بعد عشرة أيام من إقامة عمارة بالقاهرة، أرسلت سيدة القصور إلى عبدها «راجحا» ليدعوه إليها، فركب حصانا أشهب أهداه إليه الوزير طلائع، وصحبه راجح على جواد عربي كريم، فسارا من حارة برجوان، وكانت طويلة كثيرة التعاريج، والمنحنيات، حتى وصلا إلى طريق باب الفتوح، وبدا لهما الجامع الأقمر إلى اليسار، فانحدرا جنوبا إلى ما بين القصرين، وتقدم راجح بجواده نحو باب الزمرد: وهو أحد أبواب القصر الكبير، يمتاز بحسن بنائه، وجمال زخرفه، وكثرة ما به من أعمدة الرخام الضخمة، دهش عمارة لفخامة الأثاث وجماله: فالأبسطة الفارسية تغرق فيها الأرجل، والستائر المذهبة تذهب العين من جمالها، والأرائك والكراسي كلها من خشب الصندل، والعود المضبب بالذهب، المرصع بالجواهر الكريمة، وقد فرشت بأنواع الحرير الثمينة، والمخمل والخسرواني، والديباج الملكي.
واتجه عمارة إلى يمينه، فرأى حائطا مغطي بنسيج من الحرير الأزرق التستري، وقد طرز بالذهب، وعليه صورة أقاليم الأرض، وجبالها وبحارها، ومدنها وأنهارها ومسالكها، وفيه صورة مكة والمدينة ظاهرتين للناظر، وقد كتب على كل مدينة وجبل وبلد ونهر وبحر وطريق اسمه بالذهب أو الفضة أو الحرير، فاقترب عمارة من هذا المصور العظيم، فرأى أنه كتب في حافته: «مما أمر بعمله المعز لدين الله، شوقا إلى حرم الله، وتنويها بمعالم رسول الله في سنة ثلاث وخمسين وثلثمائة، والنفقة عليه اثنان وعشرون ألف دينار».
أما الستائر فكانت من الحرير الأخضر، وعلى كل ستارة صورة لملك أو خليفة أو قائد لكل بلد من بلاد المسلمين، وقد كتب تحت كل صورة اسمه، ومدة حياته، ومجمل تاريخه.
بهت عمارة لهذا الملك العظيم وهذا العز السامي، وذلك الترف الذي بلغ الغاية وجاوز حدود الوهم والخيال، فلم يشعر بالجواري الذاهبات هنا وهناك، من روميات، وصقلبيات، وتركيات، وجركسيات، وقد زادتهن الملابس جمالا، أو زدن الملابس جمالا.
أصيب عمارة بالذهول، أو بما يشبه الجنون، وما شعر إلا براجح يرفع ستارة من الديباج المطرز باللؤلؤ، ويقول له: تقدم.
فتقدم عمارة ورفع بصره قليلا، فرأى سيدة القصور في صدر البهو على كرسي مرتفع يشبه العروش، وقد كان ما لمحه من جمالها فوق ما يصوره الشعراء، ويجسمه المثالون، خلقها الله لتكون فتنة للعيون، وجوى للقلوب، وحيرة للواصفين، هي جميلة كلها، فإذا أخذتها قطعة قطعة كانت أروع وأجمل.
تقدم عمارة فقبل يدها، ثم قبل طراز ثوبها، ووقف مطرقا خاشعا؛ فأعجبت سيدة القصور بجميل طلعته، واعتدال قامته، وبما يبدو في عينيه من صفات النبل والرجولة؛ فمال إليه قلبها وخفق فؤادها، وشعرت بقوة تجذبها إليه، قد تكون ما يسميه الناس حبا، ولما رأت حيرته وارتباكه أرادت أن تخفف عنه، وتبسط ما انقبض من نفسه فقالت: كيف أنت يا يمني؟؟ لعلك رأيت في «قاهرتنا» ما يسليك عن «صنعاء» و«زبيد»!! فقال عمارة: يا مولاتي، إن الذي يعيش في وارف ظلكم، وعزيز كنفكم، ينسي وطنه وأهله ولو كان في صحراء قاحلة، فكيف والقاهرة بكم سيدة الحواضر، ومدينة المدائن ؟! ... إن مصر يا مولاتي لم تر منذ أن خفقت فوقها راية الإسلام دولة كهذه الدولة: قوة ومنعة، وعدلا، وجودا، وإحسانا، وإن الناس اليوم إذا أرادوا توكيد أيمانهم، لا يقولون إلا: «وحق سيدة القصور»، فمن غير الفاطميين يا مولاتي نشر في مصر الأمن، واليسر، والسرور، والثروة!؟ حتى لو كان الفقر رجلا، وسألني عن صديق يصاحبه لقلت له: لن تجد يا صاحبي لك هنا رفيقا، ولكن عليك باليمن؛ فإنك تجد هنالك أصدقاء بالألوف.
فابتسمت سيدة القصور، وقالت: هذا دأبكم أيها الشعراء تلبسون الحق بالباطل!! - إن وصف مصر في أيامكم يا مولاتي يعجز الشعراء، وكل ما يقال فيها دون ما يجب أن يقال. - أنت لم تر الفاطمية في ذروة مجدها، أظنها الآن تسير بقوة من الماضي. - يا مولاتي: الفاطمية بك، وبمولاي الخليفة دائما في ذروة مجدها. - إن آمالي يا عمارة أبعد ما تناله يدي، ولو استطعت لأعدت أيام «المعز» و«الحاكم»، ولكني أجد الطريق وعرة، والمرمى بعيدا، وأنى تستطيع امرأة ضعيفة مثلي أن تعمل شيئا، ودرعها الخمار، وسيفها البكاء، وعليها جر الذيول لا قيادة الجيوش؟! ... إنني في الحق سررت بمقدمك؛ لأن القصر كان في حاجة إلى شاعر يذيع مآثره، وينشر مفاخره، وينقل صوته من الخاصة إلى العامة، فيزيدهم بالخلافة تمسكا، ولها نصرا وتأييدا. - إن شعري يا مولاتي سيكون جيشا بجانب جيوشكم، وسأكون لكم كما كان «حسان» للمسلمين الأولين. - حياك الله أبا محمد ... هذا ما ترجوه منك الخلافة، إن الخليفة لا يزال صغير السن، وأرى الأعداء يرمقون مصر من كل جانب؛ فالإفرنج نزلوا الشام، وملكوا كثيرا من بلادها، وقد أصبح خطبهم شديدا، وهؤلاء الغز الذين ستروا مطامعهم في اغتصاب الأمم، بدعوى الغزو والجهاد في سبيل الله، والذين يقودهم نور الدين بن زنكي يتحرقون شوقا إلى مصر، وإلى الارتواء من نيل مصر، وهذه الدسائس التي تحاك هنا حولي في سراديب مظلمة في جنح الليل المظلم، تنذر بالخراب والدمار، فماذا تفعل امرأة ضعيفة مثلي يا شيخ في وسط هذه الزوابع والزعازع؟! كان صوت الأميرة حزينا متهدجا ، وقد فرت دمعتان من عينيها أسرعت إلى مسحهما بمنديل في يدها، ثم كأنها أنفت من هذا الضعف النسوي، فضربت بقدمها الأرض، وقالت: أريد أن أنقي هذا الجو حتى أستطيع أن أتنفس ... أريد أن أنام ملء عيني في قصور المعز من غير أن أشعر أن الكيد والخديعة والأعداء من الخارج تنقبها من قواعدها ... - إن قوادك ووزراءك يا مولاتي طوع أمرك، والملك الصالح طلائع الذي قدم بجيشه من «منية ابن خصيب» لنصرة الخلافة، لا يزال كما كان للخلافة أمينا مخلصا.
فظهرت على وجه الأميرة كدرة خاطفة سريعة من الحقد والغضب لم يدركها عمارة، وابتسمت وقالت: صدقت يا عمارة، ما أعلمك بأخلاق الرجال!! ... إن ابن رزيك قوام هذه الدولة، وهو سيفها القاطع، ورأيها النافذ، وإني أسد أذني عما يقول كثير من حساده، يقولون: إنه أرمني اتخذ الإسلام ذريعة للدنيا لا للآخرة، واتخذ المذهب الفاطمي ذريعة للملك ... قاتلهم الله فهم كذابون أفاكون!! لن تجد مصر رجلا كابن رزيك، ولو كان للإخلاص والوفاء صورة لكانت ابن رزيك ... أما «شاور» و«ضرغام» فلا أعرف عنهما إلا أنهما كبيرا الآمال، ولعل هذه الآمال تتجه إلى إعزاز كلمة الخلافة!!
ثم ضحكت وقالت: أتعبتك من الحديث في شئون الدولة، وكل حديث فيها ممل ثقيل، ما أجمل قصيدتك التي أنشدتها يوم استقبالك!! وأجمل ما فيها:
Halaman tidak diketahui