التربية لماذا؟! [١]
مع هذه الصحوة المباركة في أرجاء المعمورة، ونتيجة للانفصام الموجود عند المستقيمين، وعدم ترتيب الأعمال والأولويات، وكذلك نتيجة مخالطة الشباب أصحاب المنح والدراسات الخارجية للمجتمعات الغربية، ثم رجوعهم بفكر آخر، وقد انصهروا في بوتقة الغرب متأثرين تمام التأثر، ومؤثرين في بلدانهم كذلك، لأجل هذا وغيره لابد من التربية الإسلامية الصحيحة، التي تنشئ المسلم العقدية والعبادية والأخلاقية وغيرها من الجوانب.
1 / 1
أسباب اختيار موضوع: (التربية لماذا؟)
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبيًا عن أمته، ورسولًا عن دعوته ورسالته، وصلِّ اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعًا أيها الأطهار الأخيار، طبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلًا، وأسأل الله جل وعلا أن يجمعني وإياكم في الدنيا دائمًا وأبدًا على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، إنه على كل شيء قدير.
أحبائي:
يا ملء الفؤاد تحية تجوز إليكم كل سد وعائق
لقد شدني والله شوق إليكم مكلل بالحب والتقدير والدعاء المشفق
وأرقني في المظلمات عليكم تكالب أعداء سعوا بالبوائق
أردتم رضا الرحمن قلبًا وقالبا وما طلبوا إلا حقير المآزق
فسدد الله على درب الحق خطاكم وجنبكم فيه خفي المزالق
مرحبًا بأحبابي مرحبًا بإخواني مرحبًا بالأطهار الأخيار أسأل الله ﷿ أن يحشرني وإياكم في زمرة سيد الدعاة وإمام النبيين، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
لقاء هام، ألا وهو لقاؤنا في هذه الليلة الكريمة المباركة: التربية لماذا؟
1 / 2
السبب الأول: الصحوة المباركة وحاجتها إلى منهج تربوي أصيل
أيها الأحبة! لقد شاء الله جل وعلا في وقت تجمعت فيه كل جاهليات الأرض للقضاء على الإسلام، واستئصال شأفة المسلمين، شاء الله أن يبزغ في الأفق، نور يشرق، وأمل يتجدد، أضحى حقيقة كبيرة لا تنكر، بل وأفزعت هذه الحقيقة المشرقة العالم بأسره، وكيف لا وهي أكبر حدث إنساني في النصف الثاني من القرن العشرين، يتمثل في صحوتكم الإسلامية العالمية المباركة، فها نحن نرى بفضل الله جل وعلا كوكبة كريمة، وثلة مباركة عظيمة، من شباب في ريعان الصبا، وفتيات في عمر الورود، تلك الكوكبة الكريمة المباركة التي جاءت بعد بدر والقادسية واليرموك وحطين، جاءت من جديد لتمضي على طريق الدعوة الطويل، الضارب في شعاب الزمان، من لدن نوح إلى نبينا ﷺ.
جاءت هذه الكوكبة لتمضي على ذات الطريق، مستقيمة الخطا، ثابتة الأقدام، تجتاز الصخور والأشواك والحجارة، تسيل دماء، وتتمزق هنا وهناك أشلاء، ولكن الركب الكريم في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا يحيد؛ لأنه على ثقة مطلقة بنهاية الطريق، وبانتصار الحق ومحق الباطل، وأن الحق ظاهر خالد، والباطل زاهق زائل.
فحيثما توجهتم -أيها الأحباب- وجدتم صحوة عارمة عالمية مباركةً، فلقد أقمت في أمريكا منذ ثلاثة أشهر فقط، بدعوة كريمة للمشاركة في ثلاثة مؤتمرات إسلامية، وأبشركم -ولله الحمد- فقد حضر المؤتمر في قلب قلعة الكفر ما يزيد على ستة آلاف موحد وموحدة، احتلوا ساحة أكبر فندق في مدينة تريت وصدح المؤذن بكلمة التكبير والتوحيد في قلب قلعة الكفر خمس مرات، من منا كان يتوقع أن تصل الصحوة إلى قلعة الكفر؟! من منا كان يظن أن يكون هذا العمل المنظم الدقيق للإسلام في قلب أمريكا؟! إنه وعد الله.
صبح تنفس بالضياء وأشرق والصحوة الكبرى تهز البيرقا
وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا
وقوافل الإيمان تقتحم المدى دربًا وتصنع للمحيط الزورقا
ما أمر هذه الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا
هي نخلة طاب الثرى فنما لها جذع قوي في التراب وأعذقا
هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورقا
فجر تدفق من سيحجب نوره أرني يدًا سدت علينا المشرقا
يا نهر صحوتنا رأيتك صافيا وعلى الضفاف رأيت أزهار التقى
قالوا: تطرف جيلنا لما سما قطرًا وأعطى للطهارة موثقا
ورموه بالإرهاب حين أبى الخنا ومضى على درب الكرامة وارتقى
أو كان إرهابًا جهاد نبينا أم كان حقًا بالكتاب مصدقا
أتطرف إيماننا بالله في عصر تطرف في الهوى وتزندقا
إن التطرف أن نذم محمدًا والمقتدين به ونمدح عفلقا
إن التطرف أن نرى من قومنا من صانع الكفر اللئيم وأطرقا
إن التطرف أن نبادل كافرًا حبًا ونمنحه الولاء محققا
إن التطرف وصمة في وجه من جعلوا البوسنة رمادًا محرقا
شتان بين النهر يعذب ماؤه والبحر بالملح الأجاج تمزقا
يا جيل صحوتنا أعيذك أن أرى في الصف من بعد الإخاء تمزقا
لك في كتاب الله فجر صادق اتبع هداه ودعك ممن فرقا
لك في رسولك قدوة فهو الذي الصدق والخلق الرفيع تخلقا
يا جيل صحوتنا ستبقى شامخًا سوف تبقى بالتزامك أسمقا
هذه الصحوة المباركة هي السبب الأول من أسباب اختياري لموضوع ليلتنا هذه (التربية لماذا؟) فإن هذه الصحوة -أيها الأطهار- في أمس الحاجة إلى منهج تربوي أصيل، يقود خطاها وسيرها ومسراها، حتى لا يضيع جهد هذه الصحوة المباركة سُدى، كما يضيع ماء الأمطار بين الوديان والشعاب، من أجل أن تكون صحوةً مثمرةً بناءهً قويةً راشدةً، فإنها في أمس الحاجة إلى هذا المنهج التربوي المنبثق من القرآن الكريم والسنة الصحيحة، بفهم سلف الأمة الصالح رضوان الله عليهم جميعًا، هذا هو السبب الأول من أسباب اختياري لهذا العنوان.
1 / 3
السبب الثاني: الانفصام بين المنهج المنير والواقع المرير
أما السبب الثاني فهو: الانفصام بين المنهج المنير والواقع المرير.
أيها الأخيار! إن المجتمع الإسلامي الذي شاد القرآن الكريم صرحه الشامخ، وأرسى لبناته المتينة العظيمة القوية، على يد أعظم مرب عرفته الدنيا ﷺ-بأبي هو وأمي- كان مجتمعًا فريدًا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ، كان مجتمعًا تمثلت فيه العبودية الكاملة لله وحده لا شريك له، وتتمثل هذه العبودية فيما يلي: أولًا: في العقيدة الصحيحة الصافية الخالصة، امتثالًا عمليًا لقول الله ﷿: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [الحج:٦٢] .
وتمثلت هذه العبودية ثانيًا في العبادة الصحيحة، بكمال ركنيها من كمال حب، وكمال ذل، وبشرطيها من إخلاص واتباع لرسول الله ﷺ.
وتمثلت هذه العبودية ثالثًا: في الجانب التعبدي والتشريعي في تطبيق شريعة الله جل وعلا امتثالًا عمليًا لقول الله سبحانه: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء:٦٥] .
وتمثلت هذه العبودية رابعًا: في الجانب الأخلاقي والسلوكي والمعاملات امتثالًا عمليًا، لقول الله جل وعلا: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل:٩٠] .
وتمثلت هذه العبودية خامسًا: في المحبة الصادقة والاتباع الصحيح لرسول الله ﷺ، وجسد هذا الاتباع الصادق وهذه المحبة الخالصة صحابي جليل جاء إلى الحبيب المصطفى ليقول له يومًا: (يا رسول الله! والله إنك لأحب إليّ من نفسي، وأحب إليّ من ولدي ومالي، وإني إذا كنت في بيتي فذكرتك يا رسول الله لا أصبر حتى آتي لأنظر إليك، وإني تذكرت موتك اليوم يا رسول الله، وعرفت أنك بعد موتك سترفع مع النبيين في الجنة، وإذا مت أنا فلن أستطيع أن أراك يا رسول الله، فبكيت) فلم يستطع النبي ﷺ جوابًا أمام هذا الحب المتدفق الحاني، فنزل قول الله جل وعلا: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾ [النساء:٦٩-٧٠] .
عبودية كاملة -أيها الأحباب- إنه مجتمع رباه القرآن وطهر ظاهره وباطنه، ورباه المصطفى ﷺ فنقله من الكفر والعصبية والعنصرية البغيضة إلى واحة التوحيد والتسامح والمحبة والإخاء، لا فرق في هذا المجتمع بين أحد، ولا فضل لمن ارتفع على من تواضع، ولا لمن اغتنى على من افتقر، ولا لمن حكم على من حُكِم، بل الكل سواء لا فضل لأحدهم إلا بالتقوى مصداقًا لقول ربنا: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات:١٣] هذه بعض سمات العبودية الكاملة في هذا المجتمع لله جل وعلا وحده لا شريك له.
1 / 4
مظاهر الانفصام بين المنهج المنير والواقع المرير
وظل هذا المجتمع -أيها الأحباب- يرفل في ثوب التوحيد والعبودية الكاملة لله جل وعلا، حتى ابتعد هذا المجتمع رويدًا رويدًا عن أصل عزه، ومعين شرفه، ونبع كرامته، وراح يلهث وراء الشرق الملحد تارة، ووراء الغرب الكافر تارة أخرى، فوقع في هذا الانفصام الذي عنونت له بقولي: الانفصام بين المنهج المنير والواقع المرير، وإليكم بعض مظاهر هذا الانفصام النكد، بين المنهج والواقع: ففي جانب العقيدة، نرى العقيدة اليوم تذبح شر ذبحة على أيدي أبنائها إلا من رحم ربك جل وعلا، فسمعنا ورأينا من يسأل غير الله، ويذبح لغير الله، ومن ينذر لغيره، ومن يستعين بغيره، ومن يلجأ إلى غيره، ومن يفوض الأمر إلى غيره، ومن يتوكل على غيره، ومن يطوف بغير بيته، بل وسمعنا ورأينا على شاشات التلفاز في احتفال مولد السيد البدوي من يقول: إننا الليلة نحتفل بمولد السيد البدوي المهاب، الذي إن دعي في البر والبحر أجاب.
فأين الله؟! أين الله؟! ذبحت العقيدة شر ذبحة، ولوثت العقيدة ودنس التوحيد، وصرفت العقيدة والعبادة لغير الله العزيز الحميد، والمصطفى ﷺ يقول: (من ذبح لغير الله فقد أشرك، ومن نذر لغير الله فقد أشرك، ومن حلف بغير الله فقد أشرك) ويوصي ابن عباس وصيته الخالدة: (يا غلام! احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)
يا صاحب الهم إن الهم منفرج أبشر بخير فإن الفارج الله
وإذا بليت فثق بالله وارض به إن الذي يكشف البلوى هو الله
الله يحدث بعد العسر ميسرة لا تجزعن فإن الصانع الله
والله ما لك غير الله من أحد فحسبك الله في كلٍ لك الله
إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، وقل لربك بقلبك وجوارحك ولسانك وعملك: اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، وأبرأ من الأمل إلا فيك، وأبرأ من التسليم إلا لك، وأبرأ من التفويض إلا إليك، وأبرأ من التوكل إلا عليك، وأبرأ من الصبر إلا على بابك، وأبرأ من الذل إلا في طاعتك، وأبرأ من الرهبة إلا لجلالك العظيم، وأبرأ من الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين، اللهم تتابع برك، واتصل خيرك، وكمل عطاؤك، وعمت فضائلك، وتمت نوافلك، وبر قسمك، وصدق وعدك، وحق على أعدائك وعيدك ووعدك، ولم تبق حاجة لنا إلا قضيتها ويسرتها يا أرحم الراحمين! أخلصوا العبادة لله، فمن مظاهر الانفصام في جانب العقيدة، أننا نرى العقيدة قد ذبحت شر ذبحة على يد أبنائها إلا من رحم ربك جل وعلا.
وفي جانب العبادة: نرى كثيرًا من الناس قد صرف العبادة لغير الله، بل ومن أبناء الأمة من يدعي الآن ويقول: إنني ممن يعتقد أن للكون أقطابًا وأوتادًا وأبدالًا تسير شئونه وتدبر نظامه، والله ﷾ يقول: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ [آل عمران:١٥٤] الملك ملكه، والكون كونه، والأمر كله له، لا تسأل أحدًا دونه ولا غيره، حتى ولو كان الحبيب ﷺ.
وفي جانب التشريع: وقعت الطامة الكبرى التي لم تكن تخطر لأحد ألبتة على بال، نعم فلقد نحي شرع الله جل وعلا، ووقع في الأرض المنكر الأكبر، بتنحية شرع الله وتحكيم القوانين الوضعية الكافرة الجائرة، واستبدل المسلمون بالعبير بعرًا، وبالثريا ثرى، والرحيق المختوم حريقًا محقًا مدمرًا، يوم أن نحّو شريعة الله واستبدلوا بها شريعة المهازيل من البشر من العلمانيين والديمقراطيين والشيوعيين، وأصحاب الأهواء والشبهات والشهوات، ولا حول ولا قوة إلا بالله رب الأرض والسماوات.
أما في جانب الأخلاق والسلوك والمعاملات حدث عن هذا الانفصام ولا حرج، فإن هذا الانفصام النكد في جانب الأخلاق والمعاملات والسلوك إنما هو أمر حتمي، وهي نتيجة حتمية للتخلف العقدي والتعبدي والتشريعي مع غياب المنهج التربوي الأصيل المنبثق من القرآن والسنة بفهم سلف الأمة.
كذلك في الجانب النفسي نرى هزيمةً نفسيهً مدمرةً ومنكرةً.
هذه -أيها الأحبة- بعض مظاهر الانفصام النكد، بين المنهج المنير والواقع المرير.
1 / 5
الذوبان في بوتقة مناهج الغرب الدخيلة
أما السبب الثالث من أسباب طرحي لهذا الموضوع هو: الذوبان في بوتقة المناهج التربوية الغربية الدخيلة، فلقد هزمت الأمة هزيمة نفسية نكراء، وراحت تنظر إلى هذه الحضارة الغربية المادية نظر الملهوف الذي فقد كل شيء، وأصبح مستعدًا للذوبان في أي شيء، وللتفاعل مع أي منهج، حتى ولو كان يخالف العقيدة والسنة النبوية الصحيحة، فانساحت الأمة، وراحت تحاكي محاكاة عمياء، تقلد الشرق الملحد تارة، وتدور في فلك الغرب الكافر تارة أخرى، وهانحن الآن نراها تدور في فلك الوسط مرة ثالثة، وصدق فيها قول من لا ينطق عن الهوى ﷺ كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه ﷺ قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتم وراءهم، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) فمن غير هؤلاء؟ اتبعت الأمة طريق المغضوب عليهم من اليهود، وطريق الضالين من النصارى، وتركت طريق الأطهار الأخيار الأبرار، تركت أصل عزها، ونبع شرفها ومجدها وكرامتها وسيادتها بل وبقائها، وراحت تلهث وراء الشرق الملحد تارة ووراء الغرب الكافر تارة أخرى، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وهنا قد يئن الإخوة ويقولون بنظرة حزن وألم: فما هو الحل، وما هو العلاج، وما هو السبيل إلى الإصلاح؟ والجواب في كلمة واحدة، نعم في كلمة واحدة ألا وهي: التربية.
قد يئن الآن بعض الأحبة ويقول: أهذا هو الطريق، وذاك هو العلاج؟! فأقول: نعم.
يقول: آه والله إنه لطريق طويل.
و
الجواب
إنه على الرغم من طوله فإن هذا الطريق هو الذي سلكه أعظم مربٍ عرفته الدنيا.
لقد أقام النبي ﷺ دولة -أيها الأحباب- فما هي المنهجية الصحيحة لإقامة دولة الإسلام؟ اذهبوا معي إلى رسول الله ﷺ لنرى كيف أقام دولة أذلت الأكاسرة، وأهانت القياصرة، وغيرت مجرى التاريخ في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئًا.
والله ما بدأ النبي ﷺ إلا بالتربية، بتربية أفراد قلائل من الصحابة الأطهار الأخيار الكرام، خلا بهم بعيدًا عن هذا المجتمع الجاهلي الذي كفر بالله وأشرك به، في دار منعزلة بعيدة، لأنه لا بد من الانفصال ولا بد من التميز، ولا بد من المفاصلة، أما أن نعيش وسط هذا المجتمع، وأن نحاكيه، وأن نقلده، وألا نعتز بعقيدتنا، أو نستعلي بديننا، أو ننفصل بإيماننا، أو نظهر للدنيا توحيدنا وإسلامنا، فلن نستطيع أن ننقل للدنيا هذا النور الذي جاءنا به محمد ﷺ.
خلا النبي ﷺ بهؤلاء الأطهار في دار بعيدة متواضعة، في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وبدأ مع هؤلاء، ليربيهم على القرآن، وعلى السنة الصحيحة، ليصقل نفوسهم، وليهذب ضمائرهم، وليربي أخلاقهم وقلوبهم، ثم قام بهم ومعهم وعلى أكتافهم ليقيم للإسلام دولة أذلت الأكاسرة، وأهانت القياصرة، وغيرت مجرى التاريخ في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئًا.
وانتبه -أيها الشاب الحبيب- والله إني لأعلم أن دماء الإخلاص تتدفق في عروقك حبًا لهذا الدين، وأنك الآن على استعداد لأن تقدم دمك وروحك ونفسك لدين الله جل وعلا، وهذا خير عظيم كثير، واحمد الله أن شرفك الله بحمل همِّ هذا الدين، فغيرك يسير ويمشي في هذه الدنيا بلا غاية ولا هدف، لا يعرف له غاية، ولا يعرف له هدفًا، بل ولا يعرف له مصيرًا، فاحمد الله أن شرفك بهذا الدين:
ومما زادني فخرًا وتيهًا وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
أيها الحبيب! لا تتعجل، ولا تتعجلوا النتائج -أيها الأطهار- فإن دين الله قادم -إي وربي- كقدوم الليل والنهار، لا تتعجلوا النتائج؛ لأن الله جل وعلا لن يسألنا لماذا لم تنتصروا؟ ولكن الله جل وعلا سيسألنا لماذا لم تعملوا؟ ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة:١٠٥] أما النتائج فعلمها عند ربي، ومن الأدب مع الله جل وعلا ألا نتعجل النتائج، وألا نقول لربنا: يا رب! لقد دعونا كثيرًا فلم يستجب لنا أحد.
يا رب! لقد دعونا كثيرًا وما زال الطغاة والطواغيت والظلمة والمتكبرون والمتجبرون هم الذين بيدهم القوة والسطوة، وهم الذين بيدهم السلطان، وإن أهل التوحيد يعذبون ويضطهدون، ويصب البلاء على رءوسهم صبًا، وتصب المحن على رءوسهم صبًا.
هذا من سوء أدبنا مع الله جل وعلا، ابذل دمك وروحك، وابذل جاهك ووقتك، واحمل همَّ الدين في قلبك، وتحرك لدين الله، واعلم بأن النتائج ليست عليك، ولن يسألك الله عن نتائج دعوتك.
اصبروا، والله لقد جاء صحابي متحمس كتحمس شبابنا الأطهار إلى رسول الله ﷺ في مكة يومًا ليقول له: (يا رسول الله! ألا تدعو الله لنا! ألا تستنصر لنا! والنبي ﷺ متكئ يجلس، ويحمر وجهه ويغضب من هذا الطرح ويقول: والذي نفسي بيده! لقد كان الرجل يؤتى به من قبلكم، فينشر بالمنشار أو يوضع المنشار في مفرق رأسه ويشق نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون العظم واللحم، فما يصده ذلك عن دين الله، فوالله ليُتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون) .
أيها الشباب! اصبروا، والله ذلكم وعد الله، ووعد من لا ينطق عن الهوى: (والله ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام، وذلًا يذل الله به الكفر) والحديث رواه أحمد والطبراني واللفظ له وهو حديث صحيح الإسناد من حديث تميم الداري ﵁.
هذا وعد الله، وكلام الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ [النجم:٣-٥] .
فلا ينبغي أبدًا أن يعادي بعضنا بعضًا، أو يحقر بعضنا بعضًا، أو يسخر بعضنا لمنهج البعض الآخر، أبدًا، وإنما نعلم جميعًا أن كل جهد يبذل لدين الله فهو على خير، وأسأل الله أن يصحح لي ولكم النيات، وأن يتقبل مني وإياكم جميعًا صالح الأعمال.
1 / 6
المصادر التي يجب أن نستقي المنهج التربوي منها
لقد حان الوقت -أيها الأحبة- لتتربى هذه الجموع الغفيرة التربية الصحيحة على القرآن والسنة بفهم سلف الأمة، وحان الوقت لواضعي ومخططي المناهج التربوية لأبنائنا وبناتنا في المدارس والجامعات، حان الوقت أن يتخلصوا من عقدة النقص أمام المناهج التربوية الغربية الدخيلة على عقيدتنا وديننا، فإننا نحمل الإسلام الذي يملك وحده المنهج التربوي الأصيل الصحيح، القادر على أن يقود البشرية بل والإنسانية كلها إلى ذروة المجد والعلى، وواحة الهناء والسعادة في الدنيا والآخرة.
فينبغي أن نعلم أن المصادر الأصيلة الصافية الصحيحة التي ينبغي أن تُستقى منها مناهج تربيتنا هي ما يلي: أولًا: القرآن الكريم.
ثانيًا: السنة الصحيحة.
ثالثًا: منهج السلف باعتباره يمثل التطبيق العملي للقرآن والسنة.
وأقول تفصيلًا:
1 / 7
المصدر الأول: القرآن الكريم
القرآن الكريم فهو النبع الأول، والمعين الصافي الذي ينبغي أن يكون مصدرًا أولًا للمناهج التربوية الإسلامية الحديثة الصحيحة، لماذا؟ لأنه كلام الخالق الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، الذي يعلم ما يصلح خلقه وما يفسدهم، فلا بد من العودة إلى هذا النبع الكريم الصافي المبارك، القرآن بين أيدينا هو مصدر التربية الأول لجيل الصحابة وللرعيل الأول، وما زال القرآن بحروفه وألفاظه ورسمه لم يتغير منه حرف، ولم تتبدل منه كلمة، ولم تحذف منه آية، هو القرآن الذي ربى الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، لا زال نوره وحرفه بين أيدينا.
وإن للقرآن منهجه التربوي الفريد في لمس القلوب، وتحريك العواطف، واستجاشة الوجدان، ولقد بدأ هذا القرآن -لحكمة من الله جل وعلا- يتنزل ليربي على فترات: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا) [الإسراء:١٠٦] يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: فالفرق مقصود، والمكث مقصود لحكمة من الله جل وعلا: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ [الإسراء:١٠٦] كان القرآن يتنزل بحسب المشاكل والحاجات ليربي الصحابة تربية عملية واقعية سلوكية، وهم بدورهم حولوا القرآن إلى منهج عملي، وإلى مجتمع متحرك مرئي، ومنظور ومسموع.
القرآن الكريم الذي بدأ يربي الصحابة وكانت أولى خطواته في التربية: ترسيخ العقيدة، ومن ثم -أيها الدعاة، والشباب، والمدرسون، والآباء- إنني اليوم لا أخاطب فئة واحدة، ولكني أخاطب كل من نصبه الله لمهمة التربية، أخاطب الدعاة والعلماء، وأخاطب الشباب والآباء، وأخاطب المدرسين والمدرسات، أخاطب الأمهات، أخاطب كل من أمنه الله هذه الأمانة العظيمة، أمانة التربية.
لقد بدأ القرآن أول ما بدأ -ليربي الصحابة- بترسيخ العقيدة في القلوب؛ لأنه والله لا تصح تربية على الإطلاق إلا إذا تربى الناس على العقيدة الصحيحة، وعرفوا ابتداءً من خالقهم، ومن رازقهم، ومن إلههم، ومن الذي ينبغي أن تصرف العبادة له؟ من الذي يستحق أن يسأل؟ ومن الذي يستحق أن يذكر؟ هذه أول لبنة من لبنات التربية التي لا بد أن تؤسس على بينة ووضوح وجلاء.
بدأ القرآن بترسيخ العقيدة في القلوب، فعرفهم خالقهم، وللقرآن -كما ذكرت- أسلوبه بدون تعقيد، بمنتهى البساطة والوضوح، وانظر معي هذه الآيات من سورة النمل كيف حركت قلوب هؤلاء، واستجاشت عواطفهم، ولامست وجدانهم، وعرفتهم -في النهاية- بخالقهم ورازقهم وإلههم ومعبودهم جل وعلا، اسمع معي -أيها الحبيب- يقول الحق ﵎: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [النمل:٦٠-٦٤] آيات عجيبة، تخاطب القلب، تخاطب أعماق الفطرة: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ [النمل:٦٠] حدائق ذات بهجة، ذات جمال، ذات نضرة.
فللواحة الخضراء والماء جاريا وهذه الصحاري والجبال الرواسي
سل الروض مزدانًا سل الزهر والندى سل الليل والإصباح والطير شاديا
وسل هذه الأنسام والأرض والسما وسل كل شيء تسمع التوحيد لله ساريا
ولو جن هذا الليل وامتد سرمدًا فمن غير ربي يرجع الصبح ثانيا
﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ [النمل:٦٠] لا رب غيره، ولا معبود سواه.
الله ربي لا أريد سواه هل في الوجود حقيقة إلا هو
الشمس والبدر من أنوار حكمته والبر والبحر فيض من عطاياه
الطير سبحه والوحش مجده والموج كبره والحوت ناجاه
والنمل تحت صخور الصم قدسه والنحل يهتف حمدًا في خلاياه
والناس يعصونه جهرًا فيسترهم والعبد ينسى وربي ليس ينساه
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [الحج:١٨] .
﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ * وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس:٣٣-٤٠] .
﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ [النمل:٦٠] .
يا أحمد بن حنبل ما الدليل على وجود الله؟ فقدم ورفع البيضة، وقال: هذا حصن حصين أملس، ليس له باب وليس له منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، فبينما هو كذلك إذ انصدع جداره وخرج منه حيوان سميع بصير.
القرآن له أسلوبه، ولذا خاف المشركون على أنفسهم من أسلوب القرآن في التربية، وحذر بعضهم البعض الآخر: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ [فصلت:٢٦] بل والله لتعجبون -أيها الأحباب الأطهار الخيار الكرام- أن الحبيب المصطفى ﷺ في السنة الخامسة من البعثة المباركة، في مكة زادها الله تشريفًا وتكريمًا، خرج ليصلي في الكعبة المشرفة، ووقف النبي ﷺ يقرأ القرآن، ومن بين يديه جلس المشركون، وجلس صناديد الكفر والشرك، وقرأ سورة النجم، وفي أواخر السورة قرأ قوارع تطير لها القلوب والأفئدة: ﴿أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا﴾ [النجم:٥٧-٦٢] وقام الحبيب ﷺ وخر ساجدًا لله فلم يتمالك المشركون أنفسهم فقاموا خلفه وخروا سجدًا لله جل وعلا، وهم على الشرك والكفر.
وقصة سجود المشركين خلف رسول الله ﷺ رواها الإمام البخاري في صحيحه، وعنون لهذا الباب بعنوان: باب: سجود المسلمين مع المشركين، ورواه مختصرًا من حديث ابن عباس (أن النبي ﷺ قرأ بسورة النجم وسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس) ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الحشر:٢١] إنه جلال القرآن، إنه كلام الحق جل وعلا، هذا هو مصدر التربية الأول، عرف القرآن الإنسان مَنْ خالقه؟ وبعدما أجابه على هذا السؤال، عرفه على مصيره، ما هو مصيره؟ وما هي الغاية؟ وما هو الهدف؟ ولماذا تعيش؟ وما هذه النتيجة؟ أجاب بمنتهى الوضوح، وعرفه بأنه لا بد أن يأتي يوم سيقف فيه بين يدي الله ليسأل عن القليل والكثير، وعن الصغير والكبير: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة:٧-٨] أجاب القرآن، وهذا هو الأسلوب التربوي الصحيح، أن يجيب المنهج على كل تساؤل واستفسار، إجابة مقنعة وواقعية ومنطقية، إجابة تريح القلب والعقل، وتريح الوجدان والفؤاد.
ولذا أنادي الآن أساتذتي وأحبابي من المدرسين والمدرسات ألا يضيق صدره بسؤال طالبه، وإنما ينبغي أن يفتح صدره لطلابه وأن يجيب عليهم، وأن يحاول أن يقنعهم بالجواب، وأن يربطهم بالجواب ربطًا واقعيًا عمليًا سلوكيًا حت
1 / 8
المصدر الثاني: السنة المطهرة
المصدر الثاني من مصادر التربية: السنة المطهرة وهناك صنف خبيث يدندن حول القرآن دون السنة، ويقولون: إننا لا ننكر القرآن، ونريد أن نأخذ بالقرآن، ولكن السنة فيها الصحيح وفيها الضعيف وفيها الموضوع، فلا داعي إذًا للأخذ بالسنة، ويكفينا أن نأخذ بالقرآن، ولا يدري أنه إذا أخذ القرآن وضيَّع السنة فقد ضيع القرآن والسنة معًا.
وقد قال الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى ذلك، وبيّن أنه سيأتي من أبناء الأمة من يقول هذا، كما في الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك، وصحح إسناده شيخنا الألباني من حديث المقدام بن معد يكرب، أنه ﷺ قال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه) وفي رواية: (ألا إن ما حرم الله كما حرم رسول الله ﷺ فلا بد -أيها الأحبة- من السنة مع القرآن، بل لقد جمع النبي ﷺ بينهما، كما في الحديث الذي رواه ابن ماجة والحاكم في المستدرك وصححه أيضًا الشيخ الألباني، أنه ﷺ قال: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض) وأرجو الله ألا ننساها.
أقول: إذا كان كل طالب علم يتأثر بالمنهج الذي يدرسه، فما ظنكم إذا كان المنهج الذي يدرس هو القرآن والسنة؟! وإذا كان كل طالب علم يتأثر بأستاذه الذي يأخذ عنه فما ظنكم إذا كان الأستاذ هو محمد ﷺ؟! شخصية النبي ﷺ منهج تربوي متكامل، وسنته ﷺ كذلك، ولا أستطيع أبدًا أن أقف وأبين من خلال سيرته وحياته أركان وعناصر وبنود هذا المنهج التربوي الأصيل، بل سأكتفي بمثال واحد تربوي فذ لأبين لكم أن شخصيته ﷺ كانت منهجًا تربويًا فريدًا متكاملًا.
حديث رواه أحمد من حديث أبي أمامة ﵁ قال: [جاء شاب إلى النبي ﷺ يسأله سؤالًا عجيبًا غريبًا] هل يا ترى جاء الشاب يسأل النبي ﷺ عن الجهاد في سبيل الله؟ أم جاء يسأله عن الإنفاق في سبيل الله؟ أم جاء يسأله في أن يخرج معه للغزو؟ كلا ولكنه جاء يسأل سؤالًا غريبًا، أتدرون ما الذي سأله هذا الشاب؟ جاء ليقول لرسول الله: (يا رسول الله؟ أتأذن لي بالزنا؟!) ما غضب النبي ﷺ، ولا ارتفع صوته، ولا احمر وجهه، ولا أمر الصحابة أن يحملوه من بين يديه ومن خلفه ليلقوه خارج المسجد ولكنه ابتسم في وجهه ابتسامة حانية مشرقة، ونظر إليه وقال: (ادن) واقترب الشاب من النبي ﷺ، وفي همسات تربوية حانية يقول له المربي الأعظم، والأستاذ الحبيب: (أترضاه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك.
قال: فكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لأختك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك.
قال: وكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم، أتحبه لابنتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك.
قال: وكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، وكذلك لعماتهم وخالاتهم) .
ثم بعد هذا كله مد الحبيب يده الحانية -فإنه بحر الرحمة، وينبوع الحنان، وأستاذ التربية- ووضعها على صدر هذا الشاب، وتضرع إلى الله بالدعاء وقال: (اللهم اشرح صدره، واغفر ذنبه، وحصن فرجه) أي تربية هذه يا إخوان؟! وكلكم يعلم قصة الأعرابي الذي جاء ليبول في مسجد النبي ﷺ، وكلكم يعلم قصة ماعز وكيف رده النبي ﷺ بأسلوبه، وكلكم يعلم قصة الغامدية وكيف ردها النبي ﷺ بأسلوب، فهو نبي الرحمة، وينبوع الحنان.
والرسول ﷺ شخصيته منهج تربوي فضلًا عن سنته، وإذا كانت العظمة تحب لذاتها، فإن رسول الله ﷺ يحب لذاته فضلًا عن أنه رسول من عند الله جل وعلا، وهذا الحب بين المربي وطلابه والأستاذ وتلاميذه هو المفتاح الأول للتربية الصحيحة.
والله لقد أحب أصحاب النبي المصطفى ﷺ حبًا ليس له في تاريخ العالمين نظير، فلقد جاء عروة بن مسعود الثقفي رسول من قبل قريش في صلح الحديبية، وقف يكلم النبي ﵊ -وكان من عادة العرب إذا أرادوا أن يتوددوا إلى من يتكلمون معه أن يمد أحدهم يده ليعبث بلحية من يتكلم معه- فمد عروة بن مسعود يده ليداعب شعرات طيبات من لحية الحبيب المصطفى ﵊، وكان المغيرة بن شعبة رضوان الله عليه يقف عند رأس النبي ﵊ يظلل عليه من الشمس، وبيده السيف، فإذا مد عروة يده ليداعب شعرات لحية النبي ﷺ ضربه المغيرة بنصل السيف على يده وهو يقول: [أخر يدك عن لحية رسول الله قبل ألا تصل إليك] يعجب عروة بن مسعود ويرجع إلى قومه ليسجل هذه الشهادة، ويقول: يا قوم! والله لقد وقفت على الملوك، ولقد أتيت كسرى في ملكه، والنجاشي وقيصر، والله ما رأيت أحدًا يعظمه أصحابه كما رأيت أصحاب محمد يعظمون محمدًا! والله إذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا تكلم أنصتوا له، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه.
أحبوا النبي ﷺ حبًا ليس له في تاريخ الدنيا ولا في تاريخ العالمين نظير، فشخصية النبي ﷺ فضلًا عن سنته منهج تربوي أصيل متكامل.
ومن أراد أن يتتبع سيرة المصطفى فسيجد المنهج التربوي الأصيل الذي به وعليه تربى الجيل الأول، ووالله لن نصل إلى ما وصلوا إليه إلا إذا عدنا إلى هذا النبع الصافي، وكيف لا وقد رباه الله على عينه ليربي به الدنيا، زكاه في عقله فقال: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ [النجم:٢] وزكاه في صدقه فقال: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ [النجم:٣] وزكاه في صدره فقال: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح:١] وزكاه في ذكره فقال: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح:٤] وزكاه في طهره فقال: ﴿وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ﴾ [الشرح:٢] وزكاه في فؤاده فقال: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ [النجم:١١] وزكاه في بصره فقال: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ [النجم:١٧] وزكاه في معلمه فقال: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ [النجم:٥] وزكاه في حِلْمه فقال: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:١٢٨] وزكاه كله فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:٤] ﷺ.
1 / 9
المصدر الثالث: منهج السلف الصالح
أما المصدر الأخير بإيجاز فهو: منهج السلف الصالح باعتباره يمثل التصديق العملي للقرآن والسنة.
واعلموا -أيها الإخوة- أن السلفية ليست جماعة، وليست حكرًا على أحد، وليست حزبًا لأحد، بل إن السلفية تيار ممتد إلى الحبيب المصطفى ﷺ وإلى الصحابة كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وإلى التابعين، وإلى الأئمة الراشدين المهديين، فمن سلك طريق هؤلاء فهو منتسب إلى سلف الأمة الصالح، حتى ولو لم يعاصرهم بالمكان والزمان، ومن تنكب عن طريقهم وسلك طريقًا غير طريقهم، ودربًا غير دربهم فليس منهم وإن جمع بينه وبينهم الزمان والمكان، فلا ينبغي أبدًا أن يأتي أحد أحبابنا ليجعل من السلفية جماعة حزبية ضيقة، وإنما السلفية تيار ممتد إلى رسول الله ﷺ من أبناء الطائفة المنصورة في كل زمان، وكان هؤلاء الذين يسيرون على طريق المصطفى، وعلى طريق سلف الأمة الصالح، وعلى طريق التابعين وتابع التابعين، وعلى طريق الأئمة الراشدين المهديين من بعدهم، من سار على هذا الطريق فهو منتسب إلى سلف الأمة الصالح، وأي شرف هذا، وأي نسب هذا!! فلا ينبغي هذا التعصب، وهذا التحزب والتخلف.
يا أحبابي! إننا الآن نقبل على مرحلة حرجة، وعلى مرحلة خطيرة تحتاج منا أن نكون جميعًا يدًا واحدة، وأن نكون جميعًا قلبًا واحدًا، وأن نكون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، لا شك، وأعلم علم اليقين أن من بين إخواننا من هو على خطأ عقدي، بل ومنهجي، بل وفكري، بل وقد يكون على خطأ حركي، ولكن إذا تخليتم أنتم عنه، وتخليت أنت فمن الذي سيأخذ بأيدي إخواننا إلى الصواب والحق؟ فلننصهر جميعًا في بوتقة الحب في الله مع تصحيح الأخطاء، لا أقول: أن ندني رءوسنا في الرمال كالنعام لا.
مع تصحيح الأخطاء العقدية، والمنهجية، والفكرية، بل والحركية، ولكن في ساعة من الحب الندي، والتعرف الجياش، والرحمة الواسعة، فلنكن كمجتمع الصحابة الأول إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
أيها الأحبة! اعتصموا بالله، وتوكلوا، واجتمعوا على الحق كرجل واحد، والله إن الله جل وعلا سائلنا عن هذا الدين، وإن أعظم خطر علينا هو هذه الفرقة، وهذا الشتات والتزمت، وأنتم تعلمون جميعًا أن أهل الباطل على اختلاف مشاربهم، وأيدلوجياتهم وقوانينهم ونظمهم ما اتفقوا على شيء مثل اتفاقهم على الكيد للإسلام، واستئصال شأفة المسلمين، وأهل الحق متفرقين، متشتتين متناحرين، ومتطاحنين متشرذمين.
أيها الحبيب! أنا بشر، أخطئ وأصيب، إياك أن ترفعني إلى مرتبة الملائكية أو الرسالة! كلا.
فإن أخطأت أنا من يصحح لي الخطأ، من يأخذ بيدي إلى الصواب إن تركتني وأنت أخي وحبيبي في الله، ولكن الحقيقة ألا يجسوا الأخطاء، وإنما ينبغي أن يتحركوا في ذل وتجرد وتواضع لله، وذلة لأخيك وانكسار لتأخذ بيمينه إلى الحق.
ووالله -أقولها- إن الأخ لو وجد أن أخاه قد أتاه مخلصًا صادقًا محبًا له متجردًا لله يدعوه إلى الحق، ويقول: يا أخي في الله، ويا حبيبي هذا غلط، وهذا باطل، والدليل من القرآن والسنة الصحيحة كذا وكذا، لو علم الله منك صدق النية لذلل لك القلوب، فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
أسأل الله جل وعلا أن يردنا وإياكم إلى هذا المنهج التربوي الأصيل، إلى القرآن والسنة الصحيحة، بفهم سلف الأمة، باعتبار هذا الفهم يمثل التطبيق العملي للقرآن والسنة.
أسأل الله جل وعلا أن يجزيكم خير الجزاء على هذا العناء والمشقة والكلف والنصب فجزاكم الله خيرًا أيها الأحباب، وأسأل الله أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال، وأسأل الله أن يحرم وجوهكم جميعًا على النار.
اللهم لا تخرج واحدًا من هذا المكان إلا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وتجارة لن تبور، برحمتك يا عزيز يا غفور! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعًا مرحومًا، وتفرقنا من بعده تفرقًا معصومًا، ولا تجعل اللهم فينا شقيًا ولا محرومًا.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم احمل المسلمين الحفاة، واكسُ المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع، وأقر أعيننا بنصر الإسلام وعز المسلمين.
اللهم اجعل مصرنا بلد الأمن والأمان، اللهم اجعل مصرنا بلد الأمن والأمان، اللهم اجعل مصرنا سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين.
اللهم ارفع عن أبنائنا وشعبنا الغلاء والوباء يا رب العالمين! اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء يا رب العالمين! اللهم اقبلنا وتقبل منا وتب علينا وارحمنا إنك أنت التواب الرحيم.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
1 / 10
التربية لماذا؟! [٢]
من خصائص التربية خاصية التكامل والشمول، فإن المنهج -كما هو معروف- إذا كان صادرًا عن شخص فإنه يناسب أناسًا معينين وزمانًا معينًا، ومكانًا معينًا، فلا يتعدى إلى غيره، وهذا ما نراه واضحًا بينًا في القوانين الوضعية.
أما المنهج الرباني فهو كامل وشامل لكل زمان ومكان؛ لأنه كلام من (يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)
2 / 1
مقدمة عن التربية ومصادرها وأهميتها
الحمد لله رب العالمين، أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه، لا أحصي ثناءً عليه فهو كما أثنى على نفسه، جل ثناؤه، وعظم جاهه، ولا إله غيره، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمدًا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبيًا عن أمته، ورسولًا عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة التي طال شوقنا إليها، وزكى الله هذه الأنفس التي انصهرنا معها في بوتقة الحب في الله، وشرح الله هذه الصدور التي جمعنا وإياها كتاب الله، طبتم جميعًا -أيها الأخيار الأطهار- وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعًا منزلًا من الجنة، وأسأل الله أن يجزيكم على هذا الحضور وعلى هذه الخطا خير الجزاء، وأن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته على منابر من نور مع المتحابين بجلاله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله إنه ولي ذلك ومولاه.
أيها الأحبة الكرام! إن لقاءنا الليلة هو امتداد للقاء الأول الذي بدأناه في مجمع التوحيد بعنوان "التربية لماذا؟ " وفي عجالة سريعة ألخص لحضراتكم ما ذكرناه في المحاضرة السالفة: تكلمت عن أسباب اختياري لهذا الموضوع في هذا التوقيت الحرج بالذات، ولخصتُ هذه الأسباب في ثلاثة أسباب: أولها: هذه الصحوة الإسلامية الكريمة المباركة، فإن هذه الصحوة من أجل أن تكون صحوةً قويةً بناءةً مثمرةً راشدةً، فإنها في أمس الحاجة إلى منهج تربوي أصيل، منبثقٍ من القرآن والسنة بفهم سلف الأمة، حتى يحميها من الإنسياح والذوبان في أطر ومناهج تربوية غربية دخيلة.
وحتى لا يضيع جهد هذه الصحوة سدى، كما يضيع ماء الأمطار بين الوديان والشعاب، وحتى لا تتعامل هذه الصحوة تعاملًا خاطئًا مع النصوص الخاصة أو العامة بوضعها في غير موضعها، أو بالاستشهاد بها في غير محلها، أو بدون تحقيق المناطات الخاصة أو العامة التي لا بد منها للربط ربطًا صحيحًا بين دلالات النصوص وحركة الواقع، فإن هذه الصحوة في أمس الحاجة إلى منهج تربوي أصيل، حتى لا تميل يمنة ولا يسرة، وإنما تسير على الصراط المستقيم الذي قال الله تعالى فيه: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام:١٥٣] تسير على كتاب الله، وعلى سنة رسول الله ﷺ بفهم سلف الأمة، دون أن تتعصب -هذه الصحوة- إلى جماعة بعينها، أو إلى منهج بعينه، أو إلى أمير بذاته، أو إلى شيخ برأسه، بل إنها لا تتعصب إلا للحق، لا تتعصب تعصبًا بغيضًا أعمى للمناهج والجماعات والأفراد والشيوخ؛ لأن التعصب البغيض الأعمى يصم الآذان عن سماع الحق، ويعمي الأبصار عن رؤية الدليل، بل إنها تتعصب للحق على لسان أي أحد، لا يهمها على لسان من ستقال كلمة الحق ما دامت كلمة الحق ستقال، لا يهمها من الذي سيرفع راية التوحيد ما دامت راية التوحيد ستظل خفَّاقة عالية تعانق كواكب الجوزاء.
إن الصحوة في حاجة إلى هذا المنهج المنضبط بالقرآن والسنة الصحيحة بفهم السلف، ليس معنى ذلك أنني أقول: بأنه يجب على كل فرد أن ينطلق حرًا طليقًا بمفرده ليعمل لدين الله، كلا! إننا نعيش الآن عصرًا يسمى بعصر التكتلات، ولا نجد الآن اتفاقًا على شيء قدر اتفاق الغرب الكافر والشرق الملحد على الكيد للإسلام واستئصال شأفة المسلمين، ومن ثم وجب على جميع أبناء الحركات الإسلامية المعاصرة بشتى انتماءاتهم وبشتى جماعاتهم أن تتحد قلوبهم على الأقل، إن لم أقل يتحدون في جماعة واحدة، وتحت مسمىً واحد، أقول: وجب أن تلتقي هذه القلوب على المنهج الصحيح الثابت الذي لا يختلف عليه اثنان، ولا ينتطح عليه عنزان، ألا وهو القرآن الكريم والسنة الصحيحة بفهم سلف الأمة الصالح، وليعمل كل أخ تحت لواء جماعته، التي رأى أنها هي الأقرب إلى الحق والصواب، ليعمل بكل طاقته وقدراته وإمكانياته لدين الله ﷿، دون أن يحتقر جماعة أو يمتهن شيخًا أو يحقر عالمًا أو يجرح إمامًا.
فإننا الآن بحاجة إلى تضميد الجراح، وإلى توحيد الصف والقلوب، فليتنازل كل أحد عن زعامته، وعن ريادته وقيادته، ليتحرك الجميع في بوتقة واحدة، في بوتقة الحب في الله، لنرفع جميعًا راية لا إله إلا الله في وقت أعلن فيه العلمانيون والمنافقون والمجرمون الحرب سافرةً لا على الإرهاب ولا على التطرف -زعموا- وإنما على الله ورسوله.
يا شباب الصحوة! يا أطهار! يا أخيار! يا أبرار! يا أصحاب الحق! يا أصحاب أوسمة السنة والشرف! لا نريد فرقة وتمزقًا وتشتتًا.
أعلم أن بعض الأحبة الآن سيقول لي: كيف تفكر وأنت تعلم يقينًا أن من بين أبنائنا وإخواننا ممن ينتمون إلى بعض الجماعات التي تعمل في الساحة على خطأ عقدي ومنهجي وحركي؟ أقول: يا أخي! أعلم ذلك يقينًا، ولكن إذا تناول كل أخ أخاه بالتجريح على المنابر فامتهن منهجه، واحتقر أسلوبه، وسفه دعوته، ولم يذهب إليه لينصهر معه في بوتقة الحب في الله، ويقول له بتواضع وذلة وانكسار: يا حبيبي في الله! هذا خطأ عقدي أنت عليه، والدليل على خطئك من كتاب الله كذا، ومن السنة الصحيحة كذا، وأقسم بالله العظيم لو رأى الأخ منك انكسارًا لله، وذلًا وتواضعًا له، ورحمة به، وحكمة في نصحه وعرض الدليل عليه لأذعن للحق؛ لأنه يقينًا -وأنا أثق بكلمتي- يقينًا والله ما انطلق إلا وهو يريد الحق ونصرة دين الله ونصرة سنة رسول الله ﷺ، ولكنه ربما أخطأ الطريق وانحرف عن المنهج بعض الشيء، فوجب على أحبابه وإخوانه أن يقتربوا إليه في رحمة وحكمة ليبينوا له الحق بالدليل، وحينئذٍ سنرى الجميع إن شاء الله جل وعلا، حتى ولو كان تحت ظل راية جماعته التي يعمل لها، سنرى الألفة والمحبة والأخوة والمودة، وسنرى حبيبنا من الجماعة الإسلامية يعانق أخاه وحبيبه من الإخوان، وسنرى الأخ من الإخوان يعانق حبيبه من الجماعة السلفية، أو من جماعة أنصار السنة، أو من جماعة التبليغ، ونرى الإخوان جميعًا قد انصهروا في بوتقة الحب في الله، ومن منا على خطأ يصحح له إخوانه ذلك الخطأ بالرحمة والحكمة.
يا أطهار! يا أخيار! أقسم بالله أن الشرق والغرب قد اتحدوا على حرب الإسلام، ونحن لا زلنا ومعنا الحق مختلفين، متناحرين، متطاحنين، لماذا؟! فليفتش كل واحد منا في نفسه هل يريد الله ورسوله والدار الآخرة، أم يريد الدنيا؟ دعاة الآخرة وعلماؤها متحابون متوادون، وعلماء الدنيا ودعاتها متناطحون متصارعون، فليفتش كل واحد منا في نفسه، هل أريد نصرة دين الله، أم أريد لنفسي الزعامة، والريادة، والقيادة، أم أريد لجماعتي أنها هي التي تظهر على الساحة، أم أريد لأميري أنه هو الذي تسمع كلمته، وأن قوله هو الحق الذي لا هزل ولا جدال فيه، وأن فتواه قرآن لا بد ألا يخالف، وسنة لا بد أن تتبع؟ فتشوا يا أحباب.
والله إن أول من تسعر بهم النار عالم وقارئ للقرآن ومجاهد سقط في الميدان، لماذا؟ لأن العالم ما ابتغى بعلمه وجه الله، أراد السمعة والشهرة، وأراد بعلمه أن يصرف وجوه الناس إليه، وفي الحديث الصحيح من حديث كعب بن مالك أن النبي ﷺ قال: (من تعلم العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو ليصرف وجوه الناس إليه فهو في النار) .
لا أريد أن أستطرد فإن اللقاء طويل وإن البنود كثيرة، وإنما أريد أن أقول: إن الصحوة الإسلامية بشتى فصائلها، وبمختلف جماعاتها في أمس الحاجة إلى منهج تربوي أصيل يصحح سيرها، ويقود خطاها، ذلكم المنهج المنضبط هو القرآن الكريم والسنة الصحيحة بفهم سلف الأمة، وحينئذٍ ستلتقي القلوب على الحق جل وعلا، أسأل الله أن يؤلف بين قلوبنا، وأن يوحد صفنا، وألا يشتت شملنا، وأن يجعل هذه الصحوة شوكة في حلوق المنافقين والعلمانيين.
السبب الثاني: الانفصام بين المنهج المنير والواقع المرير: وشرحنا ذلك مفصلًا، ونوهت لذلك في أول فقرة اليوم من خطبة الجمعة بقولي: إن ما تحياه الأمة الآن، إنما هو نتيجة حتمية لابتعادها عن المنهج الرباني، فإننا نرى الآن انفصامًا مريرًا بين منهجنا المنير وواقع الأمة المرير الأليم.
السبب الثالث: الذوبان في بوتقة المناهج التربوية الغربية الدخيلة: فإننا رأينا الأمة بعدما هزمت هزيمة نفسية نكراء، رأينا عندها الاستعداد للتقليد الأعمى، وللمحاكاة المطلقة، وصدق فيها قول من لا ينطق عن الهوى في الحديث الصحيح: (لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!) .
ذابت الأمة، وأصبحت مستعدة للإنسياح في هذه المناهج والأطر، وبعد مرحلة طويلة جنت الأمة من وراء ذلك حنظلًا، ورأت أنها قد زرعت شوكًا وجنت جراحًا.
لقد بينت بعد ذلك المصادر التي يجب على الأمة أن تستقي منها منهجها التربوي الأصيل، وركزت هذه المصادر في ثلاثة: المصدر الأول هو القرآن الكريم: فالقرآن الكريم هو مصدر التربية الأول، وهو المعين الذي يجب على أبناء الأمة أن تستقي منه التربية.
المصدر الثاني هو السنة: والسنة الصحيحة لا غنى للقرآن عنها على الإطلاق، فهي مبينة ومكملة وموضحة للقرآن الكريم، وضحت الصلاة، وبينت الزكاة، وفصلت الحج إلى آخر أركان هذا الدين ما وضحت ذلك إلا سنة النبي ﷺ.
وإن السنة منهج تربوي كامل متكامل، فضلًا عن أن شخصية النبي ﷺ منهج تربوي متكامل كذلك.
المصدر الثالث منهج السلف باعتباره يمثل التطبيق العملي للقرآن والسنة، ورضي الله عن ابن مسعود إذ يقول: [من كان مستنًا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه
2 / 2
خصائص التربية
بعد هذه المقدمة ننتقل إلى موضوع هام يتعلق بموضوع التربية ألا وهو: خصائص التربية.
وسوف أركز الحديث في عناصر محددة وهي: خصائص التربية التي سأتكلم عنها: أولًا: التكامل والشمول.
ثانيًا: التوازن والاعتدال.
ثالثًا: التميز والمفاصلة.
تلك هي خصائص التربية التي سأتحدث عنها، وأرجو الله أن يبارك لنا في وقتنا لنتحدث ولو عن خاصية واحدة ألا وهي: خاصية التكامل والشمول.
2 / 3
من خصائص التربية التكامل والشمول
خاصية التكامل والشمول خاصية فريدة من خصائص المنهج التربوي الإسلامي، لأنه منهج رباني من عند الله خالق الإنسان الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، إذ من المستحيل -يا أحبابي- أن يصنع الإنسان لنفسه منهجًا متكاملًا شاملًا.
لماذا؟ لأن الإنسان محدود بالزمان وبالمكان، فإن عاش الإنسان المقنن للمنهج الذي يحاربه، أو يحاد منهج الله، إن عاش هذا الإنسان المقنن لهذا المنهج عامًا فلن يعيش في العام القادم، وإن عاش في مكان فهو عاجز عن رؤية بقية الأماكن، وهذا هو قولي: إن الإنسان محدود بالزمان ومحدود بالمكان، ومن ثم إن وضع الإنسان لنفسه منهجًا تربويًا ظنًا منه أنه يمتاز بالتكامل والشمول، سيأتي منهجه -حتمًا- جزئيًا قاصرًا قد يصلح لزمان ولا يصلح لآخر، وقد يصلح لمكان ولا يصلح لآخر، وقد يصلح لنوعية من البشر ولا يصلح لنوعية أخرى، إذ من المستحيل أن يضع الإنسان لنفسه منهجًا كاملًا؛ لأنه لا يجوز أن يضع برنامج الرحلة كله إلا من يعلم الطريق بأكمله، ولا يعلم الأمر كله من أوله إلى آخره إلا خالق هذا الإنسان.
وأنا أعجب -أيها الأحبة- إذا تعطلت سيارة لإنسان ما، فإلى أي الأماكن يذهب لإصلاحها، هل يذهب إلى صيدلية، أم يذهب إلى طبيب، أم يذهب إلى بائع فاكهة؟ كلا، ولكنه يذهب إلى متخصص في (الميكانيكا) ليصلح له سيارته؛ لأنه عرف بفطرته وبعقله أن هذه السيارة لا بد لها من مصلح، ومصلحها هو الذي يعرف هذه (الميكنة) فيها، كذلك أنت أيها الإنسان أنت خلق من؟ وصنعة من؟ أنت خلق الله جل وعلا، والله وحده هو الذي يعرف ما يفسدك وما يصلحك، ومن ثم وضع لك المنهج الذي يضمن لك السعادة في الدنيا والآخرة، وحينئذٍ إذا رأى الإنسان في نفسه عطبًا، وإذا رأى في طريقه عفنًا، وجب عليه أن يبحث عن هذا العطب، وليصحح هذا المسار من منهج الكبير المتعال، الذي قال: ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك:١٤] .
2 / 4
عواقب ترك منهج الخالق ﷾ والتصورات الفاسدة لحقيقة الألوهية
أيها الأحبة! لما تحدى الإنسان خالقه وأراد لنفسه أن يضع لها منهجًا تربويًا شاملًا كاملًا وقع في أخطاء فاضحة، ففي الجانب العقدي: وضعت هذه المناهج التربوية المنحرفة تصورات فاسدة لحقيقة الألوهية، وانتبه! فمن بين هذه المناهج المنحرفة حينما تحدَّت منهج الله الخالق من عبد الشمس واتخذها إلهًا له من دون الله، وانظروا -يا أحبابي- إلى قيمة وقدر العقل البشري حينما ينفصم عن المنهج الرباني.
ذهبنا إلى أمريكا وكندا وفرنسا، فرأينا العقل البشري قد وصل إلى قمة الإبداع، ناطحوا السحاب، وغاصوا في أعماق البحار، وفجروا الذرة، وحولوا العالم كله إلى قرية صغيرة عن طريق هذه التقنية المذهلة في عالم الاتصالات والمواصلات، وبالرغم من ذلك قلت لهم حينما رأيت المعصية، ورأيت الدعارة والفسق والانحلال في كل مكان، في السيارة والطيارة، في القطار والمطار، في الفندق والجريدة والتلفاز، في كل مكان، نظرت إلى أحبابي من حولي وقلت: اسجدوا لله شكرًا، وانظروا إلى هذه العقول عرفت كل شيء في الكون إلا خالقها.
وأنت -أيها المسلم- البسيط، انظر إلى أبي وأبيك، رجل فلاح لم يذهب إلى جامعة، ولم يتخرج من كلية، ولم يأخذ الماجستير، ولم يحضر الدكتوراة، وبالرغم من ذلك فإنه ساجد شاكر لمولاه.
أي نعمة هذه؟! وأي فضل علينا؟! إنه فضل الله ابتداء وانتهاء:
ومما زادني فخرًا وتيهًا وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
2 / 5
عبادة أهل سبأ للشمس
هذه المناهج المنحرفة لما تحدت منهج الله الخالق وقعت في تصورات فاضحة لحقيقة الإله الذي ينبغي أن يعبد، فمن بين هذه المناهج من اتخذ الشمس إلهًا له من دون الله، وقد حكى الله ذلك عن الهدهد الموحد، الذي جاء مغضبًا إلى نبي الله سليمان، حينما رأى أهل سبأ يسجدون للشمس من دون الله، وعاد يعلن غضبته على التوحيد الذي دنسه البشر، وعلى العقيدة التي لوثت على يد بعض الخلق، جاء الهدهد ليعلن غضبته، وليأمر بالمعروف ولينهى عن المنكر، وهو يقول لنبي الله سليمان: ﴿أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [النمل:٢٢-٢٦] .
2 / 6
عبادة قوم إبراهيم للقمر والنجوم
ومن بين هذه المناهج المنحرفة من يعبد القمر والنجوم من دون الله، هذا تصورهم لحقيقة الإله الذي ينبغي أن يعبد، كما فعل قوم إبراهيم، وحكى الله جل وعلا ذلك عنهم في القرآن، وقام إبراهيم ليقم عليهم الحجة الدامغة البليغة، ليأخذ بعقولهم الشاردة إلى الحق والحقيقة، فقال الله ﷾: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام:٧٥-٧٩] الله أكبر! أراد أن يقيم عليهم الحجة بمفهومهم، وباستدلالاتهم، وبآياتهم التي يعبدونها من دون الله.
2 / 7
عبادة بني إسرائيل للعجل
ومن بين هذه المناهج من وقعت في هذا التصور الفاضح لحقيقة الألوهية فعبدت العجل من دون الله جل وعلا: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ﴾ [البقرة:٩٢] عبد بنو إسرائيل العجل من دون الله، هذا تصورهم لحقيقة الألوهية، وقال تعالى: ﴿أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا * وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى﴾ [طه:٨٩-٩١] .
2 / 8
عبادة البقر والفئران وغيرها في الهند
الآن في عصر الذرة، في العصر الذي يتغنى فيه العلمانيون بالعلم، وبعبادة العلم والعقل، في هذا العصر، ليعلم العلمانيون أنه ما زال إلى الآن من بين الناس من يعبد البقر من دون الله جل وعلا، ففي الهند وحدها ما يزيد على مائتي مليون بقرة تعبد من دون الله، ولو مشت البقرة في شارع من الشوارع العامة لا تستطيع سيارة مهما كان قائدها على أن يخطو خطوة واحدة، إلا إذا تفضلت صاحبة الجلال البقرة بالانصراف، وناهيك إذا دخلت البقرة محلًا من المحلات العامة وبالت -أعزكم الله- لسعد صاحب المحل سعادة غامرة، وقال بملء فمه: لقد حل عليه اليوم بركات الإله، في عصر الذرة!! وفي الهند ذاتها تقام المعابد الضخمة الفخمة التي تهدى إليها النذور والقرابين، ولكن ستعجبون وستضحكون بملء أفواهكم إذا علمتم أن الآلهة التي تقرب إليها هذه النذور وتلك القرابين في هذه المعابد إنما هي الفئران! إي وربي! وفي بعض القبائل عُبد عضو الذكورة عند الرجل، الرجال يعبدون عضو المرأة، والنساء يعبدن عضو الرجل.
اسجد لربك شكرًا أيها الموحد: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الحجرات:١٧] أسأل الله أن يتم علي وعليكم النعم، وأن يحفظ علي وعليكم نعمة الإيمان، وأن يثبتنا عليها لنلقاه بها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
2 / 9
عبادة البشر من دون الله
ومن بين هذه المناهج المنحرفة التي وقعت في تصور فاضح لحقيقة الألوهية من عبد البشر من دون الله جل وعلا، فلقد عبد اليهود عزيرًا: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة:٣٠] ولقد عبدت النصارى عيسى بن مريم: ﴿وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة:٣٠] .
ورحم الله ابن القيم إذ يقول:
أعباد المسيح لنا سؤال نريد جوابه ممن وعاه
إذا مات الإله بصنع قوم أماتوه فهل هذا إله
ويا عجبًا لقبر ضم ربًا وأعجب منه بطن قد حواه
أقام هناك تسعًا من شهور لدى الظلمات من حيض غداه
وشق الفرج مولودًا صغيرًا ضعيفًا فاتحًا للثدي فاه
ويأكل ثم يشرب ثم يأتي بلازمه فهل هذا إله
تعالى الله عن إفك النصارى سيسأل كلهم عما افتراه
أإله مع الله؟! لا إله إلا الله.
تصور فاضح أن يُعبد عبد يأكل ويشرب ويقضي حاجته، ويحمل البصاق في فمه، ويحمل العرق تحت إبطيه، ويحمل القذر في مثانته وأمعائه، أن يعبد هذا من دون الله جل وعلا! كما قال فرعون، وكما يقول الفراعنة في كل زمان ومكان: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص:٣٨] فعبدوه من دون الله جل وعلا.
ومن بين هذه المناهج من عبد العلم ومنها من عبد العقل، ومنها ومنها ومنها إلى آخر هذا الركام الهائل من هذه الآلهة المكذوبة المدعاة التي عبدت اليوم في الأرض من دون الله جل وعلا.
2 / 10