جلست عائشة إلى جانب المتنبي ذاهلة اللب مبددة الفكر، ولكنها بعد حين استطاعت أن تجمع أشتات خواطرها، وأن تنفض عنها قطرات الموجة التي غمرتها، ثم اتجهت إلى المتنبي وقالت: لعلك رأيت يا سيدي في مصر ما يسليك عن الشام؟ - لقد كان عيشي بالشام رغيدا، وكنت في كنف ملك عربي مجاهد، ولكن آدم ورث أبناءه السخط على النعيم، وعلمهم مفارقة الجنان. - متى تسمعنا قصيدتك الثالثة؟ - حينما تسنح الفرصة، وتهفو النفس إلى قول الشعر. - لو كنت أبا الطيب المتنبي، أو لو كان لي بعض تلك الهبة الغالية التي أنعم الله بها عليك؛ لملأت جنبات الوادي تغريدا، ولزاحمت الطيور في أوكارها، ولهززت الأغصان في أدواحها، ولأسمعت النيل في كل لحظة ألحانا تكاد ترقص لها أمواجه ويقف تياره. عجيب شأنكم أيها الشعراء! تضنون بفيض الله على خلق الله. لقد منحتم هبة ما بذلتم فيها جهدا، ولا مددتم لأخذها يدا، وهي نبع لا يغيض، وكنز لا يفنى، وهبها لكم واهب الجود وخالق الوجود، ومع هذا تمر الأيام أو الشهور فلا نسمع لكم إلا بيتا أو أبياتا قصارا! إني أعذر الشحيح بماله؛ لأنه جمعه ببذل الجهد، وإضناء الجسم والنفس، وإراقة ماء الوجه، ووصل الليل بالنهار، فهو به ضنين، وعليه حريص. أما أنتم فما عذركم في الضن؟ وما حجتكم على المنع؟ ثم ابتسمت لأبي الطيب، واستمرت تقول: دعني أعاتبك يا أبا الطيب: أقمت بيننا أشهرا فما اهتزت شاعريتك لوصف ما ترى من روائع المشاهد، ولا اجتذب نظرك جمال يوقظ فيك وسنان القريض! أين من شعرك النيل وأمواجه، وسفنه السابحات، وهو يتهادى بين الشاطئين كالملك بين رعيته يجود على الأرض بمائه تبرا، فتنثر عليه من أزهارها ياقوتا ودرا؟ وأين من شعرك تلك الأهرام العاتية التي لم ينحن ظهرها لعواصف الدهر وأحداث الزمان، والتي لو تحدثت بأخبار الملوك الذين أقاموا في ذراها، والجيوش التي مرت بها؛ لسمعنا حديثا عجبا يهدي إلى الرشد؟ أين من شعرك رياض مصر الباسمة، ومروجها الفاتنة، ونخيلها الباسقات، وأدواحها الظليلات؟ أحب يا أبا الطيب أن تكون شاعر الدنيا لا شاعر الملوك. أحب أن تصور لنا الحياة حلوة لذيذة كما نحب أن تكون. أحب أن يكون في شعرك أمل اليائس، وعلالة العاشق، وسلوة الحزين وهداية الحائر. إن الشعر دنيا جديدة خلقها الله للناس؛ ليفروا إليها كلما ضاقت بهم دنياهم، وجعل مفاتيحها في أيدي الشعراء، فافتح للناس يا سيدي من أبوابها ما ينقذهم مما هم فيه من بؤس وشقاء! صور لهم جمال الحياة يا أبا الطيب تصويرا يحبب لهم الحياة، واخلق لهم من رائع خيالك كونا جديدا فقد ضاق بهم على اتساعه هذا الكون اللعين.
كان أبو الطيب مطرقا معجبا بما يسمع، وكلما رفع بصره رأى جمالا أعجب مما يسمع وأروع، فثارت في نفسه ثائرة واهنة القوى من الميل، ولكنها لم تجد السبيل إلى قلبه المملوء بالمطامع والآمال. فاتجه إلى الفتاة وقال: إن فيما قلته كثيرا من الحق يا سيدتي عائشة، غير أنك ظننت أن الشاعر يستطيع أن يقول كلما أراد، ويستطيع أن يجيد كلما أراد، وصورت الشعر نبعا ليس على الشاعر إلا أن يملأ منه الوعاء ثم ينثره على الناس، ومزمارا يكفي أن ينفخ فيه الشاعر فيأتي بأبدع الألحان. لا يا سيدتي، إن الشعر صعب المرتقى، بعيد الملتقى. إنه طائر حذر خداع، طالما زحفت إليه على ركبتي ليلة كاملة في خفوت وتؤدة، ففر من يدي، ثم سمعته عند الصباح يغرد شامتا مع طيور الصباح، ورب قافية أعالجها في صبر وجلد كما يعالج الملاح سفينة في بحر مائج، فلا أكاد أظفر بها إلا بعد أن تكون قد تقطعت حبالي وتكسر شراعي. ليس الشعر بالسهولة التي تظنينها يا سيدتي عائشة، وإلا هان أمره، وكسدت سوقه؛ لأن قيمة كل شيء بما يبذل فيه من جهد، وكلما صعب منال الشيء غلا ثمنه وكثر التنافس فيه. أما أني لم أصف مشاهد مصر، ولم يهزني نيلكم الفياض، ولا هرمكم الرابض في ذيل الصحراء، ولا حدائقكم الزاهية الفيحاء، فلو تعلمين ما بي لأقللت من ملامي. أنا فارس يا سيدتي قبل أن أكون شاعرا. ثم نظر إليها طويلا وقال: أنا رجل جم المطامع بعيد المرامي. إن لي في الحياة مطلبا أسمى، طالما خفت أن يطغى عليه الشعر فيهدئ من عزمته، ويقصر من وثبته، وطالما خشيت أن أقنع عنه بالشعر فأخرج من هذه الدنيا ولم أ عمل شيئا إلا أن يقول الناس: كان أبو الطيب شاعرا مجيدا. أنا لا أريد هذا يا سيدتي؛ لذلك اقتصرت من الشعر على القدر الذي يكفي لبلوغ ذلك المطلب، ونيل تلك الغاية. هذا سر لم أذعه إلا لك. ثم ابتسم وقال: واعلمي أني لم أقصد الملوك إلا لأكون كالملوك. فنظرت إليه عائشة نظرة فيها ذهول وفيها حيرة وقالت: أنت بنيل هذه الآمال البعيدة حقيق يا أبا الطيب.
وهنا أقبل الجمع عليهما، ومدت الموائد وفوقها كثير من ألوان الطعام، فأكلوا بين الأفاكيه والطرف النادرة. ثم جيء بأواني الشراب، ومر السقاة على جماعة الشاربين، فأبى المتنبي أن ينال من الخمر شيئا، وألح عليه القوم فلج في الإباء، وطلبوا من عائشة أن ترجوه أن يشرب فأبت، واصطف القوم حول خمر المغنية فأصلحت عودها وغنت بقول ابن رشدين:
قل لمولاي منعما
لم هجرت المتيما؟
أنت أعطشتني إلي
ك وأبكيتني دما!
وكانت لؤلؤية الصوت، حلوة المذهب، فتملك الطرب القوم، وزادت النشوة في صخبهم، والمتنبي هادئ مطرق، كأنه لا يشعر بما حوله. ثم طلب منها الجمع أن تغني بشعر لابن أبي الجوع فانطلقت تغرد:
يا أطهر الناس روحا
وأطيب الناس راحا
Halaman tidak diketahui