وانتظر وهو يفكر، ولكن الدكتور لم يحرك ساكنا، فسأله: ألن تكتب لي دواء؟ - كلا، لست قرويا لأقنعك بأهميتي بدواء لا يضر ولا يفيد، الدواء الحقيقي بيدك أنت وحدك. - وهل أعود كما كنت؟ - وأحسن، أنا رغم إرهاقي بالعمل ما بين الكلية، والمستشفى، والعيادة، أمشي كل يوم نصف ساعة على الأقل، وأتبع نظاما مناسبا في الغذاء. - لم أشعر يوما أني تقدمت في السن. - الكبر مرض، ولن تشعر به ما دمت تدفعه بحسن السلوك، هنالك شبان فوق الستين، المهم أن نفهم حياتنا. - أن نفهم حياتنا؟! - أنا لا أتفلسف طبعا. - ولكنك تداويني بنوع من الفلسفة، ألم يخطر لك يوما أن تتساءل عن معنى حياتك؟
فضحك الدكتور عاليا، ثم قال: لا وقت عندي لذلك، وما دمت أؤدي خدمة كل ساعة لإنسان هو في حاجة ماسة إليها، فما يكون معنى السؤال؟
ثم بجدية ودود: قم في إجازة. - إجازتي متقطعة عادة، كأنها ويك إند يستمر طيلة شهور الصيف. - لا، خذ إجازة طويلة بالمعنى، ومارس نظام معيشتك الجديدة، وسوف تبدأ بعد ذلك متجددا. - هذا ممكن. - توكل على الله، ليس بك إلا نذير من الطبيعة، فاستمع إليه، وعليك أن تنقص وزنك عشرين كيلو، ولكن على مهل، ودون عنف.
ضرب على ركبتيه، وانحنى انحناءة خفيفة تؤذن بالتأهب للقيام، ولكن الدكتور بادره: مهلا، أنت آخر زوار اليوم؛ فلنجلس قليلا معا.
اعتدل في جلسته باسما: دكتور حامد صبري، إني أعرف ما تريد، تريد طي ربع قرن من الزمان، وأن تضحك من أعماق قلبك مرة أخرى. - ما أجمل أيام زمان! - الحقيقة، يا دكتور، ما أجمل كل زمان باستثناء «الآن»! - صدقت، التذكر شيء، والمعاناة شيء آخر. - ثم يتبدد كل شيء بلا معنى. - لكننا نحب الحياة. هذا هو المعنى. - شد ما كرهتها في الأيام الأخيرة. - وها أنت تبحث عن الحب المفقود! خبرني، أما زلت تذكر أيام السياسة، والإضراب، والمدينة الفاضلة؟ - طبعا، وقد ولت جميعا، ولم يبق إلا سوء السمعة. - ومع ذلك؛ فقد تحقق حلم كبير، أعني الدولة الاشتراكية. - نعم.
الدكتور وهو يبتسم: وكنت تظهر لنا بأكثر من وجه، الاشتراكي المتطرف، المحامي الكبير. ولكن وجها منك رسخ في ذاكرتك أقوى من أي سواه، هو عمر الشاعر.
ابتسم ابتسامة عصبية ليداري امتعاضا مباغتا، وتمتم: يا لسوء الحظ! - هجرت الشعر؟ - طبعا. - ولكنك طبعت ديوانا فيما أذكر.
فخفض عينيه؛ حتى لا يقرأ فيهما توتره وضيقه، وقال: عبث طفولة لا أكثر ولا أقل. - بعض زملائي من الأطباء الشعراء يضحون بالطب في سبيل الشعر.
ذكرى غبراء كالطقس المنحوس، فمتى يسكت عنها؟
وواصل الدكتور: وأذكر من أقراننا القدامى مصطفى المنياوي، ماذا كنا نطلق عليه؟ - الأصلع الصغير! ما زلنا أصدقاء لا نكاد نفترق، وهو اليوم صحفي نابه، ومؤلف إذاعي تلفزيوني. - زوجتي مغرمة به جدا، وقد كان متحمسا مثلك، ولكن رأس الحماس كان عثمان خليل بلا جدال.
Halaman tidak diketahui