وبدأت قدماها تدميان، وذراعاها ترتخيان إلى جنبيها من فرط التعب، ولكن ظلها وصورتها المنعكسة بقيا عصيين على التدمير. وتشنجت من سورة الغضب، فبذلت جهدا يائسا أخيرا وألقت بنفسها على جدار النافورة.
وسقطت وردتان في المياه!
وانتزع عينيها غصن شجرة ورد مليء بالأشواك.
وبعد أن ارتمت تتلوى على الأرض كظلها، رقدت أخيرا ساكنة تحت إحدى أشجار البرتقال لا يبدو فيها نفس حياة.
وكانت ثمة فرقة موسيقية عسكرية تعبر الطريق. يا لها من موسيقى عسكرية قوية، يا لها من رؤية مشوقة لأقواس النصر تلك التي تبعثها في النفوس! ولكن برغم جهود نافخي؟ في النفخ بقوة وفي تناغم، فإن سكان الحي بدلا من؟ يفتحوا عيونهم ذلك الصباح في نفاد صبر لأنهم كأبطال تعبوا من مشاهدة السيف يصدأ في ظل أمان حقول الذرة الذهبية، استيقظوا تملؤهم آمال يوم الإجازة السارة، عازمين في تواضع على الصلاة إلى العلي القدير كي يخلصهم من الأفكار والأقوال والأفعال الشريرة الموجهة ضد رئيس الجمهورية.
وبعد فترة قصيرة من الإغماء، بدأت «لاتشابيلونا» تحس بأصوات الفرقة الموسيقية. كانت في عالم من ظلام. لا بد أن سيدتها الصغيرة قد تسللت على أطراف أصابعها وغطت عينيها من الخلف. وتمتمت في صوت متعثر وهي ترفع يديها إلى وجهها لتزيح عنها يدي الفتاة اللتين كانتا تسببان لها ألما فظيعا: «يا عزيزتي كميلة، أعرف أنه أنت. دعيني أنظر إليك.»
وتلاشت موسيقى الفرقة في الهواء مع ابتعادها عن الحي. وتضافرت الموسيقى مع الظلمة التي طوق بها العمى عينيها كأنما هي حقا تلعب «عسكر وحرامية»، فبعثت فيها ذكرى المدرسة التي تعلمت فيها الهجاء، هناك في «المدينة القديمة». ثم قفزت عبر السنين فرأت نفسها وقد نمت، تجلس في ظلال شجرتي مانجو، وبعد ذلك، قفزة أخرى في الزمن، وها هي جالسة في عربة تجرها الثيران تدب على طريق منبسط يعبق برائحة التبن. وبدأ صرير العجلات كتاج مزدوج من الأشواك يسحب الدماء من صمت سائق العربة الأمرد الذي جعل منها زوجته، وكان الثوران الصبوران يمضغان طعامهما وهما يغذان السير ويجران خلفهما عربة العرس.
ويسحر السماء التي تظلل الحقول في الربيع ... بيد أن ذكرياتها تشتتت فجأة، ورأت حشدا من الرجال يندفعون إلى منزل الجنرال كالسيل، يلهثون كالحيوانات السوداء، وسمعت صرخاتهم الشيطانية، وضرباتهم، وتجديفهم، وضحكاتهم الخشنة، والبيانو يصرخ كأنما ينتزعون أسنانه بالقوة. واختفت سيدتها الصغيرة كأنها عبير العطر، وشعرت هي بضربة عنيفة في وسط جمجمتها مقرونة بصرخة غريبة وظلمة سادت كل شيء.
ووجدت «نينيا فيدينا»، زوجة «خينارو روداس»، الخادمة العجوز ممدة في الفناء ووجنتاها غارقتان في الدماء، وشعرها منفوش، وملابسها ممزقة شر ممزق، وهي تناضل كي تطرد عنها الذباب الذي كانت ثمة يد خفية تقوده إلى وجهها، ففرت في ذعر إلى داخل المنزل كأنما هي قد رأت عفريتا.
وظلت تردد في سرها: «يا للمسكينة! يا للمسكينة!»
Halaman tidak diketahui