وقفز خينارو مرة واحدة إلى الفراش ودلف تحت الشراشف وهو في كامل ملابسه بما فيها الحذاء. كانت العين لا تزال هناك، تتراقص إلى جانب جسد زوجته، ذلك الجسد البض الفتي. وأطفأت «فيدينا» النور، بيد أن ذلك زاد الطين بلة، ذلك أن العين تعاظم حجمها شيئا فشيئا في الظلمة، إلى أن غطت الجدران والأرض والسقف والسطح والبيوت المجاورة، غطت حياته كلها، وطفله ...
وأجاب ردا على ملاحظة زوجته التي أعادت إشعال الشمعة حين سمعت صيحاته المذعورة، وراحت تمسح العرق البارد عن جبهته بإحدى مناشف الطفل: «كلا! إنها ليست عين الله، إنها عين الشيطان!»
ورسمت «فيدينا» علامة الصليب. وطلب منها خينارو أن تطفئ الشمعة ثانية. وتحولت العين إلى شكل حرف ثمانية إذ هي تنتقل من النور إلى الظلمة، ثم صدر عنها صوت مدو، كان يبدو أنها ستنكسر على شيء ما، وما لبثت أن تكسرت على الفور على صوت وقع أقدام تتردد في الشارع.
وصاح خينارو: الرواق! الرواق! أجل! أجل! النور، أعواد الثقاب! النور بحق الإله!
ومدت زوجته يدها من فوقه لتمسك بعلبة الثقاب. وكانت تتردد أصوات عجلات قصية. كان خينارو يمسك فمه بأصابعه ويصيح كأنما هو يختنق. لم يكن يريد أن يبقى وحيدا، ونادى على زوجته، التي كانت قد دست جسدها في قميص النوم وذهبت تسخن له بعض القهوة.
وحين سمعت صرخات زوجها، عادت إلى الفراش منزعجة. وقالت لنفسها وهي ترقب شعلة الشمعة الخافقة بعينيها السوداوين الجميلتين: «هل هو مريض يا ترى أم ماذا؟» وجال بخاطرها الدود الذي أخرجوه من معدة «هنرييتا » الفتاة التي تعمل في الخان المجاور للمسرح - والفطريات التي وجدوها مكان المخ في رأس أحد الهنود في المستشفى، وذلك المخلوق البشع المسمى «كاديخو» الذي يحول بين الإنسان والنوم. وكالدجاجة التي ترفرف بجناحيها وتصيح على فراخها حين ترى الطيور الكاسرة تتهددها، نهضت وعلقت ميدالية القديس «بلاس» حول رقبة طفلها الوليد الصغيرة وهي تتلو الصلوات بصوت عال.
بيد أن الصلوات هزت «خينارو» كأنما أحد يقوم بضربه. ونهض من الفراش وقد أغلق عينيه بشدة، فوجد زوجته إلى جوار مهد الطفل فتعثر ووقع على ركبتيه معانقا ساقيها ومعترفا لها بما شاهده في هذه الليلة: «لقد تدحرج على السلم، أجل، إلى نهاية السلم، نازفا الدماء من أول طلقة، ولم يغلق عينيه بعد ذلك أبدا، منفرج الساقين، وعلى عينيه نظرة جامدة باردة زجاجية لم أر في حياتي مثيلا لها أبدا! وبدت إحدى عينيه كأنما تحيط بكل شيء أمامها مثل لمح البرق، ولشد ما كانت تحدق إلينا! عين ذات أهداب طويلة، لا تريد أن تفارقني، لا تريد أن تفارق أصابعي، ها هي، آه يا إلهي، ها هي!»
وأسكتته صرخة من الطفل. وتناولت «فيدينا» الطفل من مهده، ولفته في بعض الثياب، ثم ألقمته ثديها، دون أن تتمكن من الإفلات من قبضة زوجها، رغم أنها شعرت بالاشمئزاز منه وهو يجثو هناك، ممسكا بساقيها يئن ويهذي. - وأسوأ ما في الأمر أنه «لوسيو» ... - أهو «لوسيو» ذلك الذي يشبه صوته صوت النساء؟ - أجل، لوسيو فاسكيز. - الرجل الذي يدعونه «القطيفة»؟ - أجل. - ولماذا قتله بحق السماء؟ - لقد صدرت إليه الأوامر بذلك؛ فقد أصيب بداء السعار. بيد أن ذلك ليس أسوأ ما في الأمر؛ فالأدهى من ذلك أن لوسيو قد أخبرني أن أمرا قد صدر باعتقال الجنرال كاناليس، وأن هناك شابا يعرفه ينوي اختطاف ابنة الجنرال الليلة ... - الآنسة كميلة، إشبينة طفلي؟ - أجل.
وحين سمعت «فيدينا» هذه الأنباء التي لا يصدقها عقل، طفقت تبكي بالسهولة والغزارة اللتين تبكي بهما عامة النساء حزنا على مصائب الآخرين. وسقطت دموعها على رأس طفلها الصغيرة إذ هي تهدهده، سخينة كالمياه التي تحملها الجدات إلى الكنيسة لإضافتها إلى المياه المقدسة الباردة في حوض التعميد.
وراح الطفل في النوم وانقضى الليل وخينارو وزوجته لا يزالان جالسين كأن على رأسيهما الطير، حين خط الفجر خيطا ذهبيا تحت الباب وكسرت ابنة الخباز صمت الدار وهي تدق على الباب وتصيح: الخبز! الخبز! الخبز!
Halaman tidak diketahui