فأخذوا يصطفون كما أمرهم وهم يمجنون ويضحكون، كأنهم ذاهبون إلى مرقص، وهنا التفت سيرانو إلى الممثلة التي أعجبتها قصة لينيير، وقال لها: قد كنت سألتني أيتها الفتاة منذ هنيهة لم يتفق مائة رجل على رجل واحد مسكين؟ فأقول لك جوابا على ذلك: إنهم ما فعلوا ذلك من أجله، بل من أجلي؛ لأنهم يعلمون أني صديقه الذي لا يخذله، ثم أمر البواب أن يفتح الباب الكبير على مصراعيه ففعل، فتجلى أمامه منظر باريس العام في ضوء القمر الساطع، فوقف هنيهة يتأمل هذا المنظر البديع ويقول: آه! لقد طلع البدر وتلألأت أشعته، فاختفت باريس المظلمة، وحلت محلها باريس المنيرة، ها هي ذي النجوم اللامعة تسطع في سمائها، وها هي ذي أشعة القمر تسيل على منحدرات سطوحها، وها هو ذا نهر السين يرتجف تحت أبخرته البيضاء ارتجاف المرآة السحرية.
إن الطبيعة تهيئ لنا ميدانا جميلا للقتال الرهيب، فهيا بنا جميعا إلى «باب نيل».
ثم مشى، فمشى الجميع وراءه ينقلون خطواتهم على نغم الموسيقى.
الفصل الثاني
المتشاعرون
فتح راجنو طاهي الشعراء والممثلين مطعمه مبكرا كعادته، والطيور لا تزال جاثمة في أوكارها، فجلس بين يدي منضدته ينظم على ضوء المصباح قطعة شعرية في وصف «اللوزينج»، فكان يكب على أوراقه مرة ليقيد ما حضره من الأبيات، ويرفع عينيه إلى السماء أخرى ليستمد من إلهة الشعر روحها، ويستلهمها وحيها، ولم يزل على ذلك ساعة حتى بدأت الشمس ترسل أشعتها الأولى من خلال النوافذ والكوى، ودوت في المطبخ جلبة العمال وضوضاؤهم، وصلصلة الآنية والقدور، فألقى قلمه واعتدل في جلسته وتأوه آهة طويلة، ثم قال مخاطبا إلهة الشعر: وداعا أيتها الإلهة القوية القادرة، قد انقضى الليل وانقضى سكونه وهدوءه، وجاء النهار بجلبته وضوضائه، فدعيني الآن، واذهبي لشأنك غير مقلية ولا مجتواة، وموعدنا الليلة القابلة.
ثم مشى إلى المطبخ، فرأى في مدخله إناء من النحاس الأصفر قد ألقت الشمس عليه أشعتها الصفراء، فاشتد وميضه ولألاؤه، فوقف أمامه لحظة يتأمله ويقول: ها هي ذي الشمس قد استطاعت أن تصنع ما لا يصنعه الكيميائي الماهر، فقد حولت النحاس الأصفر بشعاع واحد من أشعتها إلى عسجد وهاج، ثم قال: ما أجمل هذا المعنى وأبدعه! لا بد لي من تقييده حتى لا يفلت من يدي إذا احتجت إليه، وأخرج دفتره من جيبه فقيده.
ثم وقف بأحد الغلمان وهو يشق بمدية في يده رغيفا إلى شقين. فقال له: لقد أخطأت القسمة أيها الغلام؟ فالمصراعان غير متوازنين، ورأى آخر يشوي في نصل واحد ديكا كبيرا وعصفورا صغيرا. فقال له: إنها طريقة الشاعر «مالرب» وهي لا تعجبني، فإما أن يكون البيت تاما كله، أو مجزوءا كله.
ومر بطباخ يطبخ مرقا في قدر، فتناول الملعقة وأدارها فيه ثم قال له: ما أرق هذا الحساء! إنه كالشعر المهلهل، وأنا لا يعجبني إلا الجزل المتين.
ووقف أحد العمال بين يديه وسأله: كم قيراطا تحب أن يكون ارتفاع قبة الفالوذج اليوم؟ قال: ثلاثة تفاعيل!
Halaman tidak diketahui