وهنا سمعا أول طلقة من طلقات المعركة، فلم يحفلا بها، واستمر سيرانو في حديثه يقول: أتحبينه برغم كل شيء؟ قالت: نعم برغم كل شيء، فقد غمر جمال نفسه جمال صورته حتى أصبحت لا أراها ولا أشعر بها، فاغتبط سيرانو في نفسه اغتباطا عظيما، وعلم أنه قد أشرف على السعادة التي ظل ينتظرها أعواما طوالا، ولم يبق بينه وبينها إلا كلمة أخرى ينطق بها، فإذا هي بين يديه.
في هذه اللحظة أقبل «لبريه» من ناحية الميدان مسرعا، وأسر في أذن سيرانو هذه الكلمة: «قد قتل كرستيان!» فانتفض وقال: وكيف قتل؟ قال: بأول قذيفة من قذائف المعركة، فاصفر وجهه وارتعدت فرائصه، وغشت على عينيه غمامة سوداء، فعجبت روكسان لأمره وقالت له: ما بك يا سيرانو؟ قال: لا شيء! قالت: أتمم حديثك، ماذا كنت تريد أن تقول لي؟ فصمت وأطرق هنيهة، وظل يقول بينه وبين نفسه: قد انقضى كل شيء، فلا أستطيع أن أقول شيئا، ولقد كان كرستيان صديقي وعشيري، فليس في استطاعتي أن أبني سعادتي على أنقاض شقائه! فظلت روكسان تنظر إليه ذاهلة حائرة، وتقول: ليت شعري ماذا جرى؟ وسيرانو مطرق لا يرفع رأسه، حتى أقبل جماعة من الجنود يحملون على أيديهم شيئا مسجى يشبه الجثة، فوضعوه ناحية، فارتعدت روكسان، وكأن نفسها حدثتها بما كان، فظلت تنظر إلى ذلك الشيء باهتة مدهوشة، وتقول: انظر يا سيرانو! ما هذا الذي أرى؟ أتدري ماذا يحمل هؤلاء الرجال؟ فانتبه إليها وقال: دعيهم وشأنهم يا سيدتي، واستمعي بقية حديثي، وحاول أن يجمع شتات ذهنه المبعثر فلم يستطع، فأخذ يتكلم كلاما مضطربا متقطعا، ويقول: كنت أريد أن أقول لك ... آه، ماذا كنت أريد أن أقول؟ لا أستطيع أن أقول شيئا، فقد انقضى كل شيء، كنت أريد أن أقول ... آه، قد تذكرت: أقسم لك يا روكسان أنك صادقة فيما قلت، نعم كان كرستيان كما قلت: فتى ... فقاطعته وصرخت صرخة عظيمة وقالت: كان؟! يخيل لي أنك ترثيه! ودفعته بيدها دفعة شديدة، وهرعت إلى الجثة، وكشفت الغطاء عنها، فإذا كرستيان في سكرة الموت.
فألقت بنفسها عليه، وقد أصابها مثل الجنون، وظلت تبكي وتنتحب انتحابا محزنا، وتصرخ صرخات مؤلمة، ثم لمحت في صدره الجرح الذي ينبعث منه الدم، فمزقت قميصها واقتطعت منه قطعة، وهرعت إلى موضع الماء لتبللها، ففتح كرستيان عينيه في تلك اللحظة وتأوه آهة طويلة، فدنا منه سيرانو وأكب عليه وهمس في أذنه: أبشر يا كرستيان، فقد بحت لها بكل شيء وخيرتها بيني وبينك، فاختارتك من دوني، وهي لا تحب أحدا سواك!
وعادت روكسان وفي يدها القطعة المبللة، فظلت تمسح بها الجرح، وتقول: إنه لا يزال حيا، وسيلتئم جرحه بعد قليل، وسيعيش بجانبي دهرا طويلا، أليس كذلك يا سيرانو؟ ثم وضعت خدها على خده، فشعرت ببرودة الموت تسري في جسمه، فاصفرت وتخاذلت أعضاؤها، وظلت تناجيه نجاءا محزنا مؤثرا، وتضرع إليه أن يعيش من أجلها؛ لأنها في حاجة إليه، ولا تستطيع أن تهنأ بالحياة من بعده، ثم وضعت يدها على صدره، فعثرت بذلك الكتاب الذي كان قد أخذه من سيرانو، فأمرت نظرها عليه فوجدته معنونا باسمها، ورأت عليه نقطة من الدم، وتلك القطرة من الدمع. فقالت: وا رحمتاه له! إنه كان يحدث نفسه بهذا المصير الذي صار إليه!
واحتضنته إلى صدرها وظلت تقبله وتلثمه، ففتح عينيه للمرة الأخيرة فرآها، فحاول أن يتحرك فلم يستطع، فشهق شهقة كانت فيها نفسه!
المعركة
وكانت المعركة قد اشتدت، ودوى الميدان بصرخات الجنود وصيحاتهم، وقعقعة السلاح وأزيز الرصاص، وهتاف القواد بالجند أن تقدموا، ولا تتقهقروا أيها الأبطال البواسل، وانتزعوا النصر من بين مخالب أعدائكم انتزاعا، فهاج الموقف نفس سيرانو، فجذب يده من يد روكسان - وكانت آخذة بها - ليهجم مع الهاجمين، فاستوقفته وقالت له: ابق معي قليلا يا سيرانو، فلقد مات كرستيان، وليس في العالم من يعينني على نكبتي فيه سواك، لقد كنت الرجل الوحيد الذي عرفه حق المعرفة، وأدرك ما اشتملت عليه نفسه من الفضائل والمزايا، فقل لي: ألم يكن في حياته عظيما؟ قال: بلى. قالت: وذا همة عالية لا تسمو إليها همم الرجال؟ قال: بلى. قالت: وذا نفس عذبة صافية كأنها قطرة الندى المترقرقة في الزهرة الناضرة؟ قال: بلى. قالت: وشاعرا عبقريا لم تطلع الشمس على مثله في عهد من عهودها الخالية؟ قال: بلى. قالت: لقد هوى ذلك الكوكب المنير من سمائه، وانحدرت تلك الشمس المشرقة إلى مغربها من حيث لا رجعة لها، فوا أسفا عليه! ثم صرخت صرخة تتقطع لها نياط القلوب، وألقت بنفسها عليه، وظلت ترثيه وتندبه، وتذرف فوق جثته جميع ما أودع الله عيونها من دموع، فوقف سيرانو وجرد سيفه من غمده وقال: إنها الآن تبكيني في بكائها على كرستيان؛ فيجب أن أموت!
وكان رصاص الأعداء يحصد الجاسكونيين حصدا ، فيتساقطون تساقط أوراق الشجر الجافة أمام الزوبعة الهائلة، وهم لا ينثنون ولا يتحلحلون، والكونت دي جيش في مقدمتهم يصيح بصوت عال: ها هو ذا جيش قائدنا قد اقترب، فاصبروا ساعة أخرى يتم النصر لفرنسا، فصرخ سيرانو: الوداع يا روكسان! واندفع إلى قمة التل، فاستقبله الكونت، واعترض طريقه وقال له: قف مكانك، لا تلق بيدك إلى التهلكة، فقد آن أوان الهزيمة أو هلك الجنود جميعا. قال: إن الجاسكونيين لا يتراجعون ولو أمرتهم بذلك، فكل أمرهم إلي ودعني وشأني، فإنني ناقم موتور أريد أن أنتقم لصديقي الذي ثكلته! وهنائي الذي فقدته، فاذهب أنت إلى روكسان ودافع عنها كما وعدتها حتى تبلغ مأمنها!
ثم صاح في الجنود: تشجعوا أيها الأصدقاء ولا تتقهقروا، فالحياة أمامكم، وليست وراءكم، فتقدموا أيها الأبطال وموتوا جميعا، فما في الموت شيء سوى أن تنقلوا مكان اجتماعكم من الأرض إلى السماء، موتوا فالموت أهون عليكم من أن تروا وطنكم ذليلا في يد أعدائكم، وقد مات أصدقاؤكم ورفقاؤكم، فما بقاؤكم في الحياة من بعدهم؟ رفرف علينا أيها العلم الصغير المطرز باسمها، وابعث في قلوبنا جميعا روح القوة والشجاعة لنموت عن آخرنا تحت ظلك الخافق!
فظل الجنود ثابتين في أماكنهم ومنجل القضاء يحصدهم حصدا، حتى وصل جيش العدو إلى قمة التل، وصاح قائدهم: ألقوا بأسلحتكم أيها القوم، فستموتون جميعا إن لم تسلموا ولا يجدي عليكم الموت شيئا! فأجابه سيرانو: لا يسلم إلا الأذلاء الجبناء، وما فينا جبان ولا ذليل! الهجمة الأخيرة أيها الأبطال؛ فها هي ذي طبول القائد الأعظم تدنو منا وتقترب، وليس بينكم، وبين النصر إلا كرة واحدة.
Halaman tidak diketahui