Sciences of the Holy Quran - Nur al-Din Itr
علوم القرآن الكريم - نور الدين عتر
Penerbit
مطبعة الصباح
Nombor Edisi
الأولى
Tahun Penerbitan
١٤١٤ هـ - ١٩٩٣ م
Lokasi Penerbit
دمشق
Genre-genre
[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، أنزل القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وصلى الله على سيدنا محمد هادي البشرية، ومنقذ بني الإنسان، على مدى السنين والأزمان، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فإن القرآن الكريم هو هداية الله العظمى، وبينته الخالدة، وهو شريعة الله ودينه الذي ارتضاه لعباده، من ابتغى الهدى في غيره فلن يقبل منه، ومن اعتصم به فلن يضل عن صراط ربه، وهو الروح الذي يطير به الإسلام إلى القلوب، والمد الساري في تغذية الأرواح والنفوس، والنظام الكامل الكافل لسعادة الإنسان، في هذه الدنيا، ثم في الآخرة في أعالي الجنان.
فلا عجب أن تكثر الدراسات حوله حتى لا تحصى، وأن تفيض القرائح والأقلام بالمؤلفات من دراسته حتى لا تستقصى، وإن من أهم دراسة تتأكد على دارس القرآن خاصة، والمثقف المسلم عامة هي هذه الدراسة التي نقدم فيها هذا الكتاب، تبين مصدر هذا القرآن الإلهي، ونزوله لهدايتنا، وأصول تفسيره، وما يلزم من علوم ودراسات ضرورية لحسن فهمه، وتبرز إعجازه في فنون بيانه، وعجائب معانيه ومضامينه، تثلج قلب القارئ بحلاوة اليقين
1 / 5
بكتاب الله، وحقية الإيمان برسول الله ﷺ، مؤيدا بالأدلة الساطعة والحجج اليقينية القاطعة، وضمنته إيضاحا لما التبس على بعض الكاتبين، وتصحيحا لما خبط فيه بعض المعاندين، من أجانب مستشرقين، أو أتباع لهم من جلدتنا مقلدين.
وراعيت في ترتيبه ما يتصل بالتفسير، ثم الإعجاز، وفي أسلوبه وضوح العبارات، والاقتصار على المهمات، مما يحتاجه دارسو الشرع الحنيف، وراغبو الثقافة في ضوء القرآن الكريم.
ونود أن ننبه أخيرا إلى أن كل مسلم يحتاج إلى هذه الدراسة، فإن أحسست بشيء في صدرك فارجع إلى هذه الدراسة وتأملها، لتجد راحة القلب بالإيمان، وادع إليها من تحبه ومن تريد قربه إلى كتاب الله، لأنها تزيد اليقين بكتاب الله تعالى، وترسخه.
قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا.
كتبه نور الدين عتر خادم القرآن وعلومه والحديث وعلومه
1 / 6
الفصل الأول التعريف العام بعلوم القرآن
هذا التعبير «علوم القرآن» يدل لغة على أنواع العلوم التي تتصل بالقرآن الكريم.
وهكذا كان يستعمل في عصور المتقدمين، فيراد به علوم تؤخذ من القرآن من علوم الشرع، كالعقيدة، أو الفقه، أو الأخلاق، أو من المعارف العامة حول الإنسان، والكون، والطبيعة، والنبات، والسماء والأفلاك.
كما يراد ب «علوم القرآن» لغة علوم تخدم معاني القرآن مباشرة، وتوصل إليها، أو تدور حوله، أو تستمدّ منه، فيدخل تحت هذا التعبير بهذا الاستعمال اللغوي الثاني علوم كثيرة ضخمة، مثل: علم التفسير، وعلم القراءات، وعلم الرسم العثماني، وعلم إعجاز القرآن، وعلم إعراب القرآن، وسائر علوم الدين واللغة والبلاغة، وغير ذلك، من علوم، درس العلماء في تآليفهم فيها القرآن كله في ضوء كل علم دراسة تفصيلية.
ثم جعل العلماء هذه العبارة: «علوم القرآن» اسم علم، يراد به معنى خاص يدل على علم خاص غير ما سبق كله، لأن هذا المعنى الجديد يختص بأنه علم واحد يجمع ضوابط تلك العلوم المتصلة بالقرآن من ناحية كلية عامة، أما علوم القرآن بالمعنى اللغوي فإن كل علم منها يدرس القرآن كله من زاوية اختصاصه آية آية دراسة تفصيلية.
1 / 7
وبناء على ذلك يمكن أن نعرف «علوم القرآن» باعتباره اسما لعلم واحد فنقول:
«علوم القرآن في الاصطلاح:
هو المباحث الكلية التي تتعلق بالقرآن الكريم من ناحية نزوله، وترتيبه وجمعه، وكتابته، وتفسيره، وإعجازه وناسخه ومنسوخه، وغير ذلك» (١).
التصنيف في علوم القرآن:
وبالنظر لأهمية هذا العلم كثرت الدراسات فيه في القديم والحديث، فكتب كثير من المفسرين في مقدمات تفاسيرهم بحوثا هامة في علوم القرآن، عنوا فيها بما يتعلق بأصول تفسيره وإعجازه، على مثال مقدمة الطبري، لتفسيره «جامع البيان»، والقرطبي لتفسيره «الجامع لأحكام القرآن».
وصنف العلماء مؤلفات مستقلة تشمل كل علوم القرآن، مثل هذه الكتب الهامة:
١ - «فنون الأفنان في عيون علوم القرآن»، للإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي المتوفى سنة ٥٩٧.
٢ - «البرهان في علوم القرآن»، للإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي المتوفى سنة ٧٩٤.
٣ - «الإتقان في علوم القرآن»، للإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي المتوفى سنة ٩١١. وقد بناه على كتاب البرهان، وأضاف إليه فوائد وبحوثا.
وفي هذا العصر اقتصر الباحثون في هذا العلم على أهم ما يحتاج إليه الدارس في هذا العصر، اعتمادا على تكملة بحوث أخرى من علوم شرعية
_________
(١) ومن هنا ندرك الخطأ الواضح الذي وقع فيه من عرّف علوم القرآن فقال: «هي جميع المعلومات والبحوث التي تتعلق بالقرآن ...».
فقد خلط بين المعنى اللغوي وهو يدل على علوم كثيرة، والمعنى الاصطلاحي وهو علم واحد، ألا ترى إلى قوله «هي». وهكذا استمر الخطأ ...
1 / 8
ولغوية أو اعتقادية مقررة في مناهج معاهد العلوم والدراسات الإسلامية.
ومن أهم المؤلفات المعاصرة ما يلي:
١ - «مناهل العرفان في علوم القرآن»، للعلّامة الكبير محمد عبد العظيم الزرقاني. وهو كتاب حافل واسع المحتوى، عذب الأسلوب يقع في مجلدين.
٢ - «المدخل إلى دراسة القرآن الكريم»، لفضيلة أستاذنا الدكتور العلّامة الشيخ محمد محمد أبو شبهة.
٣ - «البيان في علوم القرآن»، لفضيلة أستاذنا الدكتور العلّامة الشيخ عبد الوهاب غزلان.
٤ - «مباحث في علوم القرآن»، للأستاذ الدكتور صبحي الصالح.
٥ - «من روائع القرآن»، للأستاذ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي.
وقد قسم بعضهم كتابه أبوابا. منها: «باب تاريخ علوم القرآن» و«باب علوم القرآن».
ونرى في هذا التقسيم خللا وضعفا، لأن العنوان الثاني: «علوم القرآن» يوهم أن الأبحاث الأخرى ليست من علوم القرآن، وهي قطعا من علوم القرآن، فكيف تستبعد عن هذا العنوان ولا تدرج تحته.
ونود التنبيه إلى أن التصنيف في علوم القرآن بالمعنى الأول مستمر أيضا لم ينقطع، وذلك تلبية لحاجة العصر من كشف دسائس وفضح أباطيل، أو تفصيل مسائل واستيفائها بالبحث، أو لإظهار مزيد من أوجه الإعجاز الذي أفاده تقدم العلوم، الأمر الذي يزيد اليقين بأن هذا القرآن كتاب الله المعجز على الدوام.
تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى. تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى.
1 / 9
الفصل الثاني القرآن والوحي وتنزلاته
القرآن
هذا الإسم «قرآن» في اللغة:
على أصح الآراء مصدر على وزن غفران، بمعنى القراءة، ومنه قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ.
وأما تعريف القرآن اصطلاحا:
فقد تعددت تعاريف العلماء للقرآن، بسبب تعدد الزوايا التي ينظر العلماء منها إلى القرآن- وإن كان التعبير بأنه الكلام المعجز كافيا- ونحن نختار هنا التعريف المناسب لغرض دراستنا، أعني التمهيد بمعارف عامة وهامة موجزة عن القرآن الكريم فنقول:
«القرآن هو كلام الله المنزل على النبي محمد ﷺ المكتوب في المصاحف، المنقول بالتواتر، المتعبد بتلاوته، المعجز ولو بسورة منه».
وقد اشتمل هذا التعريف على الصفات التالية للقرآن، وتعتبر في اصطلاح أهل التعاريف قيودا تشمل المعرّف وتميزه عما عداه وهي:
آ) كلام الله المنزل على النبي ﷺ:
وتتضمن هذه الجملة أمورا نذكر منها:
١ - إبعاد كل كلام لغير الله تعالى- مهما كان عظيما- عن أن يسمّى قرآنا، وسواء في ذلك حديث النبي ﷺ أو غيره من الإنس والجن والملائكة، فكل ذلك لا يسمى قرآنا.
1 / 10
٢ - قوله: «على محمد»: احتراز عما أنزل على الأنبياء السابقين، كالتوراة والإنجيل، والزبور وغيرها، فلا يسمى شيء منها قرآنا.
ب) المكتوب في المصاحف:
وهذه مزية للقرآن أنه دوّن وحفظ بالكتابة منذ عهد النبي ﷺ وبإشرافه واعتنائه الزائد.
ثم لما قام الصحابة بجمع القرآن في المصحف وكتبت المصاحف في عهد عثمان، أجمع الصحابة على تجريد المصحف من كل ما ليس قرآنا، وقالوا: جرّدوا المصاحف، فمن ادعى قرآنية شيء ليس في المصاحف فدعواه باطلة كاذبة، وهو من المفترين على الله وعلى رسوله.
ج) المنقول بالتواتر:
أي أن القرآن قد نقله جمع عظيم غفير لا يمكن تواطؤهم على الكذب ولا وقوع الخطأ منهم صدفة، هذا الجمع الضخم ينقل القرآن عن جمع مثله وهكذا إلى النبي صلّى الله
عليه وسلم، وذلك يفيد العلم اليقيني القاطع بأن هذا القرآن هو كلام الله تعالى المنزل على نبيه ﷺ.
وهذه خصوصية ليست لغير القرآن من كتب السماء. فإن الكتب السابقة لم يتح لها الحفظ في السطور ولا في الصدور، فضلا عن أن تنقل بالحفظ نقلا متواترا جيلا عن جيل.
أما القرآن فقد جعل الله فيه قابلية عجيبة للحفظ، كما قال تعالى:
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
بل إن هذه الخصوصية، خصوصية حفظ القرآن في الصدور بلغت مبلغا عجيبا، فهذه أمم العجم، تحفظ القرآن عن ظهر قلب حفظا متينا لا يتطرق إليه خلل ولا بكلمة واحدة، ولا تفريط في حكم تجويد، وتجد أحدهم مع حفظه هذا لا يدري من العربية شيئا.
د) المتعبد بتلاوته:
أي أن مجرد تلاوة القرآن عبادة يثاب عليها المؤمن، ولو لم يكن
1 / 11
استحضر نية تحصيل الثواب بالتلاوة، كما أن الصلاة لا تصح إلا بتلاوة شيء منه، وقد وردت نصوص كثيرة غزيرة في الحض على تلاوة القرآن وبيان فضلها وعظمة ثوابها، وألّف العلماء في ذلك كتبا كثيرة نافعة (١). وهذا القيد يخرج من اعتبار القرآن القراءات الشاذة، لأنا غير متعبدين بها، وكذا الأحاديث القدسية.
هـ) المعجز ولو بسورة منه:
الإعجاز أعظم خصائص القرآن، حتى لو عرّف القرآن بهذه الصفة:
«الكلام المعجز» لكفى ذلك لتمييزه والتعريف به.
والقرآن معجز بجملته، كما أنه معجز بأي سورة منه، ولو كانت هي أقصر سورة من سوره.
قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٢).
وقال تباركت أسماؤه: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٣).
وهذا الإعجاز برهان قاطع على أن القرآن كلام الله تعالى، وأنه الحق الذي يجب الإيمان به واتباعه، والحذر من مخالفته وعصيانه.
أسماء القرآن:
عرفنا أن لفظة القرآن هي أشهر أسماء القرآن الكريم، بل هي الاسم العلم الدال على هذا الكتاب العزيز، وللقرآن الكريم أسماء أخرى كثيرة يشير كل منها إلى جانب من خصائص القرآن أو فضائله، أو أهدافه، وقد عني العلماء بإحصائها واستقصائها وشرحها.
_________
(١) نذكر للقارئ منها كتاب «تلاوة القرآن المجيد» لفضيلة أستاذنا العلّامة الشيخ عبد الله سراج الدين.
(٢) سورة الإسراء، الآية ٨٨. ظهيرا: ناصرا ومؤيدا.
(٣) سورة البقرة، الآيتان ٢٣ - ٢٤.
1 / 12
ومن أشهر أسماء القرآن الكريم:
«الكتاب»:
وهذه المادة مأخوذة في أصلها من الكتب، أي الجمع، ومنه الكتيبة للجيش لاجتماعها، ثم أطلقت على الكتابة، لجمعها الحروف (١)، وسمّي القرآن بذلك لأنه يجمع أنواعا من القصص والآيات والأحكام والأخبار على أوجه مخصوصة، كما ذكروا.
إلا أنا نرى حقا ما قرره المحقق الدكتور محمد عبد الله دراز (٢) أن في تسمية القرآن بهذين الاسمين: القرآن والكتاب: «إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد، أعني أنه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعا، فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المجمع عليه من الأصحاب، المنقول إلينا جيلا بعد جيل، على هيئته التي وضع عليها أول مرة، ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفّاظ بالإسناد الصحيح المتواتر.
وبهذه العناية المزدوجة التي بعثها الله في نفوس الأمة المحمدية اقتداء بنبيّها بقي القرآن محفوظا في حرز حريز، إنجازا لوعد الله الذي تكفل بحفظه حيث يقول: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٣)، ولم يصبه ما أصاب الكتب الماضية من التحريف والتبديل وانقطاع السند، فإن الله لم يتكفل بحفظها، بل وكلها إلى حفظ الناس فقال تعالى: وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ (٤)، أي بما طلب إليهم حفظه.
والسر في هذه التفرقة أن سائر الكتب السماوية جيء بها على التوقيت لا التأبيد وأن هذا القرآن جيء به مصدقا لما بين يديه من الكتب ومهيمنا عليها، فكان جامعا لما فيها من الحقائق الثابتة، زائدا عليها بما شاء الله زيادته، وكان
_________
(١) كما اتفقت عليه المعاجم، فلا معنى للالتفات لما كتبه بعض المستشرقين من إرجاع هذه الكلمة أو غيرها إلى أصل غير عربي من الآرامية أو غيرها، فذلك زعم لا أرومة له.
(٢) في النبأ العظيم ص ٧ - ٩.
(٣) سورة الحجر، الآية ٩.
(٤) سورة المائدة، الآية ٤٤.
1 / 13
سادّا مسدّها ولم يكن شيء منها ليسدّ مسدّه، فقضى الله أن يبقى حجة إلى قيام الساعة، وإذا قضى الله أمرا يسر له أسبابه، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ.
ومن أسماء القرآن «النور»:
قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (١).
ومناسبة هذه التسمية أن القرآن يكشف الحقائق ويجلوها ببيانه الناصع، وبرهانه الساطع، ويجعلنا ندرك غوامض الحلال والحرام، وما لا يستقل العقل بالتوصل إليه من علوم العقيدة والشريعة وغيرها.
«الفرقان»:
قال تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا (٢).
ووجه هذه التسمية: أنه فرّق بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، والحلال والحرام، والخير والشر، وذلك لغاية كماله في الهداية والبيان.
الوحي
معنى الوحي لغة:
قال الإمام ابن فارس (٣): «الواو والحاء والحرف المعتل: أصل يدل على إلقاء علم في إخفاء إلى غيرك، فالوحي الإشارة، والوحي: الكتاب والرسالة، وكل ما ألقيته إلى غيرك حتى علمه فهو وحي كيف كان».
ويختص معنى الوحي لغة إضافة إلى ما قاله ابن فارس بتضمنه معنى السرعة، فالإشارة السريعة هي التي يقال لها: وحي.
وورد الوحي في القرآن بمعنى الإلهام، كما في قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ (٤).
_________
(١) سورة النساء، الآية ١٧٤.
(٢) أول سورة الفرقان.
(٣) معجم مقاييس اللغة.
(٤) سورة القصص، الآية ٧.
1 / 14
كما ورد بمعنى الوسوسة: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ (١).
أما في الاصطلاح الشرعي:
فالوحي هو إعلام الله تعالى لمن اصطفاه من عباده بطريق خفية سريعة.
مراتب الوحي:
وإذا ابتغينا التفصيل لهذا الإجمال عن الوحي، وتساءلنا عن كيفياته وأحواله وآثاره فإن خير مرجع يحقق لنا تلك الأمنية هو صاحب الوحي نفسه، في نصوص القرآن الصريحة والأحاديث الصحيحة.
كما جاء في الحديث الصحيح: «أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبّب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنّث فيه- وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لمثلها».
«حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال:
اقرأ، قلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثالثة فقال:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. فرجع بها رسول الله ﷺ يرجف فؤاده.
فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زمّلوني زمّلوني، فزمّلوه حتى ذهب عنه الرّوع. فقال لخديجة- وأخبرها الخبر-: لقد خشيت على نفسي. فقالت له: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى، ابن عم خديجة، وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب في
_________
(١) سورة الأنعام، الآية ١٢١.
1 / 15
الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي. فقالت له خديجة: يا ابن عمّ، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله ﷺ خبر ما رأى.
فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله ﷺ: «أو مخرجيّ هم؟!» قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزّرا.
ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي».
قال ابن شهاب: وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: وهو يحدث عن فترة الوحي: فقال في حديثه: «بينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاء في حراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه فرجعت، فقلت:
زمّلوني زمّلوني، فأنزل الله ﷿: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ إلى قوله: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ. فحمي الوحي وتواتر» (١).
كيفيات الوحي:
وليست مراتب الوحي مقتصرة على هذين الحالين اللذين عرفناهما من الحديث،: الرؤيا والأخذ من الملك، بل إن له مراتب وكيفيات عدة ذكر القرآن الكريم أصولها في قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٢).
وقد دلّت هذه الآية الجامعة على كيفيات الوحي وأنها ثلاث لا رابع لها، وسماها العلماء مراتب الوحي، وهي:
_________
(١) أخرجه البخاري في أول صحيحه وغيره. غطّني: ضمني وعصرني بقوة. زمّلوني:
لففوني بالثياب. الرّوع: الفزع. الناموس: صاحب السّرّ. جذع: شاب. لم ينشب: لم يلبث.
(٢) سورة الشورى: الآية ٥١.
1 / 16
١ - أن يلقي الله ما يريد إلقاءه إلى النبي مباشرة بطريق خفي سريع دون واسطة.
٢ - أن يكلم الله النبي، من وراء حجاب تكليما.
٣ - أن يرسل الله الملك إلى النبي فيلقي إليه ما أمره الله تعالى به.
وقد بحث العلماء في هذه المراتب- ومرادهم كيفيات الوحي- واستقصوا أحوالها فيما ورد من وصف الوحي من الكتاب والسنّة، وأوصلوها إلى سبع مراتب ينقسم إليه الوحي ويقع بها، ومنهم من جعلها ثماني مراتب (١)، وترجع كلها إلى المراتب الأساسية التي ذكرتها الآية، وتندرج في ضمنها ولا تتجاوز حدها، كما يتضح من هذا البيان الذي يشرحها:
المرتبة الأولى:
الرؤيا الصادقة، وذلك كما ورد في حديث عائشة:
«أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم»، والوحي في هذه المرتبة إما أن يكون بإلقاء الله أو بواسطة الملك فهو داخل في الآية لا يخرج عنها.
المرتبة الثانية:
أن يأتيه الملك فيلقي في روعه وقلبه من غير أن يراه، كما أخرج الشهاب والحاكم عن ابن مسعود أنه ﷺ قال: «إن روح القدس نفث في روعي: أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ...» (٢).
المرتبة الثالثة:
أن يتمثّل له الملك رجلا فيخاطبه فيعي عنه ما يقول:
كما في الحديث المشهور من سؤال جبريل النبي ﷺ عن
_________
(١) انظر في ذلك الروض الأنف للسهيلي ج ١ ص ١٥٣ - ١٥٤، وزاد المعاد لابن القيم ج ١ ص ٧٧ - ٨٠ (ط. الرسالة)، والإتقان للسيوطي ج ١ ص ٤٤، والمواهب اللدنية للقسطلاني، وشرحه للزرقاني ج ١ ص ٥٥، وغيرها.
(٢) مسند الشهاب بلفظه ج ٢ ص ١٨٥ والمستدرك بنحوه ج ٢ ص ٤ وله شواهد كثيرة تقويه.
1 / 17
الإسلام والإيمان والإحسان والساعة. وهو متفق عليه.
المرتبة الرابعة:
أن يأتيه الملك على حاله الملكية ويوحي إليه، وفي هذه المرتبة يأتيه الوحي مثل صلصلة الجرس، وكان ذلك أشد الوحي عليه ﷺ.
المرتبة الخامسة:
أن يأتيه الملك جبريل ويظهر له في صورته الملكية العظيمة التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه. وهذا وقع له ﷺ مرتين: إحداهما في الأرض، والثانية: في السماء ليلة المعراج عند سدرة المنتهى، كما قال تعالى في سورة النجم (١): وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى. ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى.
وهذه المراتب الأربعة التي بعد الأولى كلها صور لمرتبة واحدة لا تخرج عنها، ذكرها القرآن في قوله تعالى: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ.
المرتبة السادسة:
كلام الله تعالى للنبي من وراء حجاب، كما وقع للنبي ﷺ ليلة المعراج بعد أن استقرت فريضة الصلوات على الخمس فنودي: أحكمت فريضتي وخففت على عبادي، وكما وقع لموسى ﵇: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيمًا.
المرتبة السابعة:
كلام الله تعالى للنبي وحيا بلا واسطة ملك ولا حجاب: كما أوحاه إلى النبي ﷺ ليلة المعراج وهو فوق السموات من فرض الصلوات ومضاعفة الحسنات الحسنة بعشر أمثالها، وغير ذلك، وهي مرتبة داخلة في قوله: أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أي إعلاما خفيا.
لكن بعضهم استشكل ما وردت به الأحاديث في هذه المرتبة وقال به أكثر
_________
(١) الآيات: ١٣ - ١٨.
1 / 18
العلماء أنه ﷺ رأى ربه ﷿ ليلة المعراج كيف يتفق مع قوله: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ وليس هاهنا حجاب؟
إلا أن هذا الإشكال في الحقيقة غير وارد هنا إذا ما علمنا أن الوحي الإلهي في هذه المرتبة لا يشبه خطاب الخلق، بل هو داخل في قوله إلا وحيا، لأن الوحي إعلام في خفاء، وقد أبان الإمام المفسر البيضاوي عن ذلك في تفسيره لهذه الآية وهو يفسر إِلَّا وَحْيًا: «كلاما خفيا يدرك بسرعة، لأنه تمثيل، ليس في ذاته مركبا من حروف مقطعة يتوقف على تموجات متعاقبة»، فأزاح بذلك شبهة خروج هذه المرتبة عن حد الآية الكريمة.
مظاهر الوحي:
والوحي في أي مرتبة من مراتبه أمر عظيم يقتضي من الإنسان أن يتجاوز حدود المادة وعالم الشهادة ليتصل بالملائكة وعالم الغيب، وذلك يقتضي من صاحبه استعدادا يهيئه الله تعالى في أولئك الأخيار الذين اصطفاهم من خلقه لهذه المنزلة، وكثيرا ما كان يحدث للنبي ﷺ مشقة شديدة في التلقي من الملك. قالت عائشة ﵂: إن الحارث بن هشام سأل رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله ﷺ: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول». قالت عائشة ﵂: «ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا» (١).
ومن آثار الوحي ومظاهره على النبي ﷺ ما وردت به هذه الأحاديث:
١ - ما ذكر في حديث السيدة عائشة الذي رويناه سابقا.
_________
(١) متفق عليه: البخاري في مطلع صحيحه ص ٢ - ٣ ومسلم في الفضائل (باب عرق النبي ﷺ ...) ج ٧ ص ٨٢.
1 / 19
وأخرج البخاري أول صحيحه وغيره عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ﵄ في قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، قال: كان رسول الله ﷺ يعالج من التنزيل شدة وكان ممّا يحرك شفتيه، فقال ابن عباس فأنا أحركهما لك كما كان رسول الله ﷺ يحركهما، وقال سعيد أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه، فأنزل الله ﷿: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، قال جمعه لك صدرك وتقرأه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، قال فاستمع له وأنصت ثم إن علينا بيانه، ثم إن علينا أن تقرأه. فكان رسول الله ﷺ بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي ﷺ كما كان قرأ».
٢ - أنه ﷺ كان إذا نزل عليه الوحي سمع عند وجهه دويّ كدويّ النحل: عن عبد الرحمن بن عبد القارّيّ قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: كان إذا نزل على رسول الله ﷺ الوحي يسمع عند وجهه دوي كدوي النحل، فمكثنا ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه فقال:
«اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنّا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا وأرضنا، ثم قال: لقد أنزلت عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة»، ثم قرأ علينا: «قد أفلح المؤمنون ... حتى ختم العشر» (١)، أخرجه أحمد والترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
٣ - أنه ﷺ كان إذا نزل عليه الوحي ثقل جسمه حتى يكاد يرضّ فخذه فخذ الجالس إلى جنبه.
_________
(١) وهي: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ. أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
وانظر الحديث في المسند رقم ٢٢٣ والترمذي ج ٢ ص ٣١٦ - ٣١٧ والمستدرك ج ١ ص ٥٣٥.
1 / 20
عن زيد بن ثابت أن رسول الله ﷺ أملى عليه:
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فجاءه ابن أمّ مكتوم وهو يملّها عليّ قال: يا رسول الله، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت.- وكان أعمى- فأنزل الله على رسوله ﷺ وفخذه على فخذي، فثقلت عليّ حتى خفت أن ترضّ فخذي ثم سرّي عنه فأنزل الله: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، أخرجه البخاري بلفظه وأحمد وأبو داود وغيرهم (١).
٤ - أنه ﷺ إذا نزل عليه الوحي بركت به راحلته.
عن عائشة ﵂ قالت: «إن كان يوحى إلى رسول الله ﷺ وهو على راحلته فتضرب بجرانها» أخرجه أحمد.
وعن عروة بن الزبير: أن النبي ﷺ كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها فما تستطيع أن تحرّك حتى يسرّى عنه. أخرجه ابن جرير، وهو مرسل، والجران باطن عنق الناقة.
وقد حضّ النبي ﷺ المسلم على أن يجعل ليوم الوحي اهتماما وتوجها خاصا إلى الله، بمجاهدة النفس والتصفية لها بصيام مستحب، تكميلا ومتابعة لمجاهدتها بالصيام المفروض في شهر رمضان حتى تصفو النفوس من أكدارها وتخلص القلوب وجهتها نحو بارئها سبحانه، وتقبل عليه بقوة وعزم، وعلى العالم بالمكارم والإصلاح ودعوة الخير الذي نزل به الوحي في ذلك اليوم، أخرج مسلم (٢) عن أبي قتادة الأنصاري ﵁ أن رسول الله ﷺ سئل عن صوم الاثنين فقال: «فيه ولدت، وفيه أنزل عليّ» (٣).
_________
(١) البخاري: ج ٦: ٤٧ وأبو داود ج ٣: ١١ والمسند ج ٥: ١٨٤.
(٢) في صحيحه كتاب الصيام ج ٣ ص ١٦٨.
(٣) وبهذه الدراسة يتبين لنا بجلاء الفرق بين الوحي والإلهام أو الكشف، وذلك من وجوه كثيرة نذكر منها:
١ - إن الوحي أخذ وتلقّ من ذات خارجية علوية آمرة قاهرة، تتلقاه شخصية النبي مذعنة ضعيفة مأمورة. أما الإلهام والكشف فيدخل فيهما عنصر الحدس
1 / 21
الرد على منكري الوحي
وقد أثار أعداء الأنبياء والكافرون ببعثة الرسل الشبهات حول ثبوت الوحي من الله تعالى لهؤلاء الخيرة المصطفين من عباده، وتعللوا في إنكارهم بتعللات مختلفة، بدأها أوائلهم في العصور السالفة الغابرة وجددها أواخرهم في العصور الخالفة الحاضرة.
ويتخلص أهم ما قالوه في دعويين سبق إليهما الكفرة المشركون من قبل، حين زعموا أن النبي ﷺ مجنون، أو أنه مصاب بمرض عصبي، وزعموا أنه يأتيه رئيّ من الجن يلقي إليه هذا القرآن، ولما كان منكروا النبوة في هذا العصر ينكرون الجن فقد صاغوا شبهتهم باسم «الوحي النفسي».
ولا شك أن دعوى المرض العصبي كذب واضح يدل على الجهل الفاضح بشخص محمد ﷺ وبالقرآن الكريم، بل يدين قائله بأنه بلغ به العناد والتجني على الحقيقة مبلغا فقد به توازنه العقلي، فالتاريخ يشهد بأدلته القاطعة للنبي ﷺ أنه كان أعظم الناس خلقا، وأوسعهم أفقا، وأشجعهم قلبا، وأسخاهم يدا، لا تصمد أمامه معضلة، ولا يتعقد أمامه موقف إلا واجهه بأحسن الحلول وأعلاها وأفضلها، وأنه كان أفصح الناس لسانا وأعذبهم بيانا، مما يشهد بأنه ﷺ أكمل العالم عقلا وتفكيرا وأنه أمة وحده في علوّ أخلاقه وثباته وحلمه، وكمال عقله ورباطة
_________
والتخمين وعمل الذهن غير الشعوري.
٢ - إن الوحي يوقع في القلب علما يقينيا اضطراريا لا يقبل التغيير ولا التبديل، أما الكشف أو الإلهام فهو أمر يقع في النفس فتعرفه معرفة دون اليقين، وقد تتحمس له كاليقين، لكن كثيرا ما يظهر الخطأ فيه.
٣ - إنه يجب الأخذ بالوحي قطعا، لكن لا يجوز الأخذ بالإلهام أو الكشف وإن تكرر صدقه إلا بعد عرضه على دلائل الشرع، لأن الوحي معصوم، أما الإلهام وكذا الكشف ونحو ذلك فليس شيء منها بمعصوم، فلا بد من مراجعة ذلك.
1 / 22
جأشه، ولهذا ردّ القرآن على هؤلاء بأنهم هم الذين فقدوا رشدهم: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ.
وأما دعوى (الوحي النفسي) فقد وجدت لدى المنكرين ومثيري الشبهات مرتعا خصيبا ولا سيما اليهود من المستشرقين (١) لما فيها من التلبيس الخبيث والمكر في الدس والافتراء الذي يضفي على هذه الفرية مسحة كاذبة من دعوى البحث العلمي العصري.
وإن الثابت المقرر من مظاهر الوحي وآثاره ليثبت بطلان هذه الدعوى وكذبها، من وجوه كثيرة جدا، نذكر منها:
١ - إعجاز القرآن، فإن نفس محمد ﷺ مهما صفت فإنها ستظل كسائر المتعبدين والعباقرة يأتون بالشيء العظيم لكن لا يعجز أمثالهم أن يلحقوا بهم أو يسبقوهم ويتفوقوا عليهم، وهذا القرآن الذي أوحي به إلى محمد بن عبد الله ﷺ معجز تحدى الجن والإنس، والأولين والآخرين، فأنّى يمكن أن يكون هذا الكتاب إلا من عند الله.
٢ - إن حادث الوحي يثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه آت من ذات مستقلة خارجة عن ذات النبي ﷺ، وذلك واضح في حديث بدء الوحي في غار حراء، حيث إن الملك جاء إلى النبي ﷺ فجأة كما في الحديث الصحيح المتفق عليه: «فجاءه الملك فقال اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ ...
فهذا الحادث يوضح أن هناك ذاتا خارجة عن ذات محمد وشخصه تملي عليه وتأخذه وتغطّه أي تضمّه وتعصره عصرا شديدا، وتقول له: اقرأ، فهي ذات متكلمة، وهي ذات آمرة ومؤثرة في بدنه بالضغط الشديد عليه، حتى يقول النبي ﷺ: «لقد خشيت على نفسي». وذلك يثبت بطلان زعم الوحي النفسي ويفنّده تفنيدا.
_________
(١) مثل جولد زيهر.
1 / 23
٣ - إن الوحي كان ينزل على النبي ﷺ غير مرتبط بإرادته أو رغبته، ولا بتفكيره أو بحثه لدى وقوع المهمات، فربما كان في بيته يأخذ شيئا من الراحة فينهض والبشر على محياه وقد نزلت سورة، كما ثبت الخبر في نزول سورة الكوثر كما أخرج ذلك مسلم في صحيحه، ومن القرآن ما تنزل في هزيع أخير من الليل، كآية التوبة على الثلاثة الذين خلّفوا، وآية وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وكان النبي ﷺ في خيمته والحرس حوله، فأخرج رسول الله ﷺ رأسه من الخيمة فقال: «يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله تعالى» (١) ولهذا كثرت أقسام القرآن بحسب أوقات نزوله، فمنه السفري والحضري، ومنه الليلي والنهاري، ومنه ما نزل مشيّعا، ومنه ... ومنه، مما فصله علماؤنا في مصادر علوم القرآن.
٤ - «إن عبقرية الإنسان تحمل بالضرورة طابع الأرض حيث يخضع كل شيء لقانون الزمان والمكان، ويتقيد بحدودهما وآفاقهما، بينما يتخطى القرآن دائما نطاق هذه الحدود، ليدلّ من خلال رحابة موضوعاته إلى أن دور محمد- ﷺ فيه إنما هو الحفظ والوعي، أو الأخذ والتلقي، ثم الإبلاغ للعالم.
بل إن جميع معارف الإنسان في عصر نزول القرآن- لا معارف النبي ومعارف بيئته- ومعارف عصور لا حقة لا تمثل شيئا من شمول المعارف القرآنية وتنوعها وعمقها، فضلا عما في معارف القرآن من تصحيح تلك المعارف وتقويم عوجها من جذورها، حتى ما كان منها متعلقا بما هو سابق لعصر نزول القرآن، فليت شعري إن لم يكن هذا وحيا ممن يعلم السر في السموات والأرض فأي شيء يكون» (٢).
_________
(١) البرهان ج ١ ص ١٩٨.
(٢) باختصار وتصرف عن كتاب «الظاهرة القرآنية» تأليف مالك بن نبي ﵀، وليرجع إلى هذا الكتاب ففيه فوائد هامة. وانظر ما يأتي في الإعجاز العلمي وفي بحث «الكون في القرآن».
1 / 24