Tuan Puntila dan Hambanya Matti
السيد بونتيلا وتابعه ماتي
Genre-genre
ولعل هذا هو ما دار في خلد «برشت» حين فكر في كتابة هذه المسرحية التي سماها بالمسرحية الشعبية، مستفيدا من تجارب الاستعراضات الغنائية والكباريه الترفيهي والأدبي على السواء؛ فالكباريه يقدم نمرا أو اسكتشات في مناظر متصلة، لا تعتمد على خيط الحكاية الواحدة التي تتخلل المسرحية المألوفة من أولها إلى آخرها. وإذا أحسن استغلال هذا الشكل أمكن عرض مشاهد من الملاحم الشعبية القديمة من خلاله، وإن كان عليها في نفس الوقت أن تحاول تقديم هذه المشاهد الملحمية في صورة واقعية تعكس حياة الناس أو تنعكس عليها، وهي مهمة لا شك عسيرة. وكاتب المسرحية الشعبية يستطيع في هذا المجال أن يستعين بالغناء والرمز والجوقة والحكاية والمثل وسائر ما يمكن أن يقدمه له الرصيد الشعبي الخصب، وأن ينسج هذا كله في إطار شاعري غنائي، ولكن المهم أن يحافظ على قدر كاف من الموضوعية، وأن يصور المواقف - لا الأشخاص الذين ينفعلون بها - في صورة شاعرية، ويعبر عن البساطة دون أن يسقط في البدائية، ويضرب المثل دون أن يلجأ إلى الموعظة، وينطق عن ذات الشعب الحقيقية مع الاحتفاظ بقدر كاف من الموضوعية. وهذه الصعوبات في أسلوب البناء الفني للمسرحية الشعبية ترتبط بصعوبات أخرى لا تقل عنها في طريقة العرض والتمثيل؛ فالصعوبة الكبرى هنا هي إيجاد الأسلوب الذي يجمع بين الفن والطبيعة في آن واحد. هنا يجد الممثل نفسه أمام أمرين: فإما أن يعمد إلى ما يمكن أن نسميه بالطريقة المثالية المبالغة في الإلقاء والأداء، وهي الطريقة التي لا تزال تتبع في الأعمال الكلاسيكية والشعرية الكبرى، أو يلجأ إلى الطريقة الطبيعية الخالصة المتبعة في الأعمال الواقعية والاجتماعية الحديثة.
وعيب الطريقة الأولى أنها كثيرا ما كانت تهوي إلى التصنع والافتعال والشكلية والحساسية المريضة، مما جعل النزعة الطبيعية في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن تحل محلها زمنا طويلا. غير أن هذه النزعة الأخيرة سرعان ما سقطت هي الأخرى في السطحية والتقليد الأعمى للواقع والبعد عن الخيال والذوق حتى كادت تخلو هي نفسها من كل أسلوب. كان لا بد إذن من البحث عن طريق جديد، اشتدت الحاجة إليه بعد كوارث حربين عالميتين، وتغيير عميق في جذور الحياة الاجتماعية، وإحساس من جانب كاتب المسرح بضرورة القرب من وجدان الشعب، والتعبير عن ثورات الضمير في القرن العشرين، وجعل المسرح مكانا للتغيير لا للترفيه. طريق جديد. نعم، ولكن في أي اتجاه؟ ذلك هو السؤال الذي يواجهه المصلحون والمجددون على الدوام؛ فلو جمعنا بين الأسلوب الكلاسيكي - الرومانتيكي في طريقة التمثيل والتأليف - وبين الطريقة الطبيعية الواقعية على مذهب الحل الوسط؛ لكانت النتيجة خليطا يجمع بين الرومانتيكية والواقعية ويفسد كلا منهما على السواء. أما إذا حاولنا أن نجمع بينهما في وحدة تؤلف بين الفن والطبيعة دون أن تطمس التعارض بينهما، فسوف تكون وحدة خصبة واعية، تحقق للعمل الفني عالمه الخاص به وترضي طموحه إلى الشمول والبقاء، دون أن تخل مع ذلك بضرورات الواقع أو تتعالى عليه أو تقنع بأن تكون نسخة منه. هنالك يتحقق ذلك الحلم العسير: الفن «الطبيعي» والطبيعة «الفنية» في عمل يستطيع أن يهذب الطبيعة والواقع بالشكل الفني، ويغذي الفن بحيوية الواقع وطبيعته.
ويبدو أن مستوى المسرح يتوقف على مدى قدرته على التغلب على التعارض القائم بين ما سميناه بالطريقة المثالية (التي تهتم بنبل الحركة وسمو الأداء)، وبين الطريقة الواقعية (التي تنزع إلى نسخ الواقع ومحاكاة الطبيعة). قد يقول قائل: إن في طريقة التمثيل الواقعي أو الطبيعي شيئا غير نبيل ولا مثالي، كما أن في الطريقة المثالية النبيلة شيئا غير واقعي؛ فالفلاحون والصيادون ليسوا «نبلاء»، وإذا أردنا أن نعبر عنهم تعبيرا واقعيا صادقا لم نظفر من وراء ذلك بشيء نبيل، بل إن التعبير الواقعي عن الملوك والنبلاء أنفسهم قد لا يجعل منهم ملوكا ولا نبلاء، ولكننا نستطيع أن نزيل هذا الوهم إذا تذكرنا أن الممثل الذي يعبر عن القبح والشر والضعة عند الفلاحين أو النبلاء وعند الصيادين أو الملوك، لا يحتاج بالضرورة إلى أن يمثل بطريقة وضيعة أو رخيصة، ولا يمكن أن يستغني عن قدر لازم من الرقة والإحساس بالجمال، كما أن المسرح الذي يريد أن يحافظ على مستواه اللائق لا يحتاج بالضرورة إلى التضحية بالجمال الفني ثمنا للواقعية.
ومهما يبلغ الواقع من القبح والمرض والهوان، فلن يكون ذلك سببا في طرده من على خشبة المسرح، بل إن قبحه ومرضه ربما كانا سببا كافيا لتصويره على المسرح تصويرا حيا. هنالك تجد الملهاة مادتها الغزيرة في البخل والجشع والادعاء والغباء، كما تستمد المأساة الجادة مادتها من صراعات المجتمع ومظالم الحياة؛ فالفن عنده القدرة دائما على تصوير القبيح في صورة جميلة، والوضيع على نحو نبيل. والفنان هو الذي يستطيع أن يعبر عن الغلظة تعبيرا رقيقا، ويصور الضعف تصويرا قويا. والملهاة التي تهتم أكثر ما تهتم بجوانب القبح والشر، والضعة في الواقع لا تستطيع أن تتجرد من نبل التصوير والتعبير. والفن عموما - والمسرح على وجه الخصوص - لديه من الأسباب والوسائل ما يكفل له القدرة على تجميل القبيح، والارتفاع بالوضيع؛ لديه الخيال والسخرية والحكمة، ولديه الإضاءة واللون والإشارة والقدرة على تحريك الأشخاص والمجموعات. هذه كلها أشياء لا بد من إقرارها إذا شئنا أن نطبق الأسلوب الفني بكل ما فيه من سمو ونقاء على ما نسميه بالمسرحية الشعبية؛ فلسنا هنا بصدد مسرحيات كلاسيكية تعالج موضوعات مثالية خالدة عن موقف الإنسان من الكون والغيب والمصير، ولا نحن بصدد نوع من المسرحيات «الطبيعية» التي تتناول «مشكلات» اجتماعية وتكافح في سبيل الوصول إلى حلول لها من وجهة نظر فكرية معينة، وإنما نحن أمام نوع من المسرحيات كتبت بلغة الشعب، ونبعت من وجدانه الجمعي، واستمدت من حكمته وأمثاله وحكاياته؛ من مغامراته البريئة وعثراته المتواضعة، من سخرياته الطيبة وشطحاته الساذجة، إنها قد تتناول المشكلات، دون أن تصبح مسرحية «المشكلة»، وتكشف عن النفسيات بغير أن تكون رواية «نفسية»، وتعرض لنا أناسا بدائيين، دون أن تكون هي نفسها «بدائية». وسيجعلها كل ذلك تقف في سوق الأدب موقفا عسيرا؛ فليس هناك من يعترف بأنها «نوع أدبي»، ومعظم المؤرخين والناقدين ينظرون إليها من عل أو يصمتون عنها كل الصمت. ومع ذلك فإن هذا لم يمنعها من إثبات وجودها في الزمن الحديث، ولم يحل بينها وبين التطور بنفسها والبحث لها عن أسلوب ووظيفة ورسالة بين سائر الفنون؛ فهي على قدر استفادتها من الأساليب المختلفة في التمثيل والتعبير، سواء كانت مسرحيات كلاسيكية أو رومانتيكية أو من نوع الكوميديا «دل أرتي» أو من النوع الاجتماعي الواقعي أو حتى من طريقة الأداء الصامت بالرمز والإشارة. وعلى قدر محافظتها على طبيعتها الأصلية وحرصها على أن تظل بسيطة وقومية وشعبية كما يدل عليه اسمها، يكون مدى نجاحها أو فشلها في تحقيق الغرض منها؛ ذلك أن البحث عن المسرحية الشعبية يرتبط حتما بالبحث عن أسلوب واقعي جديد في التأليف والتمثيل يجعلها بسيطة لا ساذجة، وشاعرية لا عاطفية، وواقعية لا نسخة مشوهة من الواقع، وفنية بغير تكلف، وشعبية بغير حاجة إلى الابتذال. •••
و«السيد بونتيلا وتابعه ماتي» مسرحية كتبها برشت بين عامي 1940، 1941م عندما كان يقيم في منفاه في فنلندا، فرارا من وجه الطغيان النازي، مستلهما فكرتها عن قصة وتخطيط مسرحي للكاتبة الفنلندية هيلا فوليوكى. والمسرحية تختلف عن بقية أعمال برشت، سواء في ذلك مسرحياته المبكرة أو مسرحياته التعليمية أو مسرحياته الكبرى المتأخرة، في أنها ليست من نوع المسرحية ذات الفكرة أو ذات الموضوع. وليس يعني هذا بالطبع أنها خالية من الفكرة والموضوع، بل معناه أنها ليست من اللون «الأيديولوجي» الذي يدافع دفاعا مباشرا عن قضية فلسفية أو اجتماعية بعينها ويدعو إليها ويجند كل طاقاته الفنية في سبيلها، وإن مست مثل هذه القضية فهي لا تفعل ذلك إلا ضمنا وعن طريق الإشارة والتلميح؛ فهي مسرحية شعبية تستمد شكلها الملحمي، كما يقول برشت، من مغامرات الملاحم الشعبية القديمة و«ملاعيبها». إنها تخلو من الحكاية ذات الحبكة المتصلة التي تربط أول المسرحية بآخرها، لتعرض علينا في لوحات متجاورة ومشاهد منفصلة ما يجري للإقطاعي «بونتيلا» من أحداث، وما يصيبه في سكره أو صحوه من أحوال. إن مثلها في ذلك مثل مسرحية برشت الأولى «بعل»؛ فكلتاهما تتألف من مجموعة من المشاهد واللوحات تسودها الروح الغنائية الشاعرية، وتهتم بتجسيم المشاعر والأفكار أكثر من اهتمامها بتتبع الخيط القصصي أو رسم الشخصيات. وإذا كان الكلام عن المسرح لا يخلو عادة من الكلام عن الوحدات المسرحية المشهورة، فلسنا هنا أمام وحدة من أي نوع، اللهم إلا وحدة شخصية البطل نفسه. ومع أن هذا البطل «حيوان منقرض» كما تسميه أبيات التمهيد الشعري، فالمضمون السياسي الذي ينطوي عليه ضئيل؛ ذلك لأن الجانب المضحك من شخصيته يطغى على الجانب السياسي، ولعله بهذا الأسلوب الفني المستور يبرز هذا المضمون ويزيدنا اقتناعا به أكثر مما يفعل الأسلوب التعليمي المباشر الذي يكون غالبا على حساب الفن.
إن المسرحية تكتفي بأن تعرض علينا سلوك هذا «الحيوان المنقرض» - الذي تصفه بأنه نهم ولا نفع منه - في مواقف مختلفة، فهو حين يشرب فيسكر إنسان طيب القلب، عطوف على الفقراء والعمال، يود لو تسقط الحواجز الطبقية التي تفصله عنهم فيجلس إلى جانبهم ويأكل ويشقى معهم، بل إنه لا يمانع في أن يزوج ابنته الوحيدة من سائق عربته الذي يلمس فيه الرجولة والشهامة، فإذا صحا من سكرته اكتشفنا أنه كان يفكر بقلبه لا بعقله، ويحس بوعيه الباطن لا بشعوره الظاهر. إنه عندئذ ينقلب وحشا حقيقيا له مخالب الطبقة المستغلة وأنيابها وفيه قسوتها وخداعها؛ فها هو ذا غليظ مع الفقراء لا يرحم، حريص على غاباته وأمواله، فظ مع سائقه وتابعه ماتي يتهمه بأنه يستغل ضعفه من ناحية الخمر ويريد أن يخطف ابنته وينهب ضيعته ويخرب بيته! إنه يتراجع عن كل ما صدر عنه في أثناء سكرته من كلمات رحيمة أو وعود طيبة، ويتنكر لكل تصرفاته التي كشفت عن ذاته الحقيقية أو التي ينبغي أن تكون هي الحقيقية؛ لأنها الذات الإنسانية التي تغطيها قشور الطبقة ومواضعاتها، وتلزمها بأن تتنكر لطبيعتها. ولا شك أن شخصية بونتيلا ستذكرنا على الفور بشخصية المليونير التي خلقتها عبقرية الفنان العظيم «شارلي شابلن» في فيلمه المشهور «أضواء المدينة».
وإذا كانت الشخصيتان تلقيان الضوء على تعاسة الفقير وضياعه في العالم الحديث، فشخصية بونتيلا تزيد على ذلك أنها تفضح العلاقة المفتعلة بين السيد والخادم، والمالك ومن لا يملك شيئا، وتبين من خلال العقيدة الاشتراكية أنها علاقة مفتعلة تنفيها طبيعة الإنسان نفسه، حين يسمح لها في لحظات نادرة أن تكشف عن نفسها بنفسها، كما لو كانت في حالة الحلم أو اللاشعور. كل هذا في إطار الملحمة الشعبية، بكل ما فيها من شاعرية وبراءة وصدق. •••
وقد خص برشت هذه التجربة الفريدة في المسرح الشعبي بكثير من تعليقاته وتوجيهاته حول الإخراج والتمثيل والإضاءة، سيرا على عادته مع أعماله المسرحية الأخرى؛ فمهمة الإخراج في سخرية كهذه ذات طابع شاعري مهمة عسيرة، وعليه أن يبرز هذه الملامح الشعرية في مجموعة من الصور واللوحات المؤثرة.
إننا نلتقي في بداية المسرحية بشخصية بونتيلا الذي تحيط به هالة من العظمة تشبه أن تكون أسطورية؛ فهو البطل المنتصر الذي بقي وحده بعد أن أغرق طوفان الخمر كل من حوله. عبثا يحاول بونتيلا الوحيد أن يوقظ القاضي الذي سقط من على كرسيه من شدة السكر لكي يشاركه في الشراب، وهو لا يرى أن النادل الذي يقوم على خدمته جدير بالاطلاع على أفكاره العالية أو المشاركة في عواطفه العميقة، ربما لأن النادل المسكين نجا من الطوفان فلم يغرق في سكرته، وهو لا يجد أحدا يتفرج عليه وهو يقوم بمغامراته الشجاعة على بحر الخمر، أو يصول صولاته الهائلة على المائدة التي رصت فوقها الكئوس والزجاجات. في هذه الوحدة الأليمة يظهر له سائقه «ماتي»، الذي سئم من انتظار سيده ثلاثة أيام، فيفرح به ويحييه تحيته لإنسان طال بحثه عنه. ويدعوه بونتيلا دعوة الملوك إلى الشراب، ويروح يكشف له عن نفسه ويبوح بسر مرضه الرهيب؛ إنه مريض من نوع عجيب، تصيبه من حين لآخر نوبات من الصحو الشامل تجعله يتحول من إنسان طيب نبيل إلى إقطاعي متوحش شرير. ويقبل ماتي على بقايا المائدة، ولا يمنع نفسه - على الرغم من إحساسه بالمرارة لأن سيده جعله ينتظره في البرد ثلاثة أيام - من الإعجاب بظرف هذا الوحش الاجتماعي الذي يحاول على الرغم من كل شيء أن يقترب من مستوى البشر. ومع ذلك فإن ماتي لا يفارقه عقله المتزن البارد أبدا، بل يحاول أن يضع هذه الإنسانية التي يدعيها سيده موضع الاختبار؛ فهو يروي له حكاية الأرواح التي تظهر في ضيعة السيد بايمان، وكيف أن رائحة اللحم المشوي تكفي لطردها منها إلى غير رجعة، ولكن بونتيلا يمر على هذه الحكاية مر الكرام؛ فهو يملك حتى في حالة السكر أن يصد أذنيه عن سماع ما لا يحب سماعه. وبدلا من أن يتخذ الموقف الذي تمليه عليه إنسانيته المزعومة، نجده يحكي لصاحبه وكاتم سره الجديد عن المشكلة التي تحيره؛ فهو يعتزم أن يزوج ابنته من دبلوماسي لم يقتنع أبدا برجولته، وإن كان ينتظر من وراء هذا الزواج مجدا يليق باسمه وثروته. وهو في سبيل تدبير مهر ابنته يرى نفسه بين اثنتين: فإما أن يبيع إحدى غاباته العزيزة على نفسه، وإما أن يبيع نفسه وجسده لصاحبة ضيعة كورجيلا العجوز، ولكن صديقه ماتي لا ينصحه بشيء يعلم سلفا أنه لن يتبعه. وهكذا ينهضان لمغادرة المسرح، فأما ماتي فيسحب القاضي الغائب عن الوعي وراءه، وأما بونتيلا فيرغمه على التوقف من حين لحين لسماع خططه ووعوده وأحلامه في المستقبل.
ومهمة الإخراج في مثل هذا الموقف أن يجسم لنا إحساس بونتيلا بوحدته وتخلي الجميع عنه، كما يبرز بطولته وانتصاره على الطوفان الذي نجا منه، في شكواه المتصلة من القاضي وندائه له أن يفيق ويثبت رجولته. كما أن على المخرج أيضا أن يوضح لنا فرحة بونتيلا حين يلتقي مع إنسان حقيقي؛ فهو يقف فوق المائدة في وسط المسرح، سعيدا بمغامراته الهائلة على بحر الخمر. وحين تقع عينه على ماتي يهلل له وينزل من على المائدة لتحيته ويطوف حولها في خطوات واسعة تعبر عن فرحته بلقاء الصديق الذي طال انتظاره. أما حين يفضي له بسر مرضه الخطير، فهو يتضاءل ويضعف حتى لنكاد نحس بأنه يزحف على بطنه أمام صديقه العاقل الذي يعرف أنه لا يكاد يصدقه. ويجب كذلك أن يروي ماتي حكاية الأشباح التي تظهر في الضيعة التي كان يعمل فيها من قبل، فنحس بالتناقض الظاهر بين منظره وهو يأكل في نهم وبين أولئك الذين يشقون في المزارع حتى يموتوا جوعا، ثم تأتي أرواحهم على رائحة اللحم المشوي. وحين يوقفه بونتيلا ليضجره بهمومه الشخصية، فإن من الواجب أن يحس المتفرج بأنها ليست هموما بمعنى الكلمة، وأن مشكلاته الشخصية ليست إلا نتيجة جشعه وقسوته. ونأتي إلى ختام هذا المشهد لنرى ماتي وهو يسحب بونتيلا إلى خارج المسرح، وكأنه مدرب في سيرك أفلح بعد مجهود كبير في ترويض هذا الوحش الآدمي المضحك إلى الحد الذي جعله يسلم له حافظة نقوده بما فيها من مال يكرهه ويحتقره ... ومع ذلك فلا يجب أن نخدع أنفسنا كثيرا بما يبديه بونتيلا في بعض الأحيان من عاطفة إنسانية؛ ذلك أنه لا يكره المال ولا يحتقره إلا في حالة السكر، وهو مهما غاب عن وعيه لا يرحم العامل الاشتراكي من الطرد من ضيعته، وإذا سمع نساء كورجيلا الفقيرات يروين له حياتهن اليومية لا يترك نفسه على سجيتها، بل يسرع في طلب الخمرة القانونية حتى لا يتورط فيما يعود عليه بالخسارة، وإذا أحضر معه الشغالة من السوق أسرع هاربا إلى الحمام حتى يفيق لنفسه قبل أن يفوت الأوان. وكل هذا يدل على عمق نزعته الإقطاعية، كما يستوجب من الممثل إلماما بقوانين المجتمع ويفترض منه اتخاذ موقف بشأنها.
Halaman tidak diketahui