أسرار البلاغة - ت محمود شاكر
أسرار البلاغة - ت محمود شاكر
Penerbit
مطبعة المدني بالقاهرة
Lokasi Penerbit
دار المدني بجدة
Genre-genre
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المصنف
الحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله أجمعين
اللفظ والمعنى
اعلم أن الكلام هو الذي يُعطي العلومَ منازلها، ويبيّن مراتبها، ويكشفُ عن صُوَرها، ويجني صنوفَ ثَمَرها، ويدلُّ على سرائرها، ويُبْرِزُ مكنون ضمائرها، وبه أبان الله تعالى الإنسان من سائر الحيوان، ونبّه فيه على عِظَم الامتنان، فقال عزّ من قائل: " الرَّحْمَنُ عَلَّمَ القُرْآنَ، خَلَقَ الإنْسَانَ، عَلَّمَهُ البَيَانَ " " الرحمن١ - ٤ "، فلولاه لم تكن لتتعدَّى فوائدُ العلمِ عالِمَه، ولا صحَّ من العاقل أن يَفْتُق عن أزاهير العقلِ كمائمه، ولتعطَّلَت قُوَى الخواطر والأفكار من معانيها، واستوَتِ القضيّة في مَوْجُودَها وفانيها، نَعمْ، ولوقع الحيُّ الحسَّاس في مرتبةِ الجماد، ولكان الإدراك كالذي ينافيه من الأضداد، ولبقيتِ القلوب مُقْفَلةً تَتَصَوَّنُ على ودائعها، والمعاني مَسْجُونَةً في مواضعها، ولصارت القرائح
1 / 3
عن تصرُّفها معقولةً، والأذْهان عن سلطانها معزولةً، ولما عُرف كفرٌ من إيمان، وإساءة من إحسان، ولما ظهر فرقٌ بين مدح وتزيين، وذمّ وتهجين، ثم إنّ الوصف الخاصَّ به، والمعنى المثبِتَ لنسبه، أنه يريك المعلومات بأوصافها التي وجدها العلم عليها، ويقرِّر كيفياتها التي تتناولها المعرفةُ إذا سَمَتْ إليها، وإذا كان هذا الوصفُ مقوِّمَ ذاته وأخصَّ صِفاته، كان أشرف أنواعه ما كان فيه أجلى وأظهر، وبه أولى وأجدر، ومن ها هنا يبيّن للمحصل، ويتقرّر في نفس المتأمِّل، كيف ينبغي أن يَحْكُمْ في تفاضُل الأقوال إذا أراد أن يقسّم بينها حظوظها من الاستحسان، ويعدّل القسمةَ بصائب القِسطاس والميزان، ومن البيّن الجليّ أن التبايُنَ في هذه الفضيلة، والتباعد عنها إلى ما ينافيها من الرذيلة، ليس بمجرَّد اللفظ، كيف والألفاظ لا تُفيد حتى تُؤلَّف ضربًا خاصًّا من التأليف، ويُعْمَد بها إلى وجه دونِ وجهٍ من التركيب والترتيب، فلو أنك عَمَدت إلى بيت شعرٍ أو فَصْل نثرٍ فعددت كلماته عَدًّا كيف جاء واتَّفق، وأبطلت نضدَهُ ونظامه الذي عليه بني، وفيه أفرغ المعنى وأجري، وغيّرت ترتيبه الذي بخصوصيته أفاد ما أفاد، وبنَسَقِه المخصوص أبان المراد، نحو أن تقول في: "
1 / 4
من الطويل قِفا نَبْكِ من ذِكْرَى حَبيبٍ ومنزل " منزل قفا ذكرى من نبك حبيب، أخرجته من كمال البيان، إلى مجال الهَذَيان، نعم وأسقطت نسبتَهُ من صاحبه، وقطعت الرَّحمِ بينه وبين مُنْشِئه، بل أحَلْت أن يكون له إضافةٌ إلى قائل، ونَسَبٌ يَخْتَصّ بمتكلم، وفي ثبوت هذا الأصل ما تَعْلم به أنّ المعنى الذي له كان هذه الكلم بيتَ شعرٍ أو فصلَ خطابٍ، هو ترتيبها على طريقة معلومة، وحصولها على صورة من التأليف مخصوصة، وهذا الحُكْمُ - أعني الاختصاص في الترتيب - يقع في الألفاظ مرتَّبًا على المعاني المرتَّبَة في النفس، المنتظمةِ فيها على قضيّة العقل، ولا يُتّصوَّر في الألفاظ وُجُوبُ تقديم وتأخير، وتخصُّصٍ في ترتيب وتنزيل، وعلى ذلك وُضِعَت المراتبُ والمنازلُ في الجمل المركَّبة
وأقسام الكلام المدَّونة
فقيل: من حق هذا أن يَسبق ذلك، ومن حقِّ ما هاهنا أن يقع هنالك، كما قيل في المبتدأ والخبر والمفعول والفاعل، حتى حُظِر في جنس من الكلم بعينه أن يقع إلاّ سابقًا، وفي آخَرَ أن يوجد إلا مبنيًَّا على غيره وبه لاحقًا، كقولنا: إن الاستفهام له صدر الكلام، وإن الصفة لا تتقدم على الموصوف إلا أنْ تُزال عن الوصفية إلى غيرها من الأحكام، فإذا رأيت البصير بجواهر الكلام يستحسن شعرًا أو يستجيد نثْرًا، ثم يجْعَلُ الثناءَ عليه من حيث اللّفظ فيقول: حُلْوٌ رشيق، وحَسَنٌ أَنيقٌ، وعذبٌ سائغٌ، وخَلُوبٌ رائعٌ، فاعلم أنه ليس يُنبئك عن أحوالٍ ترجعُ إلى أجْراس
1 / 5
الحروف، وإلى ظاهر الوضعِ اللغويّ، بل إلى أمرٍ يقع من المرء في فؤاده، وفضلٍ يَقْتدحُه العقلُ من زِناده، وأمَّا رجوع الاستحسان إلى اللفظ من غير شِرْكٍ من المعنى فيه، وكونِه من أسبابهِ ودواعيه، فلا يكاد يَعْدُو نمطًا واحدًا، وهو أن تكون اللفظة مما يتعارفه الناس في استعمالهم، ويتداولُونه في زمانهم، ولا يكون وَحْشِيًا غريبًا، أو عامّيًا سخيفًا، سُخْفُهُ بإزالته عن موضوع اللغة، وإخراجه عما فرضتْه من الحكم والصفة، كقول العامة أشْغَلتَ وانفسد، وإنما شرطتُ هذا الشرط، فإنه ربما استُسخف اللفظ بأمر يرجعُ إلى المعنى دون مجرَّد اللفظ، كما يحكى من قول عبيد الله بن زياد لما دُهش: افتحوا لي سيفي، وذلك أن الفتح خلاف الإغلاق، فحقُّه أن يتناول شيئًا هو في حكم المُغلقَ والمسدود، وليس السَّيف بمسدود، وأقصى أحوالِهِ أن يكون كونُه في الغِمْد بمنزله كَوْنِ الثوب في العِكْمِ، والدرهم في الكيس، والمتاعِ في الصندوق، والفتح في هذا الجنس يتعدَّى أبدًا إلى الوِعاء المسدود على الشيء الحاوي له لا إلى ما فيه، فلا يقال: افتحِ الثوبَ، وإنما يقال: افتحِ العِكْمَ وأخرجِ الثوب وافتحِ الكيس، وها هنا أقسام قد يُتَوهَّمُ في بَدْءِ الفكْرة، وقبلَ إتمام العِبرة، أنَّ الحُسْنَ والقبحَ فيها لا يتعدَّى اللفظَ والجَرَسَ، إلى ما يُناجِي فيه العقلُ النفسَ،
1 / 6
ولها إذا حُقّق النظر مَرجِعٌ إلى ذلك، ومُنْصَرَفٌ فيما هنالك، منها: التجنيس والحشو.
القول في التجنيس
أما التجنيس فإنك لا تستحسن تجانُس اللفظتين إلا إذا كان وقع معنييهما من العقل موقعًا حميدًا، ولم يكن مَرْمَى الجامع بينهما مَرْمًى بعيدًا، أتراك استضعفتَ تجنيس أبي تمام في قوله:
من الكامل ذَهَبَت بمُذْهَبَهِ السَّمَاحَةُ فَالْتَوتفِيهِ الظُّنُونُ: أَمَذْهَبٌ أم مُذْهَبُ
واستحسنتَ تجنيس القائل: " حتى نَجَا من خَوفِهِ وَمَا نَجا " وقول المحدَث:
ناظِراه فيما جَنَى ناظِراه ... أوْ دَعانِي أمُتْ بما أَودعَانِي
لأمرٍ يرجع إلى اللفظ؟ أم لأنك رأيتَ الفائدة ضَعُفَت عن الأوّل وقويتَ في الثاني؟ ورأيْتَك لم يزدك بمَذْهب ومُذهب على أن أَسْمَعَكَ حروفًا مكررةً، تروم فائدة فلا تجدُها إلا مجهولةً منكرةً، ورأيتَ الآخر قد أعَادَ
1 / 7
عليك اللفظةَ كأنه يخدعُك عن الفائدة وقد أعطاها، ويوهمك كأنه لم يَزِدْك وقد أحسن الزيادة ووفَّاها، فبهذه السريرة صار التجنيس - وخصوصًا المستوفَى منه المُتَّفَقَ في الصورة - من حُلَى الشّعر، ومذكورًا في أقسام البديع.
فقد تبين لك أن ما يُعطي التجنيس من الفضيلة، أمرٌ لم يتمَّ إلا بنُصْرةِ المعنى، إذ لو كان باللفظ وَحْدَهُ لما كان فيه مستحسنٌ، ولما وُجد فيه معيبٌ مُسْتهجَن، ولذلك ذُمَّ الاستكثار منه والوَلُوعُ به، وذلك أن المعاني لا تَدِين في كل موضع لما يَجْذبها التجنيس إليه، إذ الألفاظ خَدَمُ المعاني والمُصرَّفةُ في حكمها، وكانت المعاني هي المالكة سياستهَا، المستحقَّةَ طاعتها، فمن نَصَرَ اللفظ على المعنى كان كمن أزال الشيء عن جِهَته، وأحاله عن طبيعته، وذلك مظنّة الاستكراه، وفيه فَتْح أبواب العيب، والتَّعرُّضُ للشَّيْن، ولهذه الحالة كان كلامُ المتقدِّمين الذين تركوا فَضْل العناية بالسجع، ولَزِموا سجِيَّةَ الطبع، أمكنَ في العقول، وأَبْعَد من القَلَقِ، وأَوضحَ للمراد، وأفضل عند ذوي التَّحصيِل، وأسلمَ من التفاوتِ، وأَكْشَفَ عن الأغراض، وأَنْصَرَ للجهة التي تَنحو نَحْوَ العقل، وأَبعدَ من التَّعمُّلِ الذي هو ضربٌ من الخِداعِ بالتزويق، والرضَى بأن تَقَع النقيصةُ في نفس الصُّورة، وإنّ الخِلْقَةَ،
1 / 8
إذا أكثر فيها من الوَشْم والنقش، وأُثْقل صاحِبُها بالحَلْي والوَشْي، قياسُ الحَلْي على السيف الدَّدَان، والتَوسُّعِ في الدعوى بغير بُرْهان، كما قال:
إذا لم تُشاهِدْ غَيْرَ حُسْن شِيَاتِهَا ... وَأَعْضَائها فالحُسْنُ عنك مُغَيَّبُ
وقد تجد في كلام المتأخرين الآنَ كلامًا حَمَل صاحبَه فرطُ شَغَفِه بأمورٍ ترجع إلى ما له اسم في البديع، إلى أن ينسى أنَّه يتكلم ليُفهِم، ويقول ليُبين، ويُخيَّل إليه أنه إذا جَمَعَ بين أقسام البديع في بيت فلا ضير أن يقع ما عَنَاهُ في عمياء، وأنْ يُوقع السامعَ من طَلَبه في خَبْطِ عَشْوَاءِ، وربَّمَا طَمَسَ بكثرة ما يتكلَّفه على المعنى وأفسده، كمن ثقَّل العروسَ بأصناف الحَلْي حتى ينالها من ذلك مكرُوهٌ في نفسها. فإن أردت أن تعرف مِثالًا فيما ذكرتُ لك، من أن العارفين بجواهر الكلام لا يعرِّجون على هذا الفنّ إلا بعد الثقة بسلامة المعنى وصحَّته، وإلا حيثُ يأمَنون جنايةً منه عليه، وانتقاصًا له وتعويقًا دونه، فانظر إلى خُطَب الجاحظ في أوائل كتبه هذا - والخُطبُ من شأنها أن يُعْتَمَد فيها الأوزانُ والأسجاعُ، فإنها تُرْوَى وتُتناقل تَنَاقُلَ الأشعار، ومحلُّها محلُّ النسيب والتشبيب
1 / 9
من الشعر الذي هو كأنه لا يُرَادُ منه إلاّ الاحتفالُ في الصنعة، والدَّلالةُ على مقدار شَوْطِ القَرِيحَة، والإخبارُ عن فَضْل القوة، والاقتدار على التفنُّن في الصنعة - قال في أول كتاب الحيوان: " جَنَّبك الله الشُّبْهة، وعَصَمَك من الحَيْرِةِ، وجعل بينك وبين المعرفة سبَبًا، وبين الصدق نسبًَا، وحبَّب إليك التثُّبت، وزَيَّنَ في عينك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعر قلبك عِزَّ الحق، وأوْدِع صدرَك بَرْدَ اليقين وطَرَد عنك ذُلَّ اليأس، وعرَّفك ما في الباطل من الذلّة، وما في الجهل من القِلّة ". فقد ترك أوَّلًا أن يوفِّق بين الشبهة والحيرة في الإعراب، ولم يَرَ أن يَقْرن الخلاف إلى الإنصاف، ويَشْفَعَ الحق بالصدق، ولم يُعْنَ بأن يَطْلُب لليأس قرينةً تصل جناحَه، وشيئًا يكون رَدِيفًا له، لأنه رأى التوفيق بين المعاني أحقُّ، والموازنة فيها أحسنَ، ورأى العناية بها حتى تكونَ إخوةً من أبٍ وأمٍّ؛ ويذَرَها على ذلك تَتَّفقُ بالوداد، على حسب اتّفاقها بالميلاد، أَوْلى من أن يَدَعها، لنُصْرَة السجع وطلب الوزن، أولادَ عِلَّة، عسى أن لا يوجد بينها وفاق إلا في الظواهر، فأما أنْ يَتَعَدَّى ذلك إلى الضمائر، ويُخْلص إلى العقائِد والسَّرائر، ففي الأقلِّ النادر.
1 / 10
وعلى الجملة فإنك لا تجد تجنيسًا مقبولًا، ولا سَجَعًا حَسَنًَا، حتى يكون المعنى هو الذي طلبه واستدعاه وسَاق نحوَه، وحتى تَجِده لا تبتغي به بدَلًا، ولا تجِد عنه حِوَلًا، ومن ها هنا كان أَحْلَى تجنيس تسمَعُه وأعلاه، وأحقُّه بالحُسْن وأولاهُ، ما وقع من غير قصدٍ من المتكلم إلى اجتلابه، وتأهُّب لطلبه، أو مَا هو - لحسن مُلاءمته، وإن كان مطلوبًا - بهذه المنزلة وفي هذه الصورة، وذلك كما يمثّلون به أبدًا من قول الشافعي رحمه الله تعالى وقد سئل عن النَّبيذ فقال: " أجمع أهلُ الحرمين على تحريمه "، ومما تجده كذلك قولُ البحتري:
يَعْشَى عَنْ المجد الغبيّ؛ ُ ولَنْ تَرَى ... في سُؤدَدٍ أَرَبًا لغير أريبِ
وقوله:
فقد أصبحتَ أَغْلبَ تَغْلَبِيًّا ... على أيدي العَشِيرةِ والقلوب
ومما هو شبيه به قوله:
وهوًى هَوَى بدُموعه فتَبَادَرَت ... نَسَقًَا يَطأنَْ تجلُّدًا مغلوبا
وقوله:
ما زِلْتَ تقرَعُ بَابَ بابَلَ بالقَنا ... وتزوره في غارةٍ شعواءِ
1 / 11
وقوله:
ذَهَبَ والأعالِي حيثُ تَذْهَبُ مُقْلَةٌ ... فيه بنَاظِرِهَا حَدِيدُ الأسفلِ
ومثال ما جاء من السجع هذا المجيءَ وجرى هذا المجرى في لِين مقَادته، وحلَ هذا المحلِّ من القَبُولِ قولُ القائل: اللهم هَبْ لي حمدًا، وهَبْ لِي مجدًا، فلا مجدَ إلا بِفَعالٍ، ولا فَعَال إلاّ بمال، وقولُ ابن العميد: فإن الإبقاء على خَدَم السلطان عِدْلُ الإبقاء على ماله، والإشفاق على حاشيته وحَشَمه، عِدْلُ الإشفاق على ديناره ودِرْهَمه. ولستَ تجد هذا الضرب يكثُر في شيءٍ، ويستمرُّ كَثْرَته واستمرارَه في كلام القدماء، كقول خالد: ما الإنسان، لولا اللسان، إلا صورة ممثلة، وبهيمة مُهْمَلة، وقول الفضل بن عيسى الرقاشي: سَلِ الأرض فقل: مَنْ شَقَّ أنهارك، وغرسَ أشجارك، وجنى ثمارك، فإن لم تُجبك حِوارًا، أجابتك اعتبارًا.
1 / 12
وإن أنتَ تتبِّعته من الأثر وكلام النبي ﷺ تَثِقْ كلَّ الثقة بوجودك له على الصِّفة التي قَدمتُ، وذلك كقول النبي ﷺ: " الظُّلْم ظُلُماتٌ يوم القيامة "، وقوله صلوت الله عليه: " لا تزالُ أُمَّتِي بخيرٍ ما لم ترَ الغنى مَغْنَمًَا، والصدقةَ مَغْرَمًا "، وقوله ﷺ: " يا أيُّهَا الناس؛ أَفْشُوا السلام، وأَطْعِمُوا الطعام، وصِلُواْ الأرحامَ، وصَلُّوا بالليلِ، والناسُ نِيامٌ، تدخلُوا الجنَّةَ بِسَلامٍ "، فأنت لا تجد في جميع ما ذكرتُ لفظًا اجتُلِب من أجل السجع، وتُرك له ما هو أحقُّ بالمعنى منه وأبرُّ به، وأهدَى إلى مَذْهبه، ولذلك أنكرَ الأعرابي حين شكا إلى عامل ألمًا بقوله: حُلِّئَتْ رِكَابِي، وشُقِّقَتْ ثيابي، وضُرِبَتْ صِحابِي، فقال له العامل: أَوَتَسْجَعْ أيضًا إنكارَ العامل السجع حتى قال: فكيف أقول؟، وذاك أنّه
1 / 13
لم يعلم أصلح لما أراد من هذه الألفاظ ولم يَرَهُ بالسجع مُخِلًاّ بمعنى، أو مُحْدِثًا في الكلام استكراهًا، أو خارجًا إلى تكلُّفٍ واستعمال لما ليس بمُعَتادٍ في غَرضه، وقال الجاحظ: لأنه لو قال: حُلِّئَتْ إبلي أو جمالي أو نوقي أو بُعْرَانِي أو صِرْمَتِي لكان لم يعبِّر عن حقّ معناه، وإنما حُلِّئَتْ ركابه، فكيف يدع الركابَ إلى غير الرَكّاب؟ وكذلك قولُه: وشُقِّقَتْ ثيابي، وضُرِبت صحَابِي، فقد تبين من هذه الجملة أن المعنى المقتضى اختصاصَ هذا النَّحو بالقَبُول: هو أنَّ المتكلم لم يَقُدِ المعنى نحوَ التجنيس والسَّجع، بل قادَه المعنى إليهما، وعَبر به الفرق عليهما، حتى إنه لو رَامَ تَركَهُما إلى خلافهما مما لا تجنيسَ فيه ولا سجعَ، لدخَل من عُقُوق المعنى وإدخال الوَحْشَة عليه، في شبيهٍ بما يُنسَب إليه المتكلف للتَّجنيس المستكْرَهِ، والسجع النَّافر، ولن تجد أيمنَ طائرًا، وأحسنَ أوّلًا وآخرًا، وأهدى إلى الإحسان، وأجلبَ للاستحسان، من أن تُرسل المعاني على سجيّتها، وتَدَعها تطلب لأنفسها الألفاظَ، فإنها إذا تُركت وما تريد لم تكتسِ إلا ما يليق بها، ولم تَلْبَسْ من المعارض إلا ما يَزِينها، فأمّا أن تَضَع في نفسك أنه لا بُدَّ من أن تجنس أو تَسْجَعْ بلفظين مخصوصين، فهو الذي أنْتَ منه بِعَرَض الاستكراه، وعلى خَطَرٍ من الخطأ والوقوع في الذَّمّ،
1 / 14
فإنْ ساعَدَك الجَدّ كما ساعد في قوله: أو دعاني أمُت بما أودعاني، وكما ساعد أبا تمام في نحو قوله:
وَأنجدتمُ من بَعْدِ إتهام دَارِكُمْ ... فيا دَمعُ أَنْجِدْنِي عَلى سَاكِنِي نَجْدِ
وقوله:
هُنَّ الحَمَامُ، فإنْ كَسَرتَ عِيافةً ... من حَائِهنٌ فإنهنَّ حِمَامُ
فذاك، وإلاّ أطلقت ألسنة العيب، وأفضى بك طلبُ الإحسانُ من حيث لم يَحْسُنِ الطلبِ، إلى أفحش الإساءة وأكبر الذنب، ووقعت فيمِا تَرَى من ينصرك، لا يرى أحسن من أن لا يَرْويه لك، ويَوَدُّ لو قَدَر على نَفْيه عنك، وذلك كما تجده لأبي تمام إذا أسلم نفسه للتكلف، ويرى أنه إن مرَّ على اسم موضع يحتاج إلى ذكره أو يتصل بقصة يذكرها في شعره، مِنْ دُونَ أن يشتقّ منه تجنيسًا، أو يعمل فيه بديعًاَ، فقد باء بإثم، وأخلّ بفَرْضِ حَتْمٍ، من نحو قوله:
سيف الإمامِ الذي سمّتْهُ هَبَّتُهُ ... لمّا تَخَرَّمَ أهلَ الكُفْرِ مُخْتَرِمَا
1 / 15
إنّ الخليفةَ لمَّا صَالَ كنتَ له ... خَلِيفةَ الموتِ فيمن جَارَ أَوْ ظَلَمَا
قَرَّت بقُرَّانَ عينُ الدين وَاشْتترَت ... بالأشتَرَينِ عُيونِ الشِّرْكِ فَاصطُلما
وكقول بعض المتأخرين:
اِلبسْ جلابيبَ القنَا ... عةِ إنّها أوقَى رِداءْ
يُنْجيكَ من دَاءِ الحري ... ص معًا ومن أوقارِ داءْ
وكقول أبي الفتح البُستي:
جَفُّوا فما في طينهم للذي ... يَعْصِرُه من بِلَّةِ بِلَّهْ
وقوله:
أخٌ لي لفظُه دُرُّ ... وكلُّ فِعاله بِرُّ
تلقّانِي فحيّاني ... بوجهٍ بَشْرُهُ بِشْرُ
لم يساعدهما حُسن التوفيق كما ساعد في نحو قوله:
وكُلُّ غِنًى يَتيهُ به غنيٌّ ... فمرتجَعٌ بموتٍ أو زوال
وهَبْ جَدِّي طَوَى لي الأرض طُرًّا ... أليسَ الموتُ يَزْوِي ما زَوَى لي
1 / 16
ونحوه:
منزلتي يحفظُها منزلي ... وباحتي تُكرِمُ ديباجتي
واعلم أنّ النكتة التي ذكرتها في التجنيس، وجعلتُها العّلةَ في استيجابه الفضيلة وهي حُسْن الإفادة، مع أنّ الصورة صورةُ التكرير والإعادة وإن كانت لا تظهر الظهورَ التامَّ الذي لا يمكن دَفْعُه، إلا في المستوفَى المتفق الصورة منه كقوله:
ما مات من كَرَم الزمانِ فإنه ... يَحْيَى لدَى يَحْيَى بن عبد الله
أو المرفُوِّ الجاري هذا المَجْرَى كقوله: " أودَعانِي أمتْ بما أوْدَعاني "، فقد يُتَصَوَّر في غير ذلك من أقسامه أيضًا، فمما يظهر ذاك فيه ما كان نحو قول أبي تمام:
يَمُدُّون من أيدٍ عَواصٍ عَواصِمٍ ... تَصُولُ بأسْيافٍ قَوَاضٍ قَواضِبِ
وقول البحتري:
لئن صَدَفتْ عنَّا فرُبَّتَ أنفُس ... صَوادٍ إلى تِلك الوجُوه الصَّوادف
1 / 17
وذلك أنك تَتَوهم قبل أن يردَ عليك آخرُ الكلمة كالميم من عواصم والباء من قواضب، أنها هي التي مَضَت، وقد أرادتْ أن تجيئَك ثانيةً، وتعودَ إليكَ مؤكِّدَةً، حتى إذا تمكن في نفسك تمامُها، ووعى سمعُك آخرَها، انصرفتَ عن ظنّك الأول، وزُلْتَ عن الذي سبق من التخيُّل، وفي ذلك ما ذكرتُ لك من طلوع الفائدة بعد أنْ يخالطك اليأس منها، وحصول الربح بعد أن تُغالَطَ فيه حتى ترى أنه رأس المال. فأما ما يقع التجانس فيه على العكس من هذا وذلك أن تختلف الكلمات من أوّلها كقول البحتري:
بسيوفٍ إيماضُها أوجالُ ... للأعادي ووقعُها آجال
وكذا قول المتأخر:
وكم سبقَتْ منه إلَيَّ عوارفٌ ... ثنائَي من تلك العَوارف وَارِف
وكم غُررٍ من بِرّه ولطائفٍ ... لَشُكْرِي على تلك اللَّطائِف طائفُ
وذلك أنّ زيادة عوَارِف على وارف بحرف اختلاف من مبدأ الكلمة في الجملة، فإنه لا يبعد كلَّ البعد عن اعتراض طرفٍ من هذا التخيُّل فيه، وإن كان لا يقوى تلك القوةَ، كأنك ترى أن اللفظة أعيدت عليك مُبْدَلًا من بعض حروفها غيرُه أو محذوفًا منها، ويبقى في تتبّع هذا الموضع كلامٌ حقُّه غير هذا الفصل وذلك حيث يوضع.
1 / 18
فصل في
قسمة التجنيس وتنويعه
فالذي يجب عليه الاعتماد في هذا الفنّ، أن التوهُّم على ضربين: ضربٍ يستحكم حتى يبلُغ أن يصيرَ اعتقادًا، وضربٍ لا يبلغ ذلك المبلغ، ولكنه شيءٌ يجري في الخاطر، وأنت تعرف ذلك وتتصور وَزْنه إذا نظرت إلى الفرق بين الشيئين يشتبهان الشَبَهَ التامَّ؛ والشيئين يشبه أحدُهما بالآخر على ضرب من التقريب، فاعرفه، وأما الحشو فإنما كُرِهَ وذُمَّ وأُنْكر ورُدَّ، لأنه خلا من الفائدة، ولم يَحْلَ منه بعائدةٍ، ولو أفاد لم يكن حشوًا، ولم يُدْعَ لغْوًا، وقد تراه مع إطلاق هذا الاسم عليه واقعًا من القَبُول أحسنَ موقعَ، ومُدْركًا من الرّضَى أجزلَ حظّ، وذاك لإفادته إيَّاك، على مجيئه مجيءَ ما لا يعوّلَ في الإفادة عليه، ولا طائل للسامع لديه، فيكون مَثَلُه مَثَلَ الحَسَنةِ تَأتيك من حيث لم ترقبها، والنافعةِ أتتك ولم تحتسبها، وربّمَا رُزِقَ الطُّفَيْليُّ ظَرْفًَا يحظَى به حتى يحلَّ محلّ الأضياف الذين وقعَ الاحتشاد لهم، والأحباب الذين وُثِقَ بالأُنس منهم وبهم،
1 / 19
وأما التطبيق والاستعارة وسائر أقسام البديع، فلا شبهة أنَّ الحُسْن والقُبْح لا يعترض الكلامَ بهما إلاّ من جهة المعاني خاصّةً، من غير أن يكون للألفاظ في ذلك نصيبٌ، أو يكون لها في التحسين أو خلاف التحسين تصعيدٌ وتصويب، أما الاستعارة، فهي ضربٌ من التشبيه، ونَمَطٌ من التمثيل، والتشبيه قياس، والقياس يجري فيما تعيه القلوب، وتُدركه العقول، وتُسْتَفتَى فيه الأفهامُ والأذهان، لا الأسماع والآذان، وأما التطبيق، فأمره أبينُ، وكونه معنويًا أجْلَى وأظهر، فهو مقابلة الشيء بضدِه، والتضادّ بين الألفاظ المركَّبة مُحال، وليس لأحكام المقابلة ثَمَّ مَجَال، فخذ إليكَ الآن بيت الفرزدق الذي يُضْرَب به المثل في تَعَسُّفِ اللفظ:
ومَا مِثْلُهُ في الناسِ إلا مُمَلَّكًَا ... أبُو أمِّهِ حيٌّ أبوه يُقاربه
فانظر أتتَصَوَّر أن يكون ذلك للفظهِ من حيث إنّك أنكرتَ شيئًا، من حروفه، أو صادفتَ وحشيًّا غريبًا، أو سُوقيًّا ضعيفًا؟ أم ليس إلاّ لأنه لم يُرَتَّب الألفاظ في الذكر، على مُوجب ترتيب المعاني في الفكر، فكدَّ وكَدَّر، ومنع السامع أن يفهم الغرضَ إلاّ بأنْ يُقدِّم ويؤخّر، ثم أسرفَ في إبطال النِّظام، وإبعاد المرَام، وصار كمن رَمَى بأجزاء تتألّف منها صورةٌ، ولكن
1 / 20
بعد أن يُراجَعَ فيها بابًا من الهندسة، لفرط ما عادَى بين أشكالها، وشدّةِ ما خَالف بين أوضاعها، وإذا وجدت ذلك أمرًا بيِّنًَا لا يُعارضك فيه شكٌّ، ولا يملكك معه امتراءٌ، فانظر إلى الأشعار التي أَثنوا عليها من جهة الألفاظ، ووصفوها بالسلامة، ونسبوها إلى الدَّماثة، وقالوا: كأنَّها الماءُ جَرَيانًا، والهواءُ لُطفًا، والرياضُ حُسْنًا، وكأنها النَّسِيم، وكأنها الرَّحيقُ مِزاجها التَّسْنِيم، وكأنها الديباج الخُسْرُوانيّ في مَرامي الأبصار، ووَشْيُ اليمَن منشورًا على أذْرُع التِّجَار، كقوله:
ولَمَّا قَضَيْنَا مِنْ مِنًى كُلَّ حَاجةٍ ... ومَسَّح بالأركان مَنْ هو ماسحُ
وشُدَّت على دُهْم المهَارَى رِحَالُنا ... ولم يَنْظُر الغادي الَّذِي هو رائحُ
أخذْنا بأطراف الأحاديث بَيْنَنا ... وسَالَتْ بأعناق المطيِّ الأباطحُ
1 / 21
ثم راجعْ فكرتَك، واشْحَذْ بصيرتَك، وأحسِنِ التأمُّل، ودع عنك التجوُّز في الرأي، ثم انظر هل تجدُ لاستحسانهم وحَمْدهم وثَنائهم ومَدحهم مُنْصَرَفًا، إلاّ إلى استعارةٍ وقعت موقعَها، وأصابت غَرَضها، أو حُسن ترتيب تكاملَ معه البيانُ حتى وصلَ المعنى إلى القلب مع وصول اللفظ إلى السمع، واستقرَّ في الفهم مع وقوع العبارة في الأذن، وإلا إلى سلامة الكلام من الحشو غير المفيد، والفضل الذي هو كالزيادة في التحديد، وشيءٍ داخَلَ المعاني المقصودَة مداخلةَ الطفيليّ الذي يستثقل مكانهُ، والأجنبيّ الذي يُكره حُضوره، وسلامتهِ من التقصير الذي يَفْتَقِر معه السامِعُ إلى تَطَلُّب زيادةٍ بقيت في نفس المتكلم، فلم يدلَّ عليها بلفظها الخاصّ بها، واعتمد دليلَ حالِ غير مُفْصِح، أو نيابةَ مذكورِ ليس لتلك النِّيابة بمُسْتَصْلَح، وذلك أن أوّل ما يتلقَّاك من محاسن هذا الشعر أنه قال: " ولمَّا قضينا من مِنًى كلَّ حاجة " فعبّر عن قضاء المناسك بأجمعها والخروج من فُروضِها وسُنَنِها، من طريقٍ أمكنه أن يُقصِّر معه اللفظ، وهو طريقة العموم، ثم نبّه بقوله: " ومسّح بالأركان من هو ماسحُ " على طواف الوداع الذي هو آخر الأمر، ودليل المسيرِ الذي هو مقصوده من الشعر، ثم قال: " أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا " فوصل بذكر مسح الأركان، ما وليه من زَمِّ الركاب وركوب الرُّكبان، ثم دلّ بلفظة الأطراف على الصّفة التي يختصّ بها الرِّفاق في السَّفر،
1 / 22