإذا صعد في السلم سمع نشيجا مؤلما، فيسرع الخطو، وإذا هو أمام امرأة قد نثرت شعرها، ومزقت ثوبها، وخمشت وجهها حتى أسالت منه الدم، وهي تضرب صدرها ضربا عنيفا، وتنتحب انتحابا يفطر القلوب، فيقف خالد واجما أول الأمر، ثم يرفق بامرأته، ولا يزال يسألها عن أمرها حتى تجيبه في شهقتين: تمثلت لي الليلة امرأة زعمت أنها جنية البيت، وأنها تسكن في حنايا السلم، وزعمت لي أنك قد تزوجت اليوم أو أنك متزوج غدا، ثم تعود إلى شهيقها فتغرق فيه، وإلى وجهها وصدرها فتشبعهما لطما وصكا، وخالد يضرب إحدى يديه بالأخرى ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون!
ولم ينم خالد من ليلته، وإنما قام عند امرأته ذاكرا لله تاليا للقرآن، داعيا مستعيذا من الشيطان، واضعا يده على رأس نفيسة، مؤمنا بأن هذه الآيات والأدعية التي كان ينطلق بها لسانه في صوت مرتفع بعض الشيء فيه كثير من الإيمان وكثير من الخوف، لا تصدر عن فمه فتشيع في الغرفة وتطرد الشياطين فحسب، ولكنها تصدر عن جميع جوارحه بعد أن تجري مع دمه في عروقه كلها كأنها الروح اللطيف الحار. وليس من شك في أن طرفا منها يصل إلى هذا الرأس المتقد المضطرب، ثم يجري في جسم نفيسة كله، فيشيع فيه برد الراحة وحلاوة الأمن والهدوء.
والواقع أن نفيسة أقامت على ثورتها وانتحابها حينا، ثم أخذت رعدتها تخف، ودموعها تجف، وشهقاتها تهدأ، وتفصل بينها لحظات طوال أو قصار، حتى إذا مضت ساعات من الليل كانت نفيسة قد فقدت قوتها ونشاطها، ولبثت في مكانها هامدة جامدة، ثم هوت إلى جنبها كأنها البناء المنهار. ولم يشك خالد في أن روحا من الله قد مسها فردها إلى الدعة والهدوء. ولكنه على ذلك لم يتركها، وإنما جلس منها غير بعيد، ومضى في ذكره لله وتلاوته للقرآن، واستعاذته من الشيطان. وحسنا فعل؛ فلم يكد يصيح الديك حين قارب الليل ثلثيه حتى هبت نفيسة مذعورة، ثم نهضت قائمة، وأخذ صوتها يرتفع بالنشيج، وأخذت يداها تعملان في وجهها وصدرها لطما وصكا. هنالك وثب خالد كما وثبت، ثم أسرع إليها فأجلسها، وقام منها مقامه أول الليل، يده على رأسها، ولسانه ينطلق بالقرآن والدعاء، وبعد لأي ثابت إلى الهدوء، ولبث هو قائما يذكر ويتلو، حتى سمع صوت المؤذن يرجع: «سبحان فالق الإصباح.»
وقد أقام مكانه حتى رأى الشمس تسعى إلى الغرفة في استحياء، ثم يزول عنها الحياء قليلا، وإذا هي تغمر الغرفة في جرأة أشبه شيء بالوقاحة. كذلك كان يفكر خالد في إشراق الشمس ودخولها إلى غرفته ذلك الصباح، ومع ذلك فما أحب شيئا قط كما أحب شروق الشمس، ولا داعبت نفسه شيئا قط كما داعبت هذا الضوء الضئيل الذي ينفذ من الأفق كأنه السهم، ثم لا يزال يمضي أمامه ويمتد من جميع أقطاره حتى يوقظ الأرض والسماء جميعا، ويملأ ما بينهما بهجة وجمالا، ولكنه كان في ذلك اليوم مثقل القلب والنفس بحزن يشبه الموت، ولولا فضل من إيمان وبقية من تقوى وهذا القرآن العذب الذي كان يرتله ترتيلا لثارت نفسه ولانتهت به الثورة إلى جموح يخرجه عن طوره ويدفعه إلى ما لا صلاح له من الأمور، وما الذي جنى من الذنب وما الذي اقترف من الإثم حتى يمتحن في نفسه وأهله وعمله إلى هذا الحد؟! إنه لم يطلب إلى أحد أن يزوجه، ولم يفكر في الزواج، ولم يختر زوجه حين دعي إلى أن يتزوج، وإنما تتابعت الأمور عليه كأنها الصواعق يقفو بعضها إثر بعض، وإذا هو في القاهرة، وإذا هو زوج، وإذا هو بعد ذلك أب مرتين، وإذا كل ذلك لا يذيقه إلا سرورا قليلا وحزنا كثيرا، ولكن قضاء الله لا مرد له، وحكمة الله لا تأويل لها، والمؤمن حقا هو الذي يذعن للقضاء ويصبر على المحنة، ولا يسأل الله عما يفعل؛ فهذا كفر به وشك فيه، ولا يسأل الله رد القضاء؛ فقضاء الله لا يرد، وإنما يسأله اللطف فيه، فالله لطيف بعباده، وقد قال:
ادعوني أستجب لكم . وخالد يدعوه ويدعوه. لا يفتر لسانه عن ترديد هذين الدعاءين اللذين تجري بهما ألسنة الشيوخ في الريف: «اللهم الطف بنا فيما جرت به المقادير. اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه.» وقد رأى امرأته آخر الأمر هادئة مطمئنة تبسم لضوء الشمس، لكنها ساكتة لا تنطق بحرف، ساكتة لا تأتي حركة. فلما سألها عن حالها لم تجبه كأنها لم تسمعه، فأعاد عليها السؤال مرة ومرة، ولكنه لم يسمع لسؤاله جوابا. ولم ير أمامه إلا تمثالا بشعا على وجهه ابتسامة بشعة تزيده قبحا وتشويها، وقد امتدت عيناه كأنما تنظران إلى شيء بعيد لا يرى، وهو كذلك هامد جامد كأن ليس له حظ من حياة.
هنالك انسل خالد من غرفته في رفق وأسرع إلى أبيه، فإذا هو جالس في مصلاه من غرفة أم خالد يسبح ويحمد ويكبر، وأمامه كأسان من القهوة وقطعة من الخبز الجاف وقليل من الملح، لم يمدد إلى شيء من ذلك يده بعد؛ لأنه لم يزل في صلاته ودعائه، فلما رأى ابنه مقبلا ولم يكن تعود أن يراه في مثل هذه الساعة من النهار، ولا في مثل هذا المكان من الدار، رفع صوته بما بقي من فمه من الدعاء والتسبيح: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله وتعالى بكرة وأصيلا، ثم تحول إلى ابنه وهو يقول: أصبح بخير يا ابني! ما وراءك؟ قال الفتى في صوت منخفض: أصبح بخير يا أبت! إن ورائي إلا خير، فقد ألم بنفيسة بعض المرض. قال علي: وما ذاك؟ قال خالد: أحسب أن طائفا من الشيطان قد مسها، ثم قص على أبيه الخبر في جمل قصار، والشيخ يصغي إليه في شيء من الوجوم. فلما فرغ الفتى من حديثه لم يزد الشيخ على أن قال: ألهمك الله الصبر يا بني وغفر لي ورحم أمك! فقد أنبأتني يوم زواجك بأني لا أزيد على أن أغرس في دارنا شجرة البؤس.
ثم أراد الشيخ أن يكون شجاعا فهم أن يمد يده إلى قطعة الخبز ولكنها لم تمتد. فهم أن يمدها إلى كأس القهوة ولكنها لم تمتد، وإذا عيناه تغرورقان بالدمع، وإذا هو يقول في صوت متقطع في حلقه: «اللهم إنا لا نسألك رد القضاء، ولكن نسألك اللطف فيه.» وابنه يجثو بين يديه خاشعا، فقبل رأسه صامتا، ثم يتحول عنه، فيقدم إليه إحدى كأسي القهوة، فيأخذها منه، ويتناول هو الكأس الأخرى، فيشربان كأنهما الصديقان. ولم يكن خالد قد شرب القهوة بمحضر أبيه قبل اليوم. وقضت الدار نهارا غريبا؛ رجلان يختلفان إلى غرفة نفيسة، كلاهما يتلو القرآن ويجأر بالدعاء، وعمات خالد ونساء أبيه قد ملأن الدار يطوفن بالبخور مهمهمات متمتمات، منهن من تدعو الله ومنهن من تدعو الشيطان، وقد اجترأت إحداهن فذكرت حفل الزار، ولكن عليا ثار لذلك وزجر النساء زجرا عنيفا، وأقسم لتأوين كل واحدة منهن إلى غرفتها، ولينقطعن لغطهن الثقيل البغيض، ثم أقام يخالف مع ابنه إلى غرفة نفيسة، حتى إذا صليت العصر خرج من الدار يقصد قصر الشيخ. وقد انتهى إليه، فرآه في نفر من أصحابه يسمع منهم ويقول لهم. فلما رآه الشيخ مقبلا من بعيد لمحه لمحة خاطفة، ثم قال في صوت هادئ: إن لعلي اليوم لشأنا. وقد عرف القوم أن قد كان لعلي شأن: فقد دنا من الشيخ وألقى في أذنه بعض الهمس، وإذا الشيخ ينهض ويأخذ بيد علي، وإذا هما يسعيان إلى باب يفتح لهما في صدر المجلس، ثم يغلق من دونهما، وقد قص علي على شيخه خبر نفيسة، فاستمع له الشيخ، حتى إذا فرغ من حديثه بسط الشيخ يديه ورفع رأسه، ولم يزد على أن قال: «اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه.» ثم أطرق وجعل فمه يهمهم وحبات سبحته الغلاظ تساقط بين أصابعه، حتى إذا أتم دورة السبحة رفع رأسه إلى علي وقال: وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب؛ قم يا بني فأنبئ عبد الرحمن بمرض ابنته، فما ينبغي أن يجهله، وما أشك في أنه سيقبل مسرعا، ثم ابتسم وقال: وسيتيح لنا ذلك أن نراه فقد بعد عهدنا به، ثم نهض ونهض معه علي وفتح لهما الباب وأغلق من دونهما، وإذا الشيخ بين أصحابه قد جلس إليهم يسمع منهم ويقول لهم، وإذا علي منصرف إلى داره ونفسه تتقطع حسرات؛ فقد كان يظن أن الشيخ سيصحبه إلى الدار، وسيدخل على نفيسة ويدعو لها بالشفاء، ولو قد فعل لردت نفيسة إلى خير ما كانت عليه من الصحة والعافية.
الفصل الثامن
أقبل عبد الرحمن بعد أيام وفي نفسه قلق لم يبلغ الجزع، فلم يكن علي قد أنبأه بأكثر من أن ابنته مريضة، ومن أن من الخير أن يراها وأن تراها أمها، وكان عبد الرحمن رجلا جلدا صبورا عظيم الاحتمال، قد امتحنته الأيام في ابنيه جميعا، فلم يتخلع قلبه، ولم يخرج من وقاره المألوف، وإنما بلا مرارة الحزن إلى أقصاها واصطلى نار الألم إلى أشدها، وهو ثابت لا يضطرب، وقور لا تزدهيه الخطوب، يرحمه الناس ولكنهم يعجبون به ويعجبون منه. وهو ماض في حياته، محتمل لأثقالها، ثابت لعواصفها، يشهد الصلوات الخمس في المسجد، ويتلو ورد السحر في آخر الليل، ويختلف إلى متجره وجه النهار وآخره، فيعمل ويرى أعوانه يعملون ، قليل الكلام كثير الصمت، لا يغفل قلبه عن ذكر الله، ولا تنسى نفسه أن تستخرج من آلامه مواعظ وعبرا، وهو يرحم امرأته ويشفق عليها، ويحيطها بشيء من عطف يوشك أن يكون قسوة؛ فهو لا يحب البكاء كما أنه لم يكن يحب الفرح؛ وإنما يريد لامرأته أن تكون مثله هادئة، رزينة كاظمة للغيظ، صابرة على الخطب مسلمة أمرها إلى الله، قابلة قضاءه في رضا، منتظرة قضاءه في ثقة، فلما جاءه النبأ بأن ابنته مريضة، وبأن الخير أن يراها وأن تراها أمها، لم يظهر امرأته على شيء، وإنما زعم لها أنه مسافر إلى الأقاليم في بعض ما كان يسافر له من التجارة.
فلما وصل إلى المدينة ولقي عليا وخالدا، قال لهما في صوته الهادئ وعلى ثغره ابتسامته المطمئنة: لم أخبر أم صالح بشيء ولم أكلفها مشقة السفر، فإن تكن نفيسة قادرة على الرحلة إلى القاهرة، فالخير أن تمرض هناك وأن ترى أمها في دارها، وإن تكن غير قادرة على الرحلة مرضناها هنا حتى يكون لها حظ من برء، فتتم شفاءها في القاهرة. كذلك قدرت ولله تقديره، وهو يقضي فينا بما يشاء. ولم يرد مع ذلك أن يستريح ولا أن يشرب القهوة، وإنما صمم في هدوء على أن يرى ابنته قبل كل شيء، قال علي: ستراها ولكن ... قال عبد الرحمن: ولكن ماذا؟ أتراكما خدعتماني وأنبأتماني بمرضها بعد أن بلغ الكتاب أجله؟ قال علي: لا؛ ولكن مرضها غريب. قال عبد الرحمن: مرضها غريب! لقد كانت غريبة الأطوار في طفولتها وصباها، أفتراها قد جنت؟ فأما علي فلم يجب. وأما خالد فأجهش بالبكاء. وأما عبد الرحمن فرفع يده إلى جبهته وظل كذلك حينا، ثم مسح إحدى يديه بالأخرى وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم أقام مكانه لم يظهر ميلا إلى لقاء ابنته، وإنما قال لخالد: اطلب لنا القهوة يا بني. وأغرق بعد ذلك في صمته، حتى إذا جاءت القهوة وشرب منها كأسين قال مبتسما: والصبيتان ما خطبهما؟ قال علي: هما بخير، روعتا شيئا أول الأمر، ثم حيل بينهما وبين لقاء أمهما. قال عبد الرحمن: فأستطيع أن أراهما؟ قال خالد: نعم! ثم غاب ساعة وعاد ومعه ابنتان إحداهما آية في الحسن والأخرى آية في القبح! فلما رآهما عبد الرحمن ضمهما وقبلهما ومسح على رأسيهما، ثم قال لخالد: ردهما إلى لعبهما، فقد كانتا تلعبان من غير شك، ولم يكد خالد ينصرف بالصبيتين حتى انحدرت من عيني عبد الرحمن دمعتان أسرع إلى تجفيفهما وهو يقول: «اللهم عفوك ومغفرتك ورضاك؛ اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه.» ثم قال: ألم تر يا علي أني قد أحسنت حين لم أزعج أم صالح ولم أجشمها السفر؛ فحسبها ما تنتظر من هول. قال علي: هون عليك أبا صالح؛ إنما هي محنة وتزول. قال عبد الرحمن: أرجو ذلك إن شاء الله. ولكن مر فليهيأ للسفر إذا كان الغد، أما اليوم فإني أريد أن أزور الشيخ وأن أحدث به عهدا. ثم سكت قليلا والتفت باسما إلى خالد وهو يقول:
Halaman tidak diketahui