Series of Faith and Disbelief - Introduction
سلسلة الإيمان والكفر - المقدم
Genre-genre
القبول لما اقتضته كلمة التوحيد
الشرط الثالث: القبول: أي: قبول ما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه، وقد قص الله ﷿ علينا من أنباء ما قد سبق من إنجاء من قبلنا، فمعلوم أن هذه الكلمة قد أنجت كثيرًا من الأمم، وانتقم ممن ردها وأباها، كما قال ﵎: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف:٢٣]، يفخرون بأمجاد الآباء والأجداد، وهم حطب من حطب جهنم، ﴿قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [الزخرف:٢٤ - ٢٥]، يعني: المكذبين بلا إله إلا الله.
وقال ﷿: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس:١٠٣]، وقال أيضًا: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم:٤٧].
كذلك أخبرنا بما وعد به القائلين لها من الثواب، وما أعده لمن ردها من العذاب، فقال ﷿: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾ [الصافات:٢٢ - ٢٤]، ثم قال ﷿ في نفس السياق: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [الصافات:٣٥]، يستكبرون عن أن يقولوها، وينقادوا لما تقتضيه، فهذا معنى الاستكبار عن الانقياد، فهؤلاء لم ينقادوا لما تضمنته وما تقتضيه كلمة: لا إله إلا الله من القبول بالقلب واللسان، ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾ [الصافات:٣٥ - ٣٦]، فجعل الله علة تعذيبهم وسببه هو استكبارهم عن قول لا إله إلا الله، فلم ينفوا ما نفته.
فقول: (لا إله): كفر بكل إله يعبد من دون الله من الطاغوت، وتعريف الطاغوت: هو من طغى، وأصل الكلمة من الطغيان، والطغيان: هو المجاوزة للحد، كما قال ﵎: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ﴾ [الحاقة:١١]، فكل من تجاوزت به حده فقد اتخذته طاغوتًا، في كل شيء من المخلوقات سواء كان حجرًا أو شجرًا أو شمسًا أو كواكب أو أصنامًا أو إنسانًا أو غير ذلك وتجاوزت به حده الذي ينتهي إليه، وحد العبودية لله ﷿، إلى أن تتخذه إلهًا تعبده من دون الله، فهذا معنى أن هذا نوع من الطغيان، طغى عن حده: صعد إلى أن ادعى الألوهية ونازع الله في الربوبية، ويأتي إن شاء الله ذكر أنواع الطاغوت بالتفصيل.
فهم لم ينفوا ما نفته كلمة التوحيد، ولم يثبتوا ما أثبتته لا إله إلا الله، بل قالوا إنكارًا واستكبارًا: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص:٥]، فتجد حال الكفار كما قال ﷿: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ﴾ [البقرة:٩٣]، هل أحد يعبد عجلًا؟!! وهل ثَم إنسان عاقل مكرم يعبد العجل أو يعبد البقرة؟! ومع ذلك تجدهم أشربوا حب هذا العجل، وزين لهم سوء عملهم، بل قد يقاتلون ويضحون بالأموال والدماء والأنفس وكل شيء في سبيل هذه العقيدة الباطلة، ولعلكم سمعتم بما يحصل في إحدى الولايات الهندية من حرب ضارية بين المسلمين وهؤلاء الكافرين من الهندوس الذين يريدون أن يهدموا مسجدًا ويعيدوا بناء معبد هندوسي على أنقاض هذا المسجد، ومصير هذه الحرب الضارية التي لا تتوقف لا يعرف، والتي أطاحت بالحكومة الجديدة، وما زالت المشكلة قائمة حتى الآن، فهم يحاولون من جديد هدم المسجد ويشنون حملة من أجل هدمه؛ لأنهم يعتقدون أن إلههم مدفون تحت هذا المسجد، سبحان الله! إله ميت مدفون، فانظر إلى هذا السخف؟ وكيف أن الكفر يغطي على بصائر القوم: ﴿فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج:٤٦]، وذكرنا من قبل في مناسبة أخرى عن هؤلاء الهنود: أن بعض الشيوخ اطلع على قصر من الرخام الأبيض في منتهى الفخامة يعبدون فيه الفئران! وكان غاندي يمتدح البقرة ويفضلها على أمه، وأنه ينبغي أن نشكر البقرة؛ لأنها ترزقنا وتفعل وتفعل، الحاصل: أن كل هذه الحرب حتى يهدم هذا المسجد بالذات؛ لأن إلههم في تصورهم مدفون تحت أطباق الثرى في أعماقه، فسبحان الله! الكفر فنون! على أي الأحوال هذا حال هؤلاء الكافرين: يستكبرون عن قول لا إله إلا الله، ويكذبون من جاء بها، ولا ينفون ما تنفيه، ولا يثبتون ما أثبتته، بل يواجهون الحق إنكارًا واستكبارًا، ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ﴾ [ص:٥ - ٧]، وقالوا هاهنا: ﴿وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾ [الصافات:٣٦]، فكذبهم الله ﷿ ورد عليهم دفاعًا عن رسوله ﷺ، فقال: ﴿بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الصافات:٣٧]، وهذا اليقين الذي تكلمنا عنه آنفًا جميع الخلق سوف يشاهدونه، لكن في دار الجزاء: العبرة بأن يكون عندك يقين وأنت هنا في دار الامتحان، أما في دار ظهور النتائج فما ينفعك اليقين، ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ [السجدة:١٢].
(إِنَّا مُوقِنُونَ) وهذا حين لا ينفعه الندم، ولا ينفعه اليقين في الدار الآخرة؛ ولذلك تقبل توبة العبد ما لم يغرغر؛ لأنه إذا غرغر انتقل إلى دار الآخرة وعاين الملائكة، وما كان يسمعه من قبل أن الملائكة تأتي وتقبض الروح يراه، وقد انكشفت الحجب، وبان له زيف ما كان عليه، وصار يقينًا لما هو مقبل عليه من عذاب الله وغضبه وسخطه، وهذا اليقين لا ينفعه، العبرة باليقين في دار الامتحان، وليس في دار ظهور النتائج.
ثم قال ﷿ في شأن من قَبِلَ لا إله إلا الله: ﴿إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ [الصافات:٤٠ - ٤٣]، وقال ﵎: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾ [النمل:٨٩]، (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ) ذكرنا أن الحسنة هي: لا إله إلا الله (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ)، يعني: له ثواب عظيم.
وفي الصحيح عن أبي موسى ﵁، عن النبي ﵌ قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به).
هذا مثل في اختلاف قلوب الناس في تقبل كلمة التوحيد، وما يتفرع عنها، فمن الناس من تنبت في قلبه الأعمال الصالحة، كما قال ﷿: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ﴾، قلب المؤمن، ﴿وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ [إبراهيم:٢٤]؛ فهذا الحديث يضرب مثلًا لتفاوت الناس في تقبل هذا الحق، والانفعال به.
2 / 6