فقاطعه كرستيان وقال: «منخريه.»
فاهتز سيرانو في كرسيه يمنة ويسرة، وغلى دمه في رأسه غليان الماء في مرجله، ولكنه لم يتوقف، بل استمر في حديثه يقول: ... بين شدقيه لما حال بينه وبين ذلك حائل؛ لأنه صهر الكردينال، والكردينال هو كل شيء في فرنسا، ومرت بي ساعة ضعف كنت أقول فيها لنفسي - وهنا نظر إلى كرستيان كأنه يخاطبه - إنك قد عرضت نفسك أيها الرجل المسكين بتهورك وجنونك للهلاك الذي لا بد لك منه، ووضعت أصبعك بين الشجرة ولحائها، وليس بكثير على رجل قاس مستبد كهذا الرجل أن يرغم ...
فقاطعه كرستيان وقال: «أنفك.»
فتصامم سيرانو، وكأنه لم يسمع شيئا، وقال: ... إرادتك على ما يريد، ولكنني تجلدت واستمسكت، ولم أعبأ بهذه الاعتبارات جميعها، وقلت في نفسي: سر أيها الجاسكوني الحر، وامض في سبيلك قدما، لا تحفل بشيء مما يعترض طريقك، وقم بواجبك الذي حملت عبئه وعاهدت نفسك عليه، كما يفعل الحر الشريف، وبينا أنا أفكر في ذلك، إذ لمحت شقيا من أولئك الأشقياء يهيئ لي في هذا الظلام الحالك المدلهم ضربة قوية، فما هو إلا أن لمحتها حتى رغت منها بأسرع من ضربة السيف، فأفسدتها عليه، ولكنني لم ألبث أن وجدت نفسي في الحال وجها لوجه ...
فقاطعه كرستيان وقال: «أو أنفا لأنف.»
فزأر سيرانو زئيرا مخيفا، ووضع يده على مقبض سيفه وصاح: «يا لصواعق السماء ورجومها!»
فذعر القوم وأيقنوا بالشر، وأتلعوا إليه أعناقهم لينظروا ماذا يفعل، فلم يفعل شيئا، بل استمر في حديثه يقول: وجدت نفسي أمام مائة من الغوغاء الساقطين، تنم ثيابهم البالية وأزياؤهم القبيحة عن حقارتهم وسفالتهم، وتتصاعد من أردانهم القذرة روائح كريهة تملأ ... فقاطعة كرستيان وقال: «الأنف.»
فانفجرت شفتاه عن مثل ما تنفرج عنه شفتا الليث، ولكنه لم يلتفت إليه، واستمر يقول: تملأ الجو وتزهق النفس، فلم أتردد لحظة واحدة في الهجوم عليهم، ففتكت باثنين منهم، ثم أتبعتهما بثالث، وإذا بأحدهم يصوب إلي سهما ...
فقاطعه كرستيان وقال: «أنفيا.»
فلم يستطع على ذلك صبرا، وهب من مكانه هبوب العاصفة، وصرخ صرخة عظيمة: اخرجوا من هنا جميعكم ودعوني مع هذا الرجل وحدي!
Halaman tidak diketahui