واستمرت في حديثها تقول: وهو فوق ذلك شجاع مقدام، شريف النفس، عالي الهمة، يأبى الضيم ويأنف الذل، ولا يبيت على ضيم يراد به. قال: هيه؟ قالت: وهو جندي في فصيلة شبان الحرس، أي في فصيلتك يا سيرانو؛ فهمهم بين شفتيه: لم يبق في الأمر ريب. قالت: أما صورته فهي أجمل صورة خلقها الله في العالم! فصعق عند سماع هذه الكلمة التي ذهبت بجميع آماله وأحلامه، وتأوه آهة شديدة كادت تخرج فيها نفسه، فعجبت لأمره وقالت له: ماذا أصابك يا سيرانو؟ فتراجع إلى نفسه سريعا، واستجمع من قواه في تلك اللحظة ما يعجز أشجع الرجال وأصبرهم عن استجماعه فيها، وقال: لا شيء، لقد أحسست بوخز في يدي من تأثير الحمى، وقد ذهب الآن كل شيء، وصمت لحظة، ثم قال: نعم قد ذهب كل شيء، فتحدثي فإني مصغ إليك. قالت: لقد أحببت هذا الفتى حبا ملك علي عواطفي واستغرق مشاعري، ولا عهد لي به إلا منذ أيام قلائل، كنت أراه فيها يختلف إلى قاعة التمثيل، فيجلس منفردا وحده، فأنظر إليه من بعيد؛ وقد جئتك الآن أتحدث إليك في شأنه، فأطرق هنيهة ثم رفع رأسه إليها وقال لها بصوت ساكن هادئ: ألم تتحدثي إليه قبل اليوم؟ قالت: لم نتخاطب إلا بالعيون. قال: وكيف عرفت جميع هذه الصفات التي ذكرتها فيه وما حادثته ولا جلست إليه؟ قالت: سمعتها منذ أيام تحت أشجار الزيزفون في الميدان الملكي في مجتمع العجائز الفضوليات، لا حرمنا الله ثرثرتهن وفضولهن! قال: وهل هو من فرقة الشبان؟ قالت: نعم، شبان الحرس قال: أعترف لك يا سيدتي أنني قد عجزت عن معرفة اسمه، فقولي من هو؟ قالت: هو «البارون كرستيان دي نوفييت» قال: لا أذكر أني سمعت بهذا الاسم قبل اليوم. قالت: إنه لم يدخل الفرقة إلا في هذا الصباح، تحت قيادة «كاربون دي كاستل جالو».
فصمت هنيهة، ثم نظر إليها نظرة عطف وحنو وقال لها: ولكن يخيل إلي يا روكسان أنك تخاطرين بقلبك في هذا الحب مخاطرة عظيمة لا تدرين ما عاقبتها، وأنك تلقين بنفسك في هوة لا تعرفين السبيل إلى الخلاص منها، وكانت الوصيفة قد فرغت من طعامها في هذه اللحظة، فدفعت الباب وأطلت برأسها وقالت: قد أكلت كل شيء يا سيدي، فماذا أصنع؟ فالتفت إليها وقال: حسبك ذلك، فاقرئي ما على الأكياس من الأشعار، ولا تعودي إلا إذا دعوتك، فانصرفت وعاد هو إلى إتمام حديثه فقال: أنت يا ابنة عمي فتاة رقيقة الشعور، ذكية الفؤاد، لا يعجبك إلا التفوق والنبوغ، ولا تأنس نفسك إلا بالذكاء الخارق والفطنة النادرة، فماذا يكون شأنك غدا لو أن ذلك الفتى الذي أحببته واصطفيته لنفسك كان بليدا، أو عييا، أو ضعيف الذهن، أو خامل الفكر؟ قالت: لا يمكن أن يكون كذلك! قال: لماذا؟ قالت: لأن منظر شعره الذي يشبه في صفرته ولمعانه منظر شعر أبطال «أورفيه»، يدل على نبوغه وذكائه! قال: ربما كان جميل الشعر بديع الصورة، ولكنه بليد الذهن، ضيق العطن. قالت: لا أظن ذلك، بل يخيل إلي - وإن لم أجلس إليه ولم أسمع حديثه - أنه أرق الناس حديثا، وأعذبهم سمرا، وأفصحهم لسانا، وأغزرهم بيانا. فقال في نفسه: نعم، كل الألفاظ جميلة ما دام الفم الذي ينطق بها جميلا، ثم قال لها: ولكن ماذا تصنعين لو تبين لك أنه جاهل أحمق؟ قالت: إذن أموت هما وكمدا. قال: هذا الذي أخاف عليك منه.
وصمت هنيهة وهو يردد بينه وبين نفسه: وا رحمتاه لها! إنها على شفا الهاوية، ثم قال لها: وفي أي شأن من شئونه تريدين أن تتحدثي إلي؟ قالت: قد علمت بالأمس أمرا أحزنني جدا وأقلق مضجعي، فلم أطعم الغمض ساعة واحدة. قال: وما هو؟ قالت: علمت أن جنود فصيلتكم جميعهم من الجاسكونيين الجفاة، وأنهم لا يحبون أن يدخل فصيلتهم غريب عنهم، فإذا دخل ناوءوه وشاكسوه حتى يخرجوه! وربما تعللوا عليه العلل فبارزوه وقتلوه، ففطن لغرضها، وقال: نعم إنهم يفعلون ذلك، ولهم الحق فيما يفعلون، وخاصة إذا كان هذا الواغل عليهم أحد أولئك الأغبياء الجهلاء الذين ينتظمون في سلك الفرقة من طريق الشفاعات والوصايات، لا من طريق الكفاءة والاستحقاق. قالت: ذلك ما جئتك من أجله، فقد أعجبني موقفك الشريف الذي وقفته ليلة أمس أمام ذلك الفتى الوقح البذيء الذي حاول أن يهزأ بك، وينال من كرامتك، وامتلأ قلبي ثقة بما كنت لا أزال أعرفه لك طول حياتك من الشجاعة والحمية، وعلو الهمة وإباء الضيم، فأتيت إليك أسألك أن تتولى كرستيان بحمايتك.
فصمت سيرانو لحظة ذهبت نفسه فيها كل مذهب، وتمثلت له روكسان في صورتين مختلفتين، وقد وقفت إحداهما بجانب الأخرى: صورة امرأة عاشقة مستهترة تريد أن تسخره في غرض من أغراضها الغرامية، وتطلب إليه أن يضع يده في تلك اليد التي قتلته، وأتلفت عليه نفسه، وأن يكون صديقا لذلك الفتى الذي حرمه سعادته وهناءه وقطع عليه سبيل حياته، ووقف عقبة بينه وبين آماله وأمانيه، وصورة امرأة مسكينة ضعيفة من أقربائه وذوي رحمه، قد نزلت بها نكبة من النكبات العظام، ففزعت إليه فيها تسأله أن يعينها عليها، ثقة منها بفضله وكرمه، وهمته ومروءته، وهي لا تعلم من شئون قلبه شيئا، ولا تدري أن هذا الذي تفزع إليه فيه إنما هي نفسه التي بين جنبيه، وحياته التي لا يملك في يده حياة غيرها!
ثم ما لبث أن رأى الصورة الأولى تتضاءل في نظره وتتصاغر حتى تلاشت واضمحلت، وظلت الثانية ثابتة في مكانها بارزة واضحة، تنظر إليه نظرة الضراعة والاسترحام، وتبسط إليه يد الرجاء والأمل، فالتفت إليها وقد هبت من بين أردانه رائحة الكرم، وقال لها بصوت قوي رنان لا تتخلله رنة الحزن، ولا تمازجه نغمة اليأس: «كوني مطمئنة يا روكسان، فإني سأتولى حمايته!» وما علم أنه قد نطق في نطقه بهذه الكلمة بحكم الموت على نفسه.
فقالت له: شكرا لك يا ابن عمي، فسأعتمد على وعدك ما حييت. قال: اعتمدي ما شئت. قالت: وكن صديقه الوفي الذي يأخذ بيده في جميع شدائده ومخاطره. قال: بل أصدق أصدقائه. قالت: وحل بينه وبين التعرض لأخطار المبارزات والمشاجرات. قال: إنه لن يبارز أبدا. قالت: أتقسم لي؟ قال: لا؛ لأني ما تعودت الكذب، فتلألأ وجهها فرحا وسرورا وقالت: الآن يمكنني أن أنصرف آمنة مطمئنة، شاكرة لك فضلك الذي لا أنساه أبدا، ثم تناولت برقعها فألقته على وجهها وهي تقول: إنك لم تتمم لي حديث الواقعة التي جرحت فيها، فحدثني عنها قليلا، يا للعجب! مائة رجل كانوا ضدك؟ إنك كفء لكل عظيمة يا ابن العم! لا تنس أن تقول له: أن يكتب إلي اليوم كتابا، حدثني حديث الواقعة يا صديقي، مائة رجل؟ يا للشجاعة النادرة؟ إن كرستيان لا يعلم أني أحبه حتى الساعة، فكن أول من يحمل إليه هذه البشرى، وقل لي: كيف استطعت أن تلقى وحدك هذا العدد الكثير، أو قل لي ذلك فيما بعد؛ لأنني تأخرت كثيرا، ولا بد لي من الذهاب الآن!
ثم نهضت ومدت إليه يدها، فقبلها. فقالت: إلى اللقاء يا ابن العم، إني أنتظر من كرستيان كتابا اليوم، ثم انصرفت.
فوقف على عتبة الباب يشيعها بنظراته، حتى غابت عن عينيه، ثم عاد يترنح هما وحزنا، حتى وصل إلى كرسيه فتهافت عليه وهو يقول: إنها تعجب لشجاعتي في تلك المعركة، وأنا في هذه الساعة أشجع مني في كل موقف وقفته في حياتي!
وكان راجنو قد أحس بخروج روكسان، فأطل من باب الحجرة، فرأى سيرانو جالسا جلسته تلك، فصاح به: أيمكننا الرجوع الآن يا سيدي؟ قال: نعم، فأشار إلى أصدقائه الشعراء، فدخلوا جميعا، ودخل في تلك الساعة نفسها من باب المطعم «كاربون دي كاستل جالو»، قائد فرقة الحرس، وهو يهدر بصوت كالرعد: قد عرفنا كل شيء يا سيرانو، وإني أهنئك من صميم قلبي بذلك النجاح العظيم الذي أحرزته ليلة أمس على أعدائك المائة! فنهض سيرانو متضعضعا، وانحنى بين يدي قائده وقال: شكرا لك يا سيدي. فقال: ما لي أراك شاحبا مصفرا؟ وما هذه الغبرة السوداء المنتشرة على وجهك؟ يخيل إلي أنك قد لقيت في تلك المعركة عناء عظيما! قال: نعم يا سيدي. قال: إن ورائي ثلاثين جنديا من أبناء فرقتك قد اجتمعوا في تلك الحانة المقابلة لهذا المطعم، وهم يريدون تهنئتك والاحتفال بانتصارك، فاذهب إليهم وقابلهم، ثم قال: لا، بل لا بد أن يأتوا هم إليك بأنفسهم ليهنئوك، تكرمة لك وإعظاما لشأنك، ثم وقف على عتبة باب المطعم، وصاح بأعلى صوته: أيها الأصدقاء، إن البطل لا يستطيع الحضور إليكم؛ لأنه تعب قليلا فاحضروا أنتم إليه، وما هي إلا هنيهة حتى أقبل الجنود الثلاثون يزلزلون الأرض بخفق نعالهم وصلصلة أسلحتهم، ويطمطمون بلغتهم الجاسكونية: سانديوس - ميل ديوس - كاب ديوس - مور ديوس - بوكاب ديوس، ثم دخلوا، ففزع راجنو عند رؤيتهم، لما هاله من طول قاماتهم وضخامة أجسامهم، وقال لهم: أكلكم أيها السادة جاسكونيون؟ فأجابوا جميعا بصوت واحد: نعم، كلنا، ثم اندفعوا نحو سيرانو يقبلونه ويعانقونه، ويهزون يده ويهتفون: ليحي البطل، لتحي جاسكوينا، ليحي الجيش، وهو يتململ في نفسه ويتبرم؛ ولكنه كان يبتسم في وجوههم ويستقبل تهانئهم له بالشكر والارتياح.
وكان خبر تلك المعركة قد انتشر في أنحاء باريس جميعها، فوفد جمهور عظيم من الناس إلى المطعم ، يتقدمهم «لبريه» صديق سيرانو، وهم يصيحون: ليحي البطل، لتحي فرنسا، ثم دخلوا جميعا يركضون ويتدافعون، ويحطمون كل شيء بين أيديهم، وراجنو واقف مكانه يتأمل هذا المنظر الغريب بسرور وارتياح، ويقول: وا طرباه! ها هو ذا الفن يتوج اليوم في مطعمي! حتى بلغوا مكان سيرانو، فداروا به يهنئونه ويقبلونه، وكلهم يناديه: أيها الأخ، أيها الصديق، أيها الزميل، فيقول في نفسه: وا عجبا لكم أيها الناس! لم يكن لي بالأمس بينكم صديق، واليوم كلكم أصدقائي!
Halaman tidak diketahui