حلقة مفرغة
جذب ذو الوجه الملائكي بنيقته وربطة عنقه عنه في عنف. وجال في خاطره أنه لا يوجد أسخف من التفسيرات الهينة التي يخترعها الناس لتبرير أفعال الناس الآخرين. أفعال الآخرين ... الآخرين. أحيانا لا يرقى انتقادهم إلى أكثر من الهمهمة اللاذعة. يخفون ما هو في صالح المرء ويغالون في وصف الباقي. يا لهم من حثالة! بيد أن الأمر مؤلم كمرور الفرشاة الخشنة على موطن الجرح. كما أن التأنيب المقنع، الذي يتنكر في صورة تعليق ودي عادي أو حتى تعليق يقصد به الإحسان، يمكن أن يكون جرحه أشد إيلاما، تماما كالفرشاة ذات الشعر الحاد المرهف. وحتى الخدم! فليذهب كل هؤلاء إلى الجحيم!
وفي جرة واحدة، انقطعت أزرار القميص كلها دفعة واحدة. لقد شقه بعنف من الأمام. كان الأمر كما لو كان قد شق صدره. كان خدمه يحكون له بتفصيل شديد ما يقول الناس عن قصة غرامه. إن الرجال الذين يترددون في الزواج خوفا من مشاركة امرأة لهم في بيتهم تقص عليهم - كالتلميذة المجتهدة يوم الامتحان - ما يقوله الناس عنهم، وكلها أشياء قبيحة، ينتهي بهم الأمر إلى سماع هذه الأشياء من فم خدمهم، كما حدث لذي الوجه الملائكي. وأسدل ستائر غرفته أخيرا دون أن يخلع عنه قميصه. كان في حاجة ماسة إلى النوم، أو على الأقل أن تبدو غرفته حاجزا بينه وبين النهار الطالع، وهو نهار لن يكون أقل سوءا من سابقه، كما قال في نفسه بمرارة. «النوم»، ردد ذو الوجه الملائكي هذه الكلمة إذ جلس على حافة سريره، يفك أزرار بنطاله، دون حذاء ولا جورب، وقميصه مفتوح. «أوه، يا لي من أحمق! إني لم أخلع سترتي بعد!»
وسار على عقبيه وقد قوس أصابع قدميه حتى يبعد راحة قدميه عن لمس أرض الحجرة الباردة، ونجح في تعليق سترته على ظهر المقعد، ثم عاد إلى فراشه قافزا بخفة على قدم واحدة كأنه طائر الكروان. ولكن ... «طاخ»! ... ويقع على الأرض وقد هزمته هذه الأرضية الباردة. ودارت ساقا بنطاله في الهواء كعقربي ساعة هائلة الحجم. وبدت الأرض مصنوعة من الثلج وليس من الإسمنت. يا للهول! ثلج ممزوج بملح. ثلج ممزوج بالدموع. وقفز إلى السرير كأنه يقفز من جبل ثلجي إلى طوق نجاة. كان يرى الفرار من كل ما حدث، وحين سقط على السرير تخيل أنه جزيرة، جزيرة بيضاء تحيط بها شبه ظلمة، وأحداث ساكنة مسحوقة. سوف ينسى، وينام، ويتوقف عن أن يكون موجودا. سوف يستريح من تجميع الأسباب وطرحها كأنما هي قطع في ماكينة من الماكينات. فلتذهب قواعد الصواب المتداولة إلى الجحيم بكل التواءاتها! من الأفضل بمراحل النوم المجافي للصواب، ذلك الخدر اللذيذ، ذو اللون الأزرق في البداية، والذي يكون أخضر ثم يتحول بعد ذلك إلى السواد، والذي يتقطر من العين إلى الكيان كله، خالعا الإثباط الكامل على المرء. آه، الرغبة! إن المرغوب فيه يكون محرزا وغير محرز في نفس الوقت. إنه مثل بلبل من ذهب تكون يدانا بأصابعهما العشرة مضمومة قفصا له. النوم الكامل المريح، الخالي من المضايقات، يدخل من مرايا العيون ويخرج من نوافذ الأنف، كان هذا هو ما يتوق إليه، نوم هنيء كنوم الأيام الخوالي.
وسرعان ما أحس أن النوم يهوم عاليا فوقه، فوق سطح بيته، في نور النهار الساطع، ذلك النهار الذي لا ينسى. وأدار وجهه. لا فائدة، واستدار على جانبه الأيسر حتى يهدئ من ضربات قلبه. ثم على جانبه الأيمن. لا فائدة. كانت ثمة مائة ساعة تفصل بينه وبين النوم الهنيء في تلك الأيام حين كان يأوي إلى فراشه خاليا من المشاغل العاطفية. واتهمته غريزته بأنه إنما يعاني من هذه العذابات لأنه لم يغتصب كميلة بالقوة. إن المرء يشعر أحيانا بالجانب المعتم للحياة يحوم قريبا منه إلى درجة يبدو الانتحار معها هو الوسيلة الوحيدة للهرب منه. وجال في خاطره: «سأتوقف عن أن أكون موجودا!» وارتعش في داخله. ولمس إحدى قدميه بالقدم الأخرى. كان يزعجه عدم وجود مسامير في الصليب الذي علق عليه. وجال في خاطره: ثمة شيء في مشية السكارى يذكر المرء بالمشنوقين. والمشنوقون يذكرون المرء بالسكارى، حين يرفسون بأقدامهم يتطوحون في الهواء . وأشارت غريزته إليه بأصبع الاتهام. عضو السكير. عضو المشنوق. وأنت، يا ذا الوجه الملائكي، لست أفضل منهما!
وجال في خاطره: الحيوان لا يخطئ في دفتر حساباته الجنسية. فنحن كأنما نبول أطفالا يأخذون طريقهم إلى المقبرة. ونفير يوم القيامة ... حسنا، لن يكون نفيرا. سيقوم مقص من الذهب بقطع هذا الخيط الأبدي من الأطفال. إننا نحن معشر الرجال نشبه أمعاء الخنزير التي يحشوها الخنزير الشيطاني باللحم المفروم كيما يصنع منها مقانق. وحين سيطرت على طبيعتي حتى أنقذ كميلة من رغبتي فيها، تركت ورائي جزءا مني خاليا، ولذلك فإني أشعر بنفسي خاويا، قلقا، غاضبا، مريضا، وحبيسا في الفخ. إن المرأة هي اللحم المفروم التي يملأ بها الرجل نفسه كأمعاء الخنزير حتى يكون راضيا. يا له من ابتذال!
والتصقت به الشراشف كأنها تنورات. تنورات مبللة بعرق لا يطاق.
لا بد أن «شجرة الليلة الحزينة» تشعر بالألم في أوراقها. «آه يا دماغي المسكين!» صوت صلصلة الأجراس السائلة، «بروغيز»، مدينة الموتى. شرائط لولبية من الحرير حول عنقه. «أبدا ...» ولكن ثمة فوتوغراف في مكان ما في الجوار. لم أسمعه أبدا. لم أعرف أنه يوجد. أول أنباء عنه. لديهم كلب في الفناء الخلفي للمنزل. لا بد أن هناك اثنين. ولكن هنا لديهم فوتوغراف. واحد فقط. ما بين نفير الفوتوغراف هنا، وكلاب الفناء الخلفي تصغي لصوت سيدها، يقع منزلي، رأسي، نفسي. الجيرة هي أن تكون قريبا وتكون بعيدا في نفس الوقت. هذا أسوأ ما في الجوار. ولكن بالنسبة إلى هذين الجارين، فلديهما عمل عليهما أن ينجزاه. إنهما يديران الفوتوغراف، ويتكلمان في حق الجميع. بوسعي أن أتصور ما يقولان عني. يا لهما من زوج من الحثالة العفنة. بوسعهما أن يقولا ما يشاءان عني، فأنا لا يهمني شيء. ولكن ... عنها هي! لو تأكدت أنهما قد قالا كلمة واحدة في حقها فسوف أجعلهما عضوين في «منظمة الشبيبة الحرة». لقد هددتهما مرارا بذلك ولكني أشعر اليوم أنني سأنفذ وعيدي حقا. سوف يملأ ذلك حياتهما بالمرارة. ولكن ربما لا أفعل ذلك، فهما لا يستحقان أصلا. إن بوسعي أن أسمعهما يقولان في كل الأنحاء: لقد خطف الفتاة المسكينة بعد منتصف الليل، وحملها إلى خان تملكه قوادة حيث اغتصبها هناك، بينما كانت الشرطة السرية تحرس الباب حتى لا يدخل عليهما أحد!
وسوف يتخيلان المشهد وأنا أخلع عنها ملابسها وأمزقها، وكميلة كالطائر الذي وقع في الفخ، يرتجف جسدا وريشا. وسوف يقولان: «ثم اغتصبها بالقوة دون أن يلاطفها، مغلق العينين كأنما هو يرتكب جرما أو يجرع دواء مرا!» لو أنهما علما بأن ما حدث كان مختلفا تماما عن ذلك التصور، وأنني هنا شبه نادم على تصرفي كجنتلمان! لو أنهما أدركا أن كل ما يقولان خاطئ. إنهما في الحقيقة يرغبان في تخيل الفتاة ليس إلا. تخيلها معي، معي ومعهما. هما يجردانها من ثيابها، هما يقومان بما يتصوران أنني قمت به! إن «الشبيبة الحرة» لا تليق بمثل هذين المخلوقين. علي أن أدبر لهما شيئا أسوأ من ذلك. إن العقاب الأمثل - بما أنهما عازبان، أجل إنهما حقا أعزبان عريقان - هو تكبيلهما بزوج من أولئك النسوة، أولئك النسوة. إني أعرف امرأتين ممن يحمن حول السيد الرئيس. فلتكونا هما إذن. هما. ولكن إحداهما حامل. لا يهم. بل أفضل إذا أمر الرئيس بعقد زواج فلا طائل من وراء الاحتجاج بأن العروس حامل. لذا فليتزوجا منهما بدافع الخوف، فليتزوجا ...
وقوس نفسه في الفراش واضعا ذراعيه بين ساقيه، ودفن رأسه في الوسائد، باحثا عن استراحة من لمحات أفكاره المؤلمة. وكانت في انتظاره صدمات جسمانية في صورة الأركان الباردة من الفراش، مما أعطاه راحة مؤقتة من جنوح تفكيره الطائش. وفي النهاية، سعى إلى تلك الإحساسات التي يرحب بها رغم إيلامها بأن مد ساقيه خارج الشرشف إلى أن لمسا العمود المعدني في نهاية السرير. ثم فتح عينيه بالتدريج. وبدا حين فعل ذلك أنه يقطع خطوط جفنيه الدقيقة غاية الدقة. وأحس بنفسه عديم الوزن كالظلال، وبعظامه هشة رخوة، وضلوعه ترق حتى تصبح غضاريف ورأسه يتحول إلى عجينة طرية ... وكانت ثمة يد من القطن والصوف تتخذ هيئة المقرعة في الغبشة السائدة ... يد صوفية قطنية لأحد السائرين في نومهم ... إن المنزل مصنوع من المقارع ... والمدن غابات من أشجار المقارع ... وراحت أوراق الصوت تسقط بينما هي تقرع الباب ... وبقي جذع شجرة الباب سليما بعد أن سقطت عنه أوراق الصوت ... ولم يكن أمامها ما تفعله سوى أن تقرع الباب ... ولم يكن أمامهم مفر من أن يفتحوا ... ولكنهم لم يفتحوا. كان يمكن أن تكسر الباب بقرعها عليه ... قرعه وراء قرعة، كان يمكن أن تكسر الباب؛ قرعة وراء قرعة ... ثم لا شيء، كان يمكن أن تكسر الباب ... - من بالباب؟ ماذا؟ - إنه إعلان وفاة أحضروه لتوهم. - أجل، ولكن لا تذهب به إليه لأنه لا بد نائم ضعه هنا على المكتب. «توفي الليلة الماضية السيد خواكين سيرون، بعد أن تناول السر المقدس الأخير. ومن دواعي حزن حرمه وأولاده وأقاربه الآخرين أن يبلغوكم بهذا النبأ، راجين منكم الترحم عليه والتفضل بحضور الجنازة في المقبرة العامة اليوم الساعة الرابعة مساء وسيجتمع المعزون أمام باب المقبرة؛ وعنوان منزل الفقيد: شارع كاروسيرو.»
Halaman tidak diketahui