أيدي بني عمران في جيهاتها
فصاح هذا تشبيه عز أن يناله خيال، من هذا الشاعر ناشدتك الله؟ قلت هو الذي يكيد له سيدي القاضي، ويصارحه بالعداء، ويدس له عند سيف الدولة! فصاح: هو المتنبي إذا. آمنت أنه الشاعر! إنه يا ابن أخي يحيينا بشعره، ولكنه يميتنا في اليوم ألف مرة بزهوه وإعجابه.
فضحك القوم، وابتسم المتنبي ابتسامة فاترة، ملؤها السخرية والأنفة . ثم قال في تعاظم: عجبا لهؤلاء القوم! إن لم أنزل إلى الوهدة التي تردوا فيها، والحمأة التي تمرغوا في دنسها، قالوا: إنني مزهو متكبر. إنهم يسمون الفضيلة عجبا، والإباء كبرا، والتنزه عن الدنايا تيها وصلفا، وماذا أصنع وقد خلق الله لي نفسا عزوفا عن كل ما يشين، طموحا إلى ما فوق السماء إن كان للسماء فوق؟ وإني أشهدكم أني ضقت بهم قبل أن يضيقوا بي. إنني طائر يعيش في غير وكره، وأمل حائر لا يجد له مستقرا، ولطالما نفرت نفسي من مجالسهم، واشمأزت من عبثهم ولهوهم. فإني إذا لم أعاقر الخمر معهم، قالوا جلف نابي الخلق سيء المعاشرة، وإذا لم أتدل إلى مغازلة النساء المتبذلات، قالوا: سمج الذوق، غير مصقول الطباع، وإذا لم أتخذ من الغلمان أسرابا وأسرابا كما يفعلون نبزوني بأسوأ الصفات، وأشنع الألقاب. فماذا أصنع في هؤلاء، والفجور عندهم محمدة، والسمو إلى معالي الأمور كبر وغرور؟ ولقد يذهب بي الفكر والهم أحيانا إلى أن أعتزم الرحيل عنهم، وقطع المفاوز دونهم، فإنه لا يزال في فسيح الأرض مضطرب للكريم الذي يطلب ما يعجز الطير ورده، ويبتغي ما هو أجل من أن يسمى.
دعاني منذ أيام أحمد بن نصر وزير سيف الدولة، إلى مجلس من مجالس أنسه ولهوه، فأبيت وأبيت، ولكنه أطال في الرجاء وألحف، فذهبت إلى داره كأنما أقاد إليها بالسلاسل. وماذا رأيت؟ رأيت طائفة من كبار المملكة، بينهم أبو فراس وأبو الحصين الرقي هذا الذي يزعم أن زهوي وإعجابي يميته في اليوم ألف مرة، ورأيت كثيرا من قواد الجيش، وأدعياء الشعر والأدب في هذه المدينة، رأيتهم وقد لعبت الخمر برءوسهم جميعا، فذهب عنهم العقل، وطار منهم الحياء، وكان السقاة يطوفون بالأكواب، فما مروا برجل إلا أفرغ كؤوسهم في بطنه، وشرب شرب الهيم، وكانت الجواري الروميات، وهن في أجمل زينتهن، يرسلن شباكهن لصيد القلوب وإثارة النزوات: بين غمزة ساحرة، وبسمة فاتنة، وانثناء لعطف، واهتزاز لنهد، وقبلات ترسل بالأكف، وإشارات تعبث بالعقول، وهمسات أثيمات، وذعر مصطنع، واستنكار مبتدع، ودلال ينسي الرجل عرضه، وإغراء يوقظ الفتنة النائمة، وقرب في تباعد، وتباعد في قرب، وغضب في طيه رضا، ورضا في غضونه غضب، وقامت بين القوم راقصة تكاد تكون متجردة فذهبت بالبقية من عقولهم، وأخذت ما تركته الخمر فيهم، وزينت النشوة لهذا الرقي قاضي حلب، الذي يكره مني زهوي وإعجابي أن يقوم ويرقص بين تصفيق والقوم، وترديد الألحان، وكان ينشد أبياتا عبث السكر بأوزانها، ولعبت بنت الحان بقوافيها. أما أنا فلم أستطع البقاء، فاتخذت من انصراف القوم إلى لهوهم سترا، وخرجت أتلفت ورائي، وأجمع من هذا الدنس أثوابي.
ذلك هو الذي يريدني هؤلاء المستهترون علي أن أفعله، وأن أشاركهم فيه، وإلا كنت ثقيل الظل، شائك الجانب، غليظ القلب فظا. لا يا صحابي إني خلقت من طينة غير طينتهم، ورميت إلى غاية غير غايتهم، وإذا كان لساني لسان شاعر، فإن قلبي قلب ... ثم ترددت قليلا، فقال المخزومي: قلب أسد؟ فالتفت إليه المتنبي، وقال: لا. كنت أريد كلمة أخرى ندعها الآن يا أبا الفرج. ثم أذن العصر، فقام من حضر للصلاة، وبقي المتنبي جالسا في متكئه يقلب في ديوان أبي تمام، وكان على منضدة أمامه، وكان يرسل إليه لمحات خاطفة، فمرة يبتسم احتقارا، وأخرى يهز رأسه استحسانا، وثالثة يمد شفتيه في استنكار وسخط.
فلما قضيت الصلاة حيا القوم أبا الطيب وانصرفوا، وبقي ابن سعيد قلقا ينفخ من الهم والغضب، فالتفت إليه أبو الطيب سائلا: ما لي أراك قلقا يا أبا الحسن؟ - لا شيء يا أخي، إلا أني سمعت اليوم حديثا أطار صوابي، وضاعفت من همي وحزني. فلقد علمت في هذا الصباح أن القوم يأتمرون بك، وأنهم لم يتركوا في كنانتهم سهما مسموما حتى رموك به. فخذ حذرك أبا الطيب، إني لك من الناصحين. - القوم يأتمرون بي؟! حياك الله وبياك يا أبا الحسن! ولكن ليس هذا بنبأ جديد. قل لهم ما قلته لغيرهم:
إني وإن لمت حاسدي فما
أنكر أني عقوبة لهم
وكيف لا يحسد امرؤ علم
له على كل هامة قدم - إن الأمر يا سيدي جد وما هو بالهزل، وإن أبا فراس وشيعته أعظم من أن يستهان بأمرهم، أو يفض الحديث عنهم ببيتين من الشعر، إنهم يكيدون لك، وينصبون لك الحبائل، ويمشون لك الضراء، فحاربهم بسيوفهم، واقتلهم بالسم الذي أعدوه لك. إن الفلسفة التي تسير بهديها، والتي تستريح إليك نفسك، وتهدأ بها هواجسك، لن تغني في هذا الزمان فتيلا. إننا يا سيدي نعيش في جو قاتم بالدسائس، مختنق بالفتن، ومن خطل الرأي أن يخطو المرء في أرض تزدحم بالأفاعي وهو لا يحمل ترياقا، أو يسير في مسبعة وهو لا يستصحب الحذر. لقد أزعج القوم إباؤك وشممك، وتلك المشية المزهوة التي تكاد تشم فيها عظمة الملك من أعطافك، وتلك النظرات المتسامية التي تعد من تحتها من الناس ذبابا أو نمالا. إن العظمة يا أبا الطيب لا يراها الناس إلا تحت رداء من التواضع، والنبل معنى تدركه العقول ولا تبصره العيون. خض مع الناس فيما يخوضون، وخذهم كما يكونون، واحتل إذا وجدت الاحتيال مطية لمآربك، وبش في وجوه قوم وقلبك يلعنهم. - لا. لا. يا أبا الحسن. ذلك عهد ودعته منذ حين، فإن ذا الوجهين لا يكون عند الله وجيها، ولن أفسد خلقي لفساد أخلاق الناس، ولن أضيع مروءتي بين ملق دنيء، وخداع وبيء. أنت تريدني على أن أقذف بأخلاقي ورجولتي في التراب؛ لأرتدي ثوبا من الرياء مخرقا، ولماذا؟ لأن طائفة من السادرين الآثمة الذين أعيش بينهم، تؤلمهم رؤية الفضيلة، ويؤذيهم أن يعتز المرء بنفسه. لا يا أبا الحسن عرج على حديث آخر. - ليس لي اليوم حديث إلا هذا، فإن لي فيك اعتقادا أرسخ من الجبال. أعتقد أنك الشاعر الذي بعث على رأس هذا القرن لينهض بالعرب، وليغني بمآثر العرب، وليعيد مجد دولة العرب، ولن أجد لك ميدانا بين دويلات الإسلام أوسع من حلب، ولا ملكا يساير رنين شعرك صليل سيوفه إلا سيف الدولة. إنه الملك الفذ الذي يقارع الروم، وهم يتوثبون على أطراف مملكته بعددهم وعديدهم في صولة وقوة وشهوة للانتقام، والحرب يا أبا الطيب لن تسير غازية، فاتحة، مظفرة إلا على ألحان الشعر الحماسي الذي يلهب الوجدان، ويقذف الرعب في قلب الجبان، ولن يكون هذا الشعر إلا شعرك يا ابن الحسين، ولن تكون النغمات السماوية إلا من مزهرك المرنان. أنت لست ملك نفسك يا رجل. أنت ملك العرب جميعا، أنت هبة الزمان الجديد الذي جاء ليصلح بك ما أفسده الزمان القديم، وإذا هجرت حاضرة سيف الدولة فأين تذهب؟ قد يخيل إليك أن تذهب إلى العراق، ويا ويلي من العراق وتعسي!! إنه الآن تحت سيطرة طغاة من الديلم، وخليفتنا المطيع لله - فك الله أسره - يعيش الآن في قفص يسمونه عرشا، بعد أن خلع الديلم ابن عمه المستكفي بالله وسملوا عينيه، وهو اليوم يجلس على سرير الملك كما يجلس القرد المذعور الذي تذهب عيناه يمينا وشمالا أينما ذهبت عصا صاحبه. هذه هي بغداد التي كانت زينة الدنيا وبهجة الدهور، أيام الرشيد والمأمون، وهناك الوزير المهلبي، وقد جمع حوله حثالة الكتاب، وشذاذ الشعراء الذين يرسلهم على أعدائه كما ترسل الكلاب المضراة فلا يتركون أديما صحيحا، ولا عرضا سليما. هل تستطيع أن تعيش في هذا الجو يا أبا الطيب؟ وفي أي شيء تقول الشعر هناك؟ في الكأس والطاس والغواني والغلمان! نعم ليس هناك مجال إلا هذا المجال القذر الدنس، فليس هناك غزو ولا فتح، حتى لقد صدئت سيوفهم في أغمادها، إن كان لا يزال في أغمادهم سيوف، ومن تظن سيكون من نظرائك وأندادك؟ سيكون من هؤلاء ابن الحجاج الوقح، وابن سكرة المفحش، وابن لنكك السباب. لا يا سيدي، إن رضيت بهذا فلن أرضاه لك، وقد يجول بخاطرك أن تذهب إلى مصر، وإني أربأ بك أن تفعل هذا، وأن تجعل من نفسك عبدا للعبد الأسود، ويا لضيعة الشعر ويا لضيعة الأدب إذا انحدر إلى هذه الهاوية! قد تقول أذهب إلى فارس، ولكن ثقتي بك تأبى علي أن أتخيل أن مثلك يذهب هذا المذهب، ويبيع عروبته وتاريخه بثمن بخس، دراهم معدودات. أنصت إلي يا أبا الطيب، ليس لنبوغك مجال إلا في حلب ، وليس لعقود شعرك مكان أجمل ولا أشرف من جيد سيف الدولة. فأقم في ذراه، واعتصم برضاه، وجامل من حوله، وكن فسيح الصدر، واسع الحيلة، واترك خلق الله في ملك الله. - إني أحب سيف الدولة يا أبا الحسن، أحب فيه شجاعته وإقدامه وكرم سجيته وصبره على الجهاد، وأود أن أعيش في كنفه، وأن أدفن في الأرض التي طهرها سيفه من رجس الغزاة المغيرين، ولكن في حاشيته عصابة اتخذت من أبي فراس زعيما، بغضت إلي حلب وملكها، وحببت إلي الذهاب ثانية إلى الصحراء، حيث كنت أعيش في طليعة شبابي مع جفاة الأعراب، فما رأيت منهم إلا نجدة وعزة وأنفة عن كل ما يشين. - إن أبا فراس هذا هو الذي جئت لأحدثك في شأنه اليوم. فقد ملأ قلب سيف الدولة غيظا منك وحقدا عليك، وذكر له من تيهك وجبريتك وامتهانك لشأنه ما دفع سيف الدولة إلى أن يعقد العزم على سد بابه دونك. رآني اليوم مع نجا وهو يقرأ علي بائيتك الأخيرة فصاح فينا غاضبا، وأخذ يرميك بكل قارعة، ويصمك بكل قاصمة، وينذر ويتوعد؛ لذلك هرولت إليك مسرعا حتى نرد كيد القوم في نحرهم، ونظفر برضا سيف الدولة دونهم. - وكيف نظفر برضاه وهو على ما وصفت؟ - إن سيف الدولة قلب دوار، يكون الصبا ويكون الدبور، فهو في لحظة سيل هدار العباب، وفي أخرى صفحة غدير سجسج يتعثر فوقه النسيم. هو الآن غضبان، ولكنه إذا سكت عنه الغضب عاد طفلا غريرا يسهل اجتذابه، ويسلس قياده. - دعني أرحل عنه بسلام يا أبا الحسن، فإن النفوس إذا تنافرت قل أن تعود إلى ودادها. - هذا كلامكم معشر الشعراء، ولكن النفوس تتنافر ثم تتعانق، ولا يصفو الود إلا بعد أن يخلص من الكدر. - من الذي يخلص ود سيف الدولة من هذا الكدر؟ - أخته خولة. فإنها مفتونة بشعرك، كثيرة الإعجاب بك، وهي ترى- أن خروجك من مملكة أخيها لا يقل عن دخول الروم فيها، وسيف الدولة مشغوف بها حبا، لا يرد لها كلمة ولا يخيب رجاء. فلو ألحت عليه في أمرك، لأحبطت كيد القوم، وأعادتك إلى ما كنت فيه من المنزلة والكرامة. - افعل ما تشاء يا أبا الحسن، ولو خيرت ما اخترت. - إني سأختار لك. فلا يكن في صدرك حرج، وسأمر على دارك غدا بالخبر اليقين.
Halaman tidak diketahui