في الدقائق الباقية سآتي على ذكر بعض هذه التوافه التي هي في نظري هي هي الهامة.
حين ينتسب مواطن إلى جيش دولته، يعلمونه أولا كيف يجب أن يربط شريطة «صباطه»، وكيف يجب أن يلقي التحية، ويدققون في أهمية تنظيف حذائه؛ ذلك لأن الخبير العسكري يعرف أن هنالك علاقة مباشرة بين ربح المعركة، بل وربح الحرب، وبين معرفة ربط شريطة «الصباط».
أما عندنا فبعض ملوك الكلام، وبطاركة الأفكار، وفرسان المحاضرات، يقتحمون المعارك، ويربحون الحروب من غير جنود، أو بجنود لا يحسنون ربط شريطة «الصباط».
هذه الملاحظات ما هي بتخطيط عام، بل الغاية من ذكرها هو إثارة التفكير لإعادة النظر بكثير من عاداتنا، والتأمل في كيف أن هذه التقاليد التي مشينا عليها تؤذينا، وكيف أنه لا بد عند التعبئة العامة من التشديد على تمحيص ما لا نأبه له عادة، أو ما افترضنا أنه صحيح بسبب أننا درجنا على ممارسته.
هو ذا بعض هذه الملاحظات: (1)
فلان بيته مفتوح: بيته مفتوح؟ ما معنى هذه العبارة؟ أفندم! نعم، بيته مفتوح؛ يعني أن صاحب البيت يستقبلك في بيته. ما أهمية هذا؟ يعني أنه يقدم لك قهوة وحبة شوكولاته، ويلح عليك بالدعوة للطعام. ما أهمية كل هذا؟ لماذا هي فضيلة أن يكون بيته مفتوحا؟ أنا أفضل أن يبقى بيتي مقفلا. من له شغل معي فليتفضل إلى مكتبي، وإن شرف البيت فلتكن إقامته قصيرة، ولا ينتظر فنجان قهوة إلا إذا جاء بدعوة. الحياة ثمينة، وأغلى من أن تهدر بأشياء لا معنى لها، وقيم الحياة هي أثمن من أن تخمن بهذا الذي لا معنى له، ويذاع على أنه فضيلة؛ فضيلة البيت المفتوح. (2)
الإشاعة: كم جندلت الأقوال الكاذبة من ضحايا! وكم رفعت شأن رجل لا يستحق أن نتطلع إليه حتى بمنظار! يسود بيننا اعتقادات خاطئة تحرمنا من احترام من يستحقون الاحترام، وتحفزنا إلى الابتعاد عن مبادئ من أقل واجباتنا أن نفحصها قبل أن نعتنقها أو نرفضها. كم مرة نسمع «فلان آدمي؟!» «شو آدميته؟ ما حدا بيعرف.» فلان زلمة الإنكليز. ما هو البرهان؟ «هيك! كيف هيك؟ هيك!» إني أتكلم عن اختبار شخصي حين آتي على ذكر شارل مالك. لقد ساد الاعتقاد فيما مضى أن هذا الرجل هو عميل أميركي «ليش؟ هيك!» هل فحص أحد متهميه مواقفه وأقواله فانتهى إلى ما يثبت هذا الاتهام؟ لا، شارل مالك ضد العروبة، هو صنيعة الأميركان. لو أنه أضعف شخصية، أو لو أن له مكانة محلية بدلا من منزلة عالمية لكانت الإشاعات قتلته. ولما كنا اليوم ننتفع به كناطق مؤتمن باسم الدول العربية. وعلى الصعيد الإيجابي، نجد أننا نسمع بفلان مثلا أنه محسن كبير وأبو الفقير. أي إحسان؟ أين المستشفى الذي شاده؟ أو التلامذة الذين علمهم على حسابه؟ لا أحد يعرفهم، إنما يعرفون أن فلانا أبو الفقير ومحسن كبير. (3)
نحن والأجانب: بيننا طبقة حقيرة النفوس يتملقون الأجانب بذم مواطنيهم. لا أعرف بلدا في الدنيا يجرئ الأجنبي أن يتنقص علنا من ساكنيه مثلما يفعل الأجانب عندنا في لبنان. إنني بعد اختبار ست سنوات في هذه الجمهورية، أجد - عن معرفة - أن اللصوصية موجودة بيننا وبين القليلين من مواطنينا، ولكن اللصوص الضخام وأسياد الصفقات الكبرى من الناهبين والسالبين هم أجانب لا وطنيون. مع كل هذا، نسمح للأجانب أن يتنقصوا منا علنا. وقليلون بيننا من لهم الكرامة الوطنية والجرأة أن يوقفوا الأغراب عند حدهم، بل نحن نجد أننا في كل جلسة نجتمع بها إلى الأجانب تسابقا إلى التزلف لهم بالقدح من بلادنا ومواطنينا. وهذا ما يشجع الأجانب على احتقارنا، والإمعان بسلب حقوقنا. هذه الخيانة التي يقترفها أكثرنا من امتهان بني قومهم كلفتنا وتكلفنا الكثير من المال ومن الكرامة. (4)
الأديب: في معتقدنا السائد شيء خاطئ، إعجاب لا مبرر له بالأديب من كاتب أو شاعر. نتوهم أن الأديب مؤهل لأن يصبح وزيرا أو مدير كمارك، أو أي شيء. الحقيقة أن الأديب في أكثر الأحيان هو رجل يحسن الكتابة، كما أن الحلاق هو رجل يحسن الحلاقة. وهذه الهالة من الإعجاب والتكبير التي انتشرت حول الأديب كأديب يجب أن تمحى كي تستقيم موازيننا. (5)
الكلمة المطبوعة: كذلك في نفوسنا عبودية للكلمة المطبوعة وللكتاب. إن الذي يعرف كيف تحرر الصحف والمجلات، وكيف تؤلف أكثر الكتب يزول من نفسه التقديس للكلمة المطبوعة. وهذه الحقيقة تنطبق بشكل أصدق على ما يظهر في بلادنا من كتب وصحف ومجلات. (6)
Halaman tidak diketahui