السانحة الأولى
احرصي على قلبك
ذكرى قلعة بعلبك
قتل النفوس
رسائلنا اليوم وبالأمس
بين الدكتور شميل والكاتب الأمريكي
الأفكار القديمة ومراسل الآنسة مي
إلى حضرة ب. ر.
سلام الله يا مطر عليك
بين الأدب والصحافة
موعظة شهر الورود
الحركة بركة
دنا عيد الميلاد ...
عام سعيد
أجوبة الفتيات
وصف غرفة في مكتبة
في محكمة الجنايات «سعادة» ملك اليونان
ماك سويني
زواج الملوك
الشباب والموت
عائدة تتذكر ...
حكاية السيدة التي لها حكاية
ساعة مع عيلة غريبة
السانحة الأولى
احرصي على قلبك
ذكرى قلعة بعلبك
قتل النفوس
رسائلنا اليوم وبالأمس
بين الدكتور شميل والكاتب الأمريكي
الأفكار القديمة ومراسل الآنسة مي
إلى حضرة ب. ر.
سلام الله يا مطر عليك
بين الأدب والصحافة
موعظة شهر الورود
الحركة بركة
دنا عيد الميلاد ...
عام سعيد
أجوبة الفتيات
وصف غرفة في مكتبة
في محكمة الجنايات «سعادة» ملك اليونان
ماك سويني
زواج الملوك
الشباب والموت
عائدة تتذكر ...
حكاية السيدة التي لها حكاية
ساعة مع عيلة غريبة
سوانح فتاة
سوانح فتاة
تأليف
مي زيادة
السانحة الأولى
نحن الفتيات أسيرات الأزياء، وعبدات التبرج، ولعب الأهواء، أنكتب نحن فتيات اليوم؟
نعم، صرنا نكتب ليس بمعنى تسويد الصحائف فحسب بل بمعنى الانتباه للشعور قبل التحبير، لقد خبرنا الاختلاء بذواتنا فأقبلنا على تفهم معاني الحياة نتفرس في المشاهد بأبصار جديدة، ونصغي إلى الأصوات بمسامع منتبهة، ونشوق إلى الحرية والاستقلال بقلوب طروبة، ونعبر عن النزعات بأقلام يشفع الإخلاص في ترددها. إن الأمر لكذلك. وجرأتنا هذه لم تبد من اللائي سبقننا، وإقدامنا لم يألفه الرجل من سوانا، والجمهور يرقبنا بنظرة خاصة تائقا إلى تصفح نفس المرأة فيما تصف به ذاتها وليس فيما يرويه عنها الكاتبون.
وما الغرض من ذلك؟
يزعم الجمهور أن رغبته في تذوق إنشاء المرأة لا تعرب عن إكباره لذلك الإنشاء، أو عن إقراره بصدق الفراسة منها، وإنما لأن في كتابتها مظهرا من مظاهر الذات النسائية العامة.
خطوة صالحة نحو تكريم الأدب النسائي، إلا أن فيها من الظلم وغمط الحقوق ما فيها. نحن نحب الحلم، ونطلب التساهل، ونريد أن يستعان في الحكم علينا «بالظروف المخففة» كما يقول سادتنا الحقوقيون. نريد ذلك لأننا مبتدئات. نريده لأننا مبتدئات ولأننا بنات يوم تشرق علينا شمسه، نخلق أنفسنا بأيدينا، ونكتشف الطرق في غابات مهجورة، ونمهد السبل بين الصخور والأدغال لنا وللآتيات بعدنا.
إفساح المجال علينا عسير، فنشكر للحليم تغاضيه عن القصور في عملنا وانتباهه لضآلة وراثتنا في عالم القلم، كما نشكر للناقد الكيس ما يبينه لنا من أغلاط ناتجة عن ضعف الفتاة وقلة اختبارها، ولكنه لا يجوز في شرع العدل والحقيقة أن ترمى جميع أعمالنا بالضعف النسائي وأن يطلق عليها الحكم بلا بحث ومقارنة.
لقد غالى بعض المفكرين، لا سيما بعض الذين أقنعوا نفوسهم بأنهم مفكرون، لقد غالى هؤلاء في فصل المرأة عن النوع الإنساني الذي كادوا يحصرونه في الرجل. والواقع أن كل حمية تهز المرأة إنما تنطلق من النفس الإنسانية الشاملة، وكل نقص يشوبها إنما يرجع إلى العجز البشري الشائع، وكل أثر من آثار ذكائها إنما هو وجه من وجوه الفكر الإنساني العام.
احرصي على قلبك
أرخى الشفق سدوله على الأرض بطيئا
ولفقت حواشي السحب بخيوط الذهب والفضة
وتلاشى ما كان يبدو كبحيرات الياقوت وبرك الزمرد حيال عرش الغروب
وغشت الأرض كآبة ربداء
وغشت عينيك كآبة ربداء
أي شمس تغيب فيك، أيتها الفتاة، ولماذا يشجيك المساء
لتغشى عينيك هذه الكآبة الربداء؟
ألا احرصي على قلبك أيتها الفتاة •••
تجلت الشمس في الأوج تحت رواق الفلك
والأشعة تغازل الأزهار وتوسع المياه عناقا وتلوينا
والمنازل تسطع كحجارة كبيرة من نور
وانتعشت جميع الأشياء انتعاش من خرج من أزمة وانفرج
أما أنت فتلوبين جائعة عطشى
تقولين ما يجب ألا يقال وتفعلين ما يجب ألا يفعل
ثم تأسفين على القول والفعل وتعودين تلوبين
ووراء الملل والسآمة وهيج فيك واحتدام
أخبريني ما بك أيتها الفتاة؟
لماذا أراك عند نافذتي ترقبين ما ليس بالموجود وتشتافين ما ليس بالبادي؟
وإذا تحولت عنك إلى مرآتي رأيت هناك وجهك مفجعا حزينا؟
أهو أمل غزا نفسك فثقل على فؤاد منك اعتاد القنوط؟
أم قرب تهليل الأمل يأس ينتحب وشعور بالفشل طالما خالط الرجاء؟
جميع الأشياء انتعشت انتعاش من خرج من أزمة وانفرج
وأنت أي علة تضنيك فتلوبين وتتأوهين؟
ألا احرصي على قلبك أيتها الفتاة •••
جاء المساء مرة أخرى، جاء المساء وتبعه الليل
وعيناك قرب السراج جامدتان جمود من يتأمل جثة
فأشعر بأن شيئا فيك أمسى جثة
لقد استسلمت لجمال المساء فطعنك المساء بسكين منه سري يقطر دما وظلاما
أخضعت نفسك لسحر الغروب ولم تحرصي على قلبك
أما الآن وقد فرطت به فاحرصي على الجرح المنفتح فيه
احرصي على جرح قلبك أيتها الفتاة
ذكرى قلعة بعلبك
كتبت في أواخر سنة 1911
معبد للأسرار قام ولكن
صنعه كان أعظم الأسرار
خليل مطران
تحرك القطار صباحا في محطة بيروت وهو يهدر ويزمجر ويقذف دخانا كثيفا أثقل الهواء وترامى على صفحة الأمواج فعكر صفاءها. وما فتئ زئيره الهائل كزئير الأسود يتردد في جوانب الفضاء حتى كاد الصدى منه ينتهي إلى أخربة بعلبك هامسا «لقد سبقت الآخرين لأهزأ بك، يا أشباح البلى، أهزأ بك في نقمتي على أناس يستخدمونني أنا إحدى آيات الاختراع الحديث ليزوروك، أنت رمال الليالي الغاديات وبقايا الأيام الخوالي.»
وما لبث أن أسرع القطار في سيره ملتويا بين الأشجار، وكأن سخطه هدأ تحت قبلات نسيم الجبال فخف زئيره، وتدرج متسلقا أكتاف لبنان يترك محطة ويمر بأخرى حتى وقف في محطة صوفر، وهي أعلى نقطة فوق وادي حمانا، ذلك الوادي الذي قال فيه لامرتين إنه أجمل أودية العالم القديم. هناك تتطوى التلال كالأقمشة الحريرية وتمتد لمداعبة أطراف الجبال المحاذية، تتناسق بينها دوائر أظلتها الأشجار، وتتخللها القرى ذوات المساكن البيضاء متوجة بالقرميد الأحمر. وهناك، هناك على الشاطئ البعيد، ربضت الآكام كأسود تحمي بحرا بسط لديها زرقته الفسيحة وارتفع عند الأفق كمن يستمد من الجو نعمة ما. هذا وبيروت تستوي على شفة البحر استواء المليكة على عرشها.
ثم أخذ القطار ينحدر إلى سهول البقاع وقد قامت على جانبيها سلسلتا جبال لبنان وانتي لبنان كما تحدق أسوار الدهر بمروج الأبدية. وبعد السير في السهل نحو ثلاث ساعات تراءى لنا في عصارى النهار طيف مدينة «باعال» يحيط بها نطاق سندسي من شجر الفاكهة والحور الرجراج، وتتعالى فوق المنازل منها والحدائق أعمدة هيكل الشمس بقدودها الهيفاء. أعمدة ستة هي كل ما سلم في وسط ذلك التهدم، وكأنها من أبعاد وحشتها تنادي المسافر قائلة: «تعال انظر إلي أي هذا المار، فهل عرفت حزنا أشد من حزني؟»
بقية عظيمة من عظمة بائدة، حيالها أضخم الأشجار أعشاب، ذاك هو شبح الماضي المحاول تخليد الأصنام المعبودة ... وثلوج لبنان التي رأت يوما من مدينة الشمس أبراج العز متعالية في الفضاء، تطل الآن من شاهق «فم الميزاب» و«ظهر القضيب» مستفسرة عن سر هدم المعابد والأبراج.
منذ ألوف الأعوام والثلوج تتراكم على هذه الذرى، فالشمس تشرق ثم تغيب، والصيف يأتي ويذهب الشتاء، وقلعة بعلبك موحشة في عظمتها المحطمة، بينا ثلوج لبنان تطل عليها مستفهمة أي خطب جرى ولكنها لا تفهم. •••
تجسم حزني وجثا عند أعتاب القلعة باكيا. ولست أدري أبكي هناك أسفا على أعجوبة الدهور أم اكتئابا لمشهد درجات أوجدتها هناك يد الغريب.
عند مدخل هذا الهيكل الذي ألقت أسسه شعوب شرقية جاء الأجنبي يضع درجات توصله إلى معابد الشرق القديم. مشهد أفعم نفسي غما كأن هذه الحجارة ثقلت علي لأنها دليل تدخل الغربي في قديمنا وجديدنا، وعنوان طمعه في الاستيلاء على بلادنا. وكان أحرى به أن يتركنا وتراب هياكلنا الغالي دون أن تأتي يده عاملة للترميم والإصلاح، ومدنسة ما قدسته دهور البلايا وعززته بلايا الدهور.
دخلت أمشي الهوينى بين أكوام الأخربة وبقايا الأبنية، بين الأعمدة المطروحة على الحضيض كالعمالقة ورءوس الأسود المتعانقة في تهشمها عناقا أبديا، بين آثار شعب لاحق تختلط بآثار شعب سابق، والتراب يتراكم في كل مكان مجتمعا في الأفاريز المرضضة والنقوش المحفرة. مشيت في عالم مشوه من البدائع الفنية دهشة كيف سطا الزمان عليها، كأنها غابة هاجمتها الزوابع فكسرت منها الأشجار، واقتلعت الأصول، وتركت الأغصان ملقاة على حضيض الهواء.
أين من هذه الضخامة والمتانة قصور عصرنا وصروحه؟! إنها لتخال ألاعيب صبيانية شيدت ساعة فراغ ولهو، فيها الحصى تقوم مقام الحجارة والأشبار منها توازي الأميال.
لقد تألبت الشعوب على هذا الهيكل فهاجمت جدران مجده وخربت بديع معالمه. وحول المسيحيون جانبا منه إلى كنيسة فشادوا المذابح على قوائم معابد الأصنام. ثم انقلبت الكنيسة وما يحيط بها قلعة إسلامية حتى فاجأتها الزلازل فتخلجت منها الأسس وانهارت الجدران، ودكت ذلك العز إغارات الطبيعة بعد أن طغت عليه يد الإنسان.
لكن آثار المجد في بعلبك ظاهرة باقية. والنفس العصرية تقف مترددة بين الهزوء والاحترام أمام معابد آلهة خرافية تضحكنا الآن أسماؤها، وتتعاقب عليها مشاعر جمة من خوف وشفقة وإعجاب وسخرية لتتغلب عليها عاطفة تضم في رحابها قوى النفس جميعا، وهي الشعور بعمق السر العظيم، سر البقاء رغم الفناء ...
وهناك على مرتفع هيكل الشمس تقف أعمدة ستة حاملة إفريزا كأنه تاج مكسر تنحني تحته رءوسها على وهدة عزها المتفتت. وما انحناء تلك الأعمدة إلا رثاء وتأبين، بل هو التأبين الوحيد اللائق بهيكل بعلبك ...
وثلوج لبنان التي تجهل أي خطب جرى تنظر من عل إلى حزن الجماد الدهري، وتود أن تفهم علة انهيار الجدران والأعمدة والأبراج، وأنى لها أن تفهم ... •••
ألا كسروا باليأس الأقلام، وأزيلوا المداد عن الطروس (الصحف)، وأسكتوا الشفاه المتكلمة، وألجموا الأيدي عن التحبير والكتابة.
رائحة الأكفان تفوح لدى هذا التهدم الشامل وتتكشف معاني القبور، وينتشر في الهواء عطر المجامر وتعقد غيوم البخور، وتعود الأيادي القديمة إلى نحر تلك الضحايا والقرابين على أنصاب لاشتها يد الدهور.
كسروا الأقلام ومزقوا الطروس، إنما هذا موقف لا تأبين فيه بغير حزن الجماد ولوعة النفوس.
أحزن الجماد، لا زلت للأفئدة مفطرا ما طرحت عبر الزمان الجبابرة على حضيض الهوان! ألوعة النفوس، لا زلت لاذعة ما بترت سلسلة الآجال واعتلت حركة القلوب! أآثار الحياة، لا زلت عالية كآمال المنى وسواد العيون ما ذوت الآمال بالمتأمل وما بيض سواد الموت سواد العيون! أأعمدة بعلبك، لا زلت مهشمة، صامتة، منحنية ، كئيبة ما سعى دبيب المنى في زوايا المهج وتمايلت أشباح الآلام والأوجاع طي القلوب والصدور!
إذا هزأ الدهر بهذه الجدران المنيعة، فماذا أنتم من الدهر منتظرون؟ إذا مرت قدم الدهر على هذه المتانة الحصينة فهرستها هرسا، فماذا تعني بعد ذلك حركة قصبتكم الضئيلة ونقش طروسكم البالية؟ أين من المسافة موضعها وما هو من الخلود نصيبها؟
ضموا إلى شفاهكم الأقلام وإلى قلوبكم الطروس، دعوها تنطق يأسا وحبا باسم قلعة بعلبك. ثم حطموها وإن عزت، ومزقوها وإن كانت شطرا من الأرواح.
الزمان يتابع المسير فويلا لتربة تدوسها قدمه! هناك تزلزل الزلازل، وتهدم السدود، وتطغى البحار، وهناك يشعر الإنسان بأنه عبد لحظات الأقدار وأنه لا يعرف من أسرار الأرض غير اسوداد الليل وابيضاض النهار ...
قتل النفوس
أبريل سنة 1913
رأيتها تنظر إلى الأشجار بعينين كئيبتين، وشفتاها مطبقتان كأن قبلة الأسف طبعت عليهما. كانت لي رفيقة في الصغر: تعلمنا شهورا في مدرسة واحدة، ودرسنا أمثولة واحدة، وسمعنا إرشادا واحدا، وكبرنا فكانت تلك العلاقة الواهية متينة بيننا.
قلت: «ما لي أراك حزينة؟»
قالت: «يحزنني الربيع.»
قلت: «أخبريني ما بك!»
قالت: «يحزنني الربيع، يحزنني أن أرى مواكبه الجميلة تسير في الفضاء فلا يراه البشر إلا من كوى ضيقة نقبت في الجدران الحديدية التي أقامها المجتمع حول الأرواح. ويحزنني ألا أكون مستقلة بكوتي وأن يكون للآخرين حقوق عليها يفتحونها ويغلقونها كيفما شاءوا لا مثلما أريد.»
قلت: «ماذا يحزنك؟»
قالت: «يحزنني الربيع، تحزنني هذه الأزهار الزرقاء والصفراء والحمراء. إنها تنور على أطراف الأغصان وتبرز جمالها وسط جمال الكون. إنها تستنشق الهواء بكل ما فيها من قابلية وتتمتع بالحياة بكل ما فيها من استعداد، فلماذا قدر على بني الإنسان أن يكونوا دون النبات حرية؟!»
قلت: «قولي لي سبب حزنك.»
قالت: «مسألة تافهة أعادت إلي التأمل في هذا الصباح كما نبهته في قبل الآن. لي شقيقة تقطن الإسكندرية مع زوجها، ولي بها ولها بي ولع عظيم، فنتكاتب مرة في الأسبوع. على أن تمر رسائلها تحت نظر والدي ووالدتي وأخي وأختي وأخي الأصغر حتى تنتهي إلي بالتالي؛ لأنني أحدث أفراد العائلة سنا. ولا يلقى خطابي إليها في صندوق البريد إلا بعد أن يطلع عليه وينتقده ذوي. مع أن مراسلتنا عادية ساذجة، لا أهمية لها إلا بكونها جزءا من حياتنا، وليس لدي من سر أخفيه، ولكني أريد أن أحفظ حقي في أن يكون لدي أسرار. وهذه المعاملة تعذبني منذ شهور لأنها تنم عن ضعف ثقتهم بي وأنا لم أفعل قط ما يستوجب سوء الظن. وصرت أتألم كلما وردت إلي رسالة لأنها تذكرني بأن في بيتنا قلم مراقبة منظما.»
ورفعت رأسها ناظرة إلى الزهرات الفرحة بأنفاس الربيع وأرسلت زفرة عميقة، ثم قالت: «معاملة كهذه تحملني على الشك في صلاحي وكرامتي. وقد يدفعني الغيظ والكبرياء إلى فعل ما لا أفعله لو كان لأهلي بي ثقة. النبات حر فلماذا لا يكون الناس أحرارا؟!»
مسألة تافهة في ذاتها. ولكنها تتكرر بين الوالدين والأبناء فتفضي إلى أحد اثنين: التمرد أو العبودية وكلاهما سيئ، بل العبودية وحدها ممقوتة والتمرد نبيل في الغالب يدل على القوة والحياة. ولكن كثيرا هم الأبناء الذين يجدون ضغط الوالدين على حريتهم أمرا طبيعيا فلا يتألمون؛ لأن نفوسهم عقيمة قاحلة لا ينمو فيها غير الشوك والعوسج.
يتألف التهذيب من أعمال وحركات متتابعة مدة أعوام بين الآباء والأبناء، كما يتركب تمرين الأعضاء من حركات مستطردة يأتيها الفرد في أوقات معينة فتكسبه خفة ورشاقة وانتظاما.
وإن لم يروض المرء أعضاءه ضعفت وأمست ضخمة الشكل بطيئة الحركة، وقد يذهب به الجمود إلى فقد الصحة، فما الخلل الذي نراه الآن في تربيتنا إلا نتيجة جمود الأعضاء المعنوية من نشء الأجيال الماضية؛ ولأننا جميعا عبيد الجهل المقيم والضغط القديم.
لماذا تراقب مراسلات الفتيات؟ سمعت عن رجل ينهى شقيقته عن مراسلة صديقة لها؛ خوفا من أن يطلع أخوها على تلك الرسائل، ثم اتصل بي أن ذلك الرجل يظن نفسه حرا أبيا (؟!) يقضي ليله وشقيقته هذه حول طاولة البوكر مع شبان آخرين وفتيات أخريات، ورأيته وإياها يحتسيان الجعة في حانة يتصاعد في جوانبها لهاث السكارى، ورأيته فيما بعد داخلا بها عارية النحر والذراعين إلى المرقص لتنتقل على وفق الإيقاعات الموسيقية من يد رجل إلى يد آخر، فضلا عما يجيزه «تمديننا» الحديث من مداعبة كلامية يسميها الغربيون «فلورت» ويستعملها كثيرون منا دون أن يحاولوا إيجاد اسم لها.
فكيف نوفق بين النقيضين؟ بين التساهل في قبول العادات الأوروبية المتفشية بيننا وبين الاستعباد الشرقي الراكد في مستنقعات نفوسنا؟ إن هذا الخلل في توازن التربية يعذب الشبيبة ويجعلها أليفة الحيرة والتردد جاهلة بهما قيمة الحياة. إنما الحياة في قيمة ننسبها إليها، فكيف نهتدي إلى قيمة الحياة التي لا تبرز إلا للمنتبه المتيقظ الواثق من حريته في القول والعمل، كيف نهتدي إليها في هذا التناقض المبين؛ تناقض الضغط الشديد والتهور المجازف؟ •••
إنما التربية ترمي إلى غاية واحدة هي توسيع دائرة الحياة وتأهيل الفرد للسير بحذق والتصرف باعتدال بين تشعب الشئون مستخرجا وسائل السعادة والفائدة مما يحيط به، فإن لم تكن هذه الغاية نصب عيون الوالدين ولم تثقف الناشئة على مبادئ التهذيب القويم فقدت آمالنا بالمستقبل القريب. وأول قواعد التهذيب معرفة الواجب، وشرط معرفة الواجب الشعور بالحرية.
أقول الحرية وأعنيها، وهي ليست الإباحية كما يزعم كثيرون، والفرق بينهما أن للواحدة حدودا تهدمها الأخرى وتتجاوزها.
على الوالدين أن يقوموا بما عليهم نحو الأبناء ثم فليتركوهم وشأنهم يأتون ما يميلون إليه، والضمير الحي يراقبهم والخلق القويم يحميهم، فإن جاء عملهم بخير كان فيه تعزية وتشجيع على المثابرة والإقدام، وإن جاء بشر كان أمثولة مفيدة ومادة اختبار ينتفع بها في الكوارث والرزايا المالئة سبل العمر.
كل امرئ يحيا حياته وعليه أن يجد طريقه بين متشعب المسالك، وهو مسئول عن كل عمل يأتيه ويتحمل نتائجه؛ إن فائدة وإن أذى، فالفتاة التي اعتادت الانقياد لآراء والديها وعجزت عن إتيان عمل فردي تدفعها إليه إرادتها بالاشتراك مع ضميرها، ما هي إلا عبدة قد تصير في المستقبل «والدة»، ولكنها لا تصير «أما» وإن دعاها أبناؤها بهذا الاسم؛ لأن في «الأمومة» معنى رفيعا يسمو بالمرأة إلى الإشراف على النفوس والأفكار، والعبدة لا تربي إلا عبيدا. ولا خير في رجال ليس لهم من الرجولة غير ما يدعون، إن هم سادوا فعلوا بالقوة الوحشية، وهي مظهر من مظاهر العبودية. أولئك سوف يكونون أبدا أسرى الأهواء وعبيد الصغائر الهابطة بهم إلى حيث لا يعلمون، إلى الفناء المعنوي، إلى الموت في الحياة.
تربيتنا الناقصة جعلتنا نسيء الظن في كل شخص وفي كل أمر. ريح سموم تهب على المجتمع فتصبغ الجو وما يحويه بلون قاتم خبيث. ولو أنصف الناس لحكموا على بعضهم بعدل وصدق فأراحوا واستراحوا. الخير أصل في الحياة وليس الشر شرا إلا لأننا أشرار، ولا ظلام حولنا إلا الظلام المنبثق من شكوكنا وأحزاننا ومطامعنا.
احتياجنا شديد إلى مثل هذه الكلمة «ثقوا بالإنسان!»
أما جاءكم خبر ذلك العالم الألماني الذي كان يدفع إلى ابنته البالغة من العمر 16 سنة رسائلها مختومة، ولما لامه أحد أصدقائه أجاب: «ثقتي بالفطرة النسائية عظيمة. لا أقرأ رسائل ابنتي بل أعرض عليها رسائلي، وعوضا عن أن أشحن دماغها بآرائي ونصائحي التي قد لا تتفق مع ظروف حياتها أسألها رأيها في كل ما يشكل علي من الأمور؛ فالمرأة أوفر من الرجل نبلا؛ لأنها أقرب منه إلى سرائر الأحوال وقلب الأشياء.»
مع هذا الرجل الحكيم أقول: «ثقوا بجوهر المرأة، ثقوا بابنة اليوم تجدوا أبناء الغد أهلا للثقة.»
رسائلنا اليوم وبالأمس
1915
بعض الأوامر السلطانية تستوقف نظر الأديب برشيق أسلوبها وبليغ إيجازها، منها الأمر الذي صدر بتعيين صاحب العزة محمود فخري بك
1
أمينا أول لعظمة السلطان. وما دامت سراي عابدين تهتم بأساليب الإنشاء فحق لمحبي الأدب أن يرجوا. ولو كنت رجلا وجاز لي البحث فيما يختص بالرجال لتمنيت لدواوين الحكومة أن تحذو حذو السراي السلطانية فتتوب عن اللغة والأسلوب السقيمين المستعملين في أوامرها ومراسلتها.
أسمعك مزمجرا يا سيدي الرقيب، وقد اقترب قلمك من جملتي هذه يقصد الفتك بها، فأصغ إلي غير مأمور، لا أنت جندي ألماني ولا أنا جندي فرنسوي، ولا هذه الصفحة كنيسة ريمس؛ فكن حليما ولا تحذف منها شيئا. ثم أرجو أن تذكر أني بدأت تلك الجملة بكلمة «لو»، وهل أنت من يخفى عليه قول الفرنسيس بإمكان وضع باريس في زجاجة إذا ما استعملت كلمة «لو»؟ ولا أظنك محتجا على وضع باريس في زجاجة، على شريطة أن تكون الزجاجة غير ألمانية تملأ بالغازات السامة. وإني لموافقة على ذلك. وكل هذا الكلام أقوله لأنسيك شطب تلك الجملة الأثيمة، أنساكها الله! •••
لقد تحسن فن الإنشاء في أيامنا، بالأمس كانوا يكتبون طويلا دون أن يقولوا شيئا؛ إذ لم يكن معظم الرسائل غير استعارات محفوظة وأسجاع مرصوصة، فبعد «غب الشوق» الأصولية كان مراسلك يبعث إليك «بسلام، لو كان ذا أجسام لملأ الأرض بالتمام» دون أن يترك للأرض هامشا! و«بتحيات أزكى من النعامى (أو من «نفس النعامى» لا أدري) بين ورق الخزامى.» كذلك يبدأ الخطاب بالسلام والتحيات والأشواق ويختمه بالأشواق والتحيات والسلام.
أما الآن فأخذنا نكتب لنعبر عن شيء نريد أن يفهمه من نخاطب، فإذا اطلعت على رسالة تيسر لك الحكم على ذوق كاتبها ومعارفه ودرجة تربيته ومكانته الاجتماعية، فأخذ ينطبق علينا مبدأ «الإنشاء هو الشخص».
غير أن أهل الذوق وجدوا في كل آن وزمان. وبينما كان المجموع يملأ صحيفة الرسالة بالمبالغة والإغراق كانت الخاصة تكتب كتابة الإيجاز والبلاغة. كل منا يعرف رسالة المتنبي إلى صديق كان يعوده في مرضه فانقطع عنه بعد الشفاء فكتب إليه المتنبي يقول: «وصلتني - وصلك الله - معتلا، وقطعتني مبلا، فإن رأيت أن تحبب العلة إلي ولا تكدر الصحة علي، فعلت إن شاء الله.»
وتحسب هذه الكلمة من بدائع الإنشاء.
لقد كان خاصة العرب أهل ذوق وكفاءة، فأحرى بنا الاحتفاظ بجميل الموروث بينا نثقف أفكارنا وأقلامنا على نافع المكتسب.
بين الدكتور شميل والكاتب الأمريكي
1915
منذ شهرين تقريبا نشر الدكتور شبلي شميل رسالته إلى العالم الألماني هكل، باللغة الفرنساوية، وأردت أن أعرف رأي الأجانب في الرسالة ومؤلفها، فبعثت بها إلى كاتب أمريكاني زار مصر وأحب وادينا حبا جما، وشفعت الرسالة بتفاصيل عن الدكتور وأطواره الغريبة التي تجعل له شخصيتين تكاد الواحدة منهما تناقض الأخرى، وأخبرته أن الدكتور شميل غاضب على الأمريكان؛ لأنهم لا يساعدون الحلفاء على دحر ألمانيا، وأنه يقول عنهم إنهم أنانيون، فجاء الجواب وها أنا أنشره ضاحكة؛ لأنه يهمني كثيرا أن يتخاصم الرجلان وهما على مسافة ستة آلاف ميل بين الواحد والآخر:
قرأت باهتمام ما كتبته عن الدكتور شميل ورسالته إلى هكل، وسأبعث بنسخة من هذه الرسالة إلى المستر روزفلت.
يسرني وجود رجل كالدكتور شميل في الشرق؛ لأن هذا الرجل لازم لهدم الأفكار القديمة التي يتقبلها الناس بلا بحث ولا جدال، كأن ليس لأفكارهم أهمية إلا بقدمها. أفكار يزيد في ثقلها صدأ الأجيال ويحاول حفظها التعصب الذي يحيط بها بقوة ودقة كأنه نسج العنكبوت، فأمثال الدكتور شميل يمزقون خيوط العنكبوت ويبيدون الصدأ وقاعدته دفعة واحدة، ولا بأس من هيجان المجموع لهذه الفوضى، فهياجه ضروري بل لا بد منه. أمثال الدكتور هم العنصر الهادم ما في الجمعيات والأديان من الغلو والإفراط، وهم فاتحو الطريق للذين سيقيمون أسسا جديدة ملائمة لمطالب العصر ومعارفه. والآخرون لا يتمكنون من العمل إلا إذا عمل قبلهم الأولون.
تعجبين لماذا لا يشيد الدكتور شميل أثرا مكان الأثر الذي يهدمه، لكن لا عجب في ذلك؛ اذكري ديكارت تعلمي أن الأمرين لا يطلبان من رجل واحد، فالطبيعة وحدها مدمرة معمرة.
أما ما في أخلاق فيلسوفكم من التناقض فلا بد أنه راجع إلى الوراثة، نام بالظروف. لا بد أن يكون الدكتور عنيف الطبع حاد المزاج، ولهذا الخلق جماله. على أني أحب الخلق الهادئ الذي يترك الآخرين يتخاصمون حتى إذا ما سمع ما يقولونه من الحقائق والخرافات أعرض عن التافه من أقوالهم وتمسك بالصواب، فلا يتحول عنه، بل كلما مرت الأيام زاد به ثقة وحبا.
لا أدري لماذا يقول الدكتور شميل إن الأمريكيين أنانيون. هل عرف حضرته بعض أبناء وطني فحكم على أمة لأجل أفراد، أم هي فكرة تناقلتها الألسن والأقلام فأثرت في فكره؟
ما هي البينات التي تقنعه بأن الأمريكان أكثر أنانية من غيرهم؟ أود أن أسأله إذا حلت على العالم الويلات فمن يسارع إلى المساعدة قبلنا، ومن يفتح قلبه وكيسه قبل أبناء أمريكا؟ كم من الملايين أرسلت إلى الحلفاء في هذه الحرب الطاحنة؟ غذاء بلجيكا وكساؤها يذهبان من وراء البحار وأمريكا ترسل إليها 36 مليونا شهريا. بعض السيدات من أجمل نساء أمريكا تركن أزواجهن وأولادهن وذهبن لمعالجة الجرحى في ميدان القتال. الرجل الأمريكي أحسن زوج في نظر الفتاة الإنجليزية، لا لأنه أناني؛ بل لأنه يحترم المرأة ويعترف بمواهبها العالية ويعاملها المعاملة التي تستحقها رقتها وسمو عواطفها. أعظم المستشفيات في باريس أمريكية وينفق عليها من ثروات أمريكية فردية. قد يرى الدكتور شميل في كل هذا أنانية، ولكنها أنانية كريمة جميلة.
العالم الجديد جديد في كل شيء؛ اختباره واعتقاده وعمله وأسلوبه وحريته، ولكن ليس فيه الأنانية التي تظنون.
تضحكين من أمريكا لأنها تبعث باحتياجاتها يمنة ويسرة. وأنا أضحك. صحيح إني لا أريد أن أكون في موقف الدكتور ولسن في هذه الأيام. إن هذا الرجل المسكين لا يدري على أي رجل يرقص بين عشرة ملايين من الأمريكان الألمان المحتجين في أذنه اليمنى، وباقي ملايين الأمة المحتجة في أذنه اليسرى، هذا مع حالة المكسيك الحاضرة التي تكاد تشتعل اشتعالا.
أمريكا رغما عن شعبها الألماني الأصل تجاهر بميلها إلى الحلفاء بلا خوف ولا تردد، لا أعني الحكومة بل الشعب. هناك أمر لا يحتمله أمريكاني حر ربي على فكر الحرية وشرب لبنها كما شربه من قبله آباؤه، وهو مهاجمة بلجيكا وغزوتها. هذا لن نغفره لألمانيا قط.
قولي هذا للدكتور شميل إذا شئت، واسأليه ألا يصدق كل ما يكتبه عنا كتاب فرنسا وإنجلترا، كما أني لا أصدق شيئا مما يكتب عن الشرق والشرقيين. قولي له ذلك واهديه احترامي.
ها أنا قلت ذلك للدكتور وأهديتك احترامه مشفوعا باحترامي، يا سيدي الدكتور. أفعل ذلك مترقبة بعض صواعقك عربية كانت أم فرنجية، فقد أوحشتنا كثيرا نارها العذبة.
الأفكار القديمة ومراسل الآنسة مي
نقلت جريدة «الأخبار» فقرة من هذه الرسالة، فأرسل أحد القراء إلى الجريدة الاعتراض التالي:
مكاتب حضرة الآنسة مي الذي نشرت الأخبار شيئا من كلامه نقلا عن المحروسة. لا نعرف منه سوى أنه «مسرور من وجود مثل الدكتور شميل في الشرق؛ لأن هذا الرجل لازم لهدم الأفكار القديمة التي يتقبلها الناس بلا بحث ولا جدال ... إلخ»، فنهنئ حضرة الدكتور بهذه الحظوة، ولكنا نأخذ على حضرة الكاتب خوضه في مثل هذا الموضوع الخطير بكلام خيالي شعري هو من الإبهام بحيث لا يفيد إلا التضليل وامتهان النفس بأشرف عاطفة فيها.
تدل القرائن على أن حضرة الكاتب يريد «بالأفكار القديمة» العقائد الدينية كالإيمان بإله كامل سرمدي ... إلخ، مثلا مما تخضع له العقول على سموه وعجزها عن فهم كنهه، فمثل هذه الأفكار - على قدميتها - ثابت على أقوى الأسس والبراهين التي طالما احتك بها المتفلسفون وصقلتها الأجيال فلم تزدها إلا إرهاقا.
وإنا - وايم الحق - لنستغرب من الكاتب امتعاضه من تلك «الأفكار» ورميه ذويها بالجهل والتعاسة، وافتتانه بالآراء الحديثة وادعاءه لها أرجحية الثبوت والوضوح. ونحن نرى العلماء يتنازعون فيها ولا يزالون ينقضون اليوم ما بنوا أمس، على حين نراهم هم أنفسهم يزدادون كل يوم تمسكا بتلك الأفكار التي يدعوها حضرة الكاتب قديمة، ويجاهرون مفاخرين بتمسكهم بها كنيوتون وأراجو وباستور وأمبير وغيرهم كثيرون ممن يحسبون أئمة في العلوم.
وإنا لندهش من أن مراسل الآنسة مي يحرم نفسه الآن لذة التمتع بمشاهدة ما تتجلى به الأفكار الحديثة من مظاهر الرقي وتهذيب الطباع وتلطيف الهمجية القديمة باستعمال الغازات السامة وطرق القرصنة وأساليب صب البلاء على الأبرياء والضعفاء، فضلا عما أفادت الألمان - وهم أخص مروجيها ودعاتها - من القدرة التي سمت بهم إلى قتل الأسرى والفتك بالأحداث والشيوخ والنساء.
فأحرى بالكاتب الغيور أن يذهب إلى ميادين القتال هناك ويساعد الألمان في هدم معاهد تلك الأفكار القديمة ومعاقل تلك المعتقدات الدينية التي أثقلها صدى الأجيال كريمس وشقيقاتها. ولا يخفى أن المجال هناك رحب لغيرته، فهذه «الأفكار القديمة» تتجلى الآن بأبهى مظاهرها في فرنسا في الخنادق والمعابد والمعاهد والمعسكرات؛ حيث تقام الشعائر الدينية ويجهر الجميع بالصلاة. ولم يفت أصدقاء الكاتب في مصر الوقوف على شيء من مظاهر هذه الأفكار في وفاة ومشهد الجندي لروى ومن كلام الكولونيل موكور الذي أبنه بألطف كلام وسكب على جراح ذويه بلسم التعزية بذكر وفاته المسيحية متزودا الأسرار المقدسة.
ويحسن في هذا الصدد أن نذكر ما نقل عن العلامة الإفرنسي الشهير إميل أماجات الذي خسرته العلوم ونعتته فرنسا إلى العالم حديثا، وهو أحد أعضاء الجمعية العلمية في باريس والجمعية الملكية في لندن، له المباحث الخطيرة والاكتشافات النافعة في كثير من فروع العلوم الطبيعية، فهذا الفقيد لما اشتدت عليه وطأة المرض استدعى الكاهن وقال له: «طلبتك لتؤهلني للحضور أمام الله. أموت مؤمنا بكل ما تعتقد به الكنيسة الكاثوليكية ... قد كان لي ديني راية، يعلم الله أني ما دنستها بما يشين لأجل مجد أو مقام.»
أفلا يخجل حضرة الكاتب من امتهانه الأفكار القديمة والعقائد الدينية ورميه بالجهل الناس الذين يقبلونها بلا بحث ولا جدال. وهو يرى أمثال إميل أماجات متمسكين بها منتمين بكل افتخار إلى الكنيسة التي تعلمها؟
ب. ر.
إلى حضرة ب. ر.
1915
أشكر لحضرة معترض جريدة «الأخبار» اهتمامه بما نقلت عن الكاتب الأمريكي. وما كنت لأزعجه بجوابي هذا لولا أني شعرت في رده بشيء من سوء التفاهم بيننا؛ فإما أن تكون «الأخبار» نسيت سهوا نقل الجملة كما هي فأستأذنها بالإشارة إلى ذلك. وإما أن أكون أسأت التعريب - وهذا هو الأصح - فوجب علي الإصلاح قدر المستطاع.
لست بمناقشة؛ لأني يوم عربت رسالة الكاتب الأجنبي لم أكن ناشرة إلا رأيه دون رأيي، ولا أنا بمعترضة على قول حضرة ب. ر أن الكاتب أخطأ إذ خاض في الموضوع «بكلام خيالي شعري»؛ أولا: لأن الرجل ليس شاعرا. ثانيا: لأني أضطر آنئذ أن أذكر حضرة ب. ر أن التوراة والإنجيل الشريفين مكتوبان بأسلوب شعري خيالي، ففي التوراة يفيض الشعر فيضانا جميلا من مزامير داود إلى نشيد سليمان، إلى سفر أيوب، إلى نواح أرميا. وأما الإنجيل فمملوء بالرموز والإشارات، كما أنه مملوء بالتعاليم العالية المؤدية إلى الكمال الأسمى. والسيد المسيح نفسه قال إنه يتكلم بالرموز ويضرب الأمثال.
على أني أستأذن حضرته بإلفاته إلى قول الكاتب الأجنبي أن «أمثاله (الدكتور شميل) يهدمون ما في الأديان والجمعيات من الغلو والإفراط.» هذا صريح لا يحتمل تدليلا، فهل «الغلو والإفراط» يعنيان الإيمان بإله أزلي سرمدي؟ كلا، إن هذه الفكرة العظيمة أم العقائد الدينية وغير الدينية جميعا. إنها ملازمة لفكرة الخليقة ملازمة لا تقبل انفصالا. وسواء دعيت تلك العناية المثلى «هو وهي» كما يدعوها الإسرائيليون القدماء، أم الله، أم الطبيعة، فهي هي، وما كان البشر إلا معددين لها الأسماء والألقاب. «وأصدقاء» الكاتب الأجنبي يؤكدون لحضرة ب. ر أن الرجل مؤمن بالله، فلماذا لا يكون «الغلو والإفراط» في التجاء امرأة ضاع منها منديلها مثلا، إلى القديس أنطونيوس تستحلفه بأمه وأبيه أن ينزع منديلها من أيدي الشياطين ويضعه في جيبها مباشرة، وذلك بمقابل بخور بكذا قروش تهديه إليه في الغد؟ ولماذا لا يكون «الغلو والإفراط» في التجاء السيدات المسلمات إلى «الزار» والمشعوذين؟ ولماذا لا يكون «الغلو والإفراط» في حرق المرأة الحية قرب زوجها الميت عند الهنود؟
أظن أن مثل هذه الاعتقادات الصبيانية والعادات الفظيعة تستحق نعت «الغلو والإفراط».
بعد خطة الدفاع يتخذ حضرة ب. ر خطة الهجوم، فينتقل دفعة واحدة من الدين إلى الحرب. وأعترف بأن هذا الهجوم الفجائي يدهشني بعض الدهشة، وهو يعلم ألا دخل للدين في حروبنا اليوم. نعم إنهم يفتتحون الحرب باسم الله، وينادونه إلى الأخذ بيدهم، ويملقونه - وهو الرفيع عن كل تملق - قائلين: أنت إلهنا وأنت معنا. حتى إذا ما أفنوا حياة سمح بأن تكون، وهدموا ديارا سمح بأن تشاد، ومزقوا أجسادا وسحقوا قلوبا عادوا إلى كنائسهم ومعابدهم، وجثوا أمام الإله العظيم إله الرحمة والحب والإشفاق، وأنشدوا: «إياك اللهم نعظم»! إن الأديان لتبرأ من فظائع الحروب ولا تجوز إلا الدفاع عن الوطن إذا هاجمه الأعداء. ولكن جميع النفوس لا تفهم الأديان كما هي، بل كل منا يفهم دينه حسب درجة عقله وميول قلبه. ولا يقتصر البشر على الإيمان بالعقائد الدينية الأساسية، بل يتعصبون لاعتقادات أخرى إضافية لم تكن إلا اختراع التعصب والجهل. وكثيرا ما يستفيد رؤساء الشعب والحكومات من هذا التعصب فيشهرون الحروب، ويقودون الشعب المسكين إلى حيث لا أثر للدين، ولا منفعة لغير السياسة.
فإن استعمل الألمان وسواهم العلم وبذلوا كل ما لديهم من معرفة وحيلة في سبيل قهر أعدائهم، فهل هذا يعيب العلم؟ الطب عائد بالخير على الإنسانية، فهل إذا دس طبيب لعليله السم لغرض من الأغراض فسدت منفعة الطب ووجب علينا أن نحسبه من حيث طبيعته شرا؟ هذا العلم الذي هو آلة شر وفناء في يد ألمانيا وغيرها الآن كان وما زال آلة خير وحياة في يد ألوف من الأفراد وعشرات من الشعوب؛ لذلك لا يتحتم أن يكون المؤمن جاهلا، فالدين شيء والعلم شيء آخر. الدين مهذب شخصيتنا المعنوية والعلم ضرورة من ضروريات حياتنا. هذا للزمان وذاك للأبدية، وليس لأحدهما أن يلاشي الآخر.
يختم حضرة ب. ر مقاله كمن يتساءل ألا يخجل الكاتب لأنه لا يعتقد اعتقاد إميل أماجات؟ لست أدري، يا سيدي؛ لأني لم أسأله بعد، ولكني أعتقد أن الدين علاقة سرية بين الخالق والمخلوق، أعتقد أن كل امرئ يلاقي نتيجة أفعاله ولا يتحملها عنه أحد، أعتقد أن الله منح البشر حريتهم - اسمح لي أن أذكر الحرية بلهجة غير لاهوتية - فعلى كل أن يرى وجهة الخير أمامه، ويعبد ربه ويخدمه كيفما شاء، ما دام الله سامحا بذلك، لماذا لا يسمح به الناس؟
أما الدكتور شميل الذي تفضلت وهنأته «بهذه الحظوة»، فلست أعرف كيف تقبلها، وإذا كان إعجاب رجل أجنبي أو شرقي يهمه كثيرا. ولكني أعرف أن اسمه من الأسماء التي سيفتخر بها الشرقيون دواما، سواء أكانوا مؤمنين أو ملحدين. لم يكتب ضد الدين أحد أكثر من فولتير، ورغم ذلك فمقامه الأدبي محفوظ حتى لدى المتدينين، ويفاخر أبناء فرنسا بأن ينعتوا لغتهم باسمه فيقولون عنها «لغة فولتير».
سلام الله يا مطر عليك
1916
قلبت الشطر وغيرت منه المعنى لأنصفك، يا مطر الجو، وأثأر لك من الشاعر العربي. وسواء أعناك في شعره أم عنى رسولا اسمه «مطر»، أم جعل الكلمة الواحدة في الشطرين تعنيك مرة وتعني الرسول أخرى، فأنت يا مطر الغيوم مظلوم. وما أظلم الشعراء يوم لا يرحمون!
وما ذنبك أنت المنفعل وإن خلناك فاعلا، ما ذنبك إذا امتصتك الشمس من البحر بخارا، وعقدتك في الجو سحابا، ثم تفجرت السحب وتدفقت سيولا تروي السنابل والأشجار، وتذبل الأنبتة والأزهار حينا في انتظار ربيع يحبوها من جديد بنضرة الشباب وسحر الحياة؟
وما ذنبك إذا أبطأ الرسول مطر في رسالته، فلعل له في طريقه ليلى تحدثه؟ وما ذنبك أن لم يعد مطر الرسول إلى الشاعر بجواب مرضي من ليلاه؟ وهب أنك هطلت قبيل اجتماعهما المنتظر فكنت بينهما حائلا، فما ذنبك؟
سخط الشاعر وسبك بالأوزان والأسجاع على نحو ما يكون سباب الشعراء، ولكنه إذا كان شاعرا صميما فما يلبث أن يهدأ سخطه، ويفكر في شعوب جائعة تنتظر منك إرواء غليلها وضمانة قوتها.
ولكن لعل الشاعر كان مصريا فما استطاع أن يرى فيك ما تراه شعوب ليس في ديارها نيل كريم يفيض بدموع الآلهة فيغنيها عن منافعك وأضرارك؟
يحق لبعض المصريين، من جانب آخر، أن يقروا الشاعر القديم في قوله: «وليس عليك يا مطر السلام»، يحق لهم ذلك إذا ما رأوا الأحياء غير الأوروبية في هذه المدينة. والأحياء الأوروبية وغير الأوروبية من الأمور التي تسوسها مصلحة التنظيم. ومصلحة التنظيم - كما تعلم أو كما لا تعلم أيها المطر - دائرة من دوائر الحكومة، فإذا ذكرناها بغير الثناء والتعظيم والتبجيل كان نصيبنا منها نصيبك من شاعر ليلى على الأقل!
بين الأدب والصحافة
1916
تساءل مستر برسي هوايت في إحدى محاضراته الأخيرة بالجامعة المصرية: هل الأدب والصحافة واحد؟ وما لبث أن أجاب نفسه قائلا: «كلا ليسا واحدا. قد تلامس الصحافة الراقية، في بعض موضوعاتها، المعاني الأدبية العالية فتوسم بوسمها وتؤثر تأثيرها، لكن الصحافة، بوجه الإجمال، تختلف عن الأدب من حيث الغرض والمرمى والتأثير.»
بينما كان الأستاذ يبسط رأيه كنت أضاحك نفسي قائلة: قد يكون هذا رأيكم أيها الغربيون، لكن الأمر عندنا على غير ما تذكرون؛ عندنا إذا كتب المرء مقالات قليلة في الزراعة مثلا، حاز دفعة واحدة جميع الألقاب الكتابية المدونة في القاموس فأصبح: كاتبا مجيدا، أديبا أريبا، مفكرا مبتكرا، شاعرا فذا، خطيبا مفوها، سياسيا محنكا، عالما علامة وبحرا فهامة. وإذا أردت معرفة ألقابه الأخرى فعليك «بنجعة الرائد» لليازجي (صفحة 2 الباب السادس من الجزء الثاني).
الأدب فن التعبير عن العواطف والميول والتأثيرات نثرا ونظما، فالشعر فرع من الأدب. والشرط الجوهري للكاتب الأدبي هو أن يكون ذا إحساس قوي يتأثر بجميع الحوادث، فإذا نقص هذا الشرط تلاشى الكاتب الأدبي.
وكيف يؤثر من لا يكون متأثرا! ألا إن الذكاء يتعب، والعلم يعذب، والحرية الفكرية تقلق النفس. ولئن عرفت كيف تضرب على أبواب القلوب سمعت الجواب دوما، تجاوبك الدموع؛ دموع التعزية في الغالب، ودموع الألم أبدا.
أما الصحافة ففي نشر الأخبار السياسية والاجتماعية والعلمية والأدبية، فهي إذن مختلفة عن الأدب كل الاختلاف. إذا احتاج الأديب إلى شعور قوي فلا حاجة للصحافي إلى ذلك، وما عليه سوى نقل الأنباء التلغرافية ونشر الحوادث المحلية، فإذا فعل أجاد وكان عند ربه وعند الناس مرضيا.
على أن خدمات الصحافة جليلات ولا غنى لأمة متمدنة عنها. ولصحافتنا العربية مزية خاصة في هذا العصر بكونها لسان حال الأدباء والعلماء والمفكرين والمتشرعين. كتب العلم والأدب قليلة عندنا؛ لأن علماءنا وأدباءنا قليلون. وقد ندر بينهم من استطاع تأليف كتاب والإجادة التي هي شرط الإفادة. أما معظم الكتب المتداولة بين أيدينا فمنقول عن اللغات الأجنبية، وإذا كان لنا منها فائدة فهي، على كل حال، لم تكتب لنا ولم تلاحظ أحوالنا ووراثتنا وأخلاقنا في تأليفها. ولا يستطيع الإتيان بذلك إلا كاتب منا؛ لأن الكاتب الأجنبي لا يفهم طبيعتنا الشرقية تماما مهما عاش بيننا، وهو ذو طبيعة متباينة؛ فلا بد من المقابلة بينه وبيننا في كل أمر. وهو لا ينظر إلينا إلا بعين الغرب للشرق؛ أي بعين الاستفهام الدائم، بعين الاستغراب والاستحسان اللذين يتجاذبانه أمام كل حركة من حركاتنا.
ويجيد كتابنا في بعض المقالات المنشورة في الصحف السيارة. يجيدون في تشخيص الداء وفي الإرشاد إلى الدواء، فنرى أحيانا بين التلغرافات والحوادث المحلية سطورا أدبية ملؤها الشعور الصادق والاختبار والمعرفة. وهذا فضل يضيفه الصحافيون إلى أفضالهم الكثيرة، فإن لم يكن الشعور ضروريا للقيام بواجباتهم، فهم يعرفون كيف يستعملونه ومتى يظهرونه.
أصبح الصحافيون زمرة قوية تخشاها الأرض ومن عليها، فهم ينتقدون القوانين، ويحاجون الحكومات، ويسنون أوامرهم للبشر، ويبسطون آراءهم لأولي الحل والعقد حتى إذا شعروا بأن الفكرة التي يبدونها بعيدة عن ذهن القارئ عمدوا إلى أسماء التحبب فدعوه تارة «القارئ اللبيب» وطورا «القارئ الكريم» وحينا «القارئ العزيز» إلى غير ذلك من النعوت الطيبة التي ترضي الجميع، فيقتنع القارئ بأنه لبيب وكريم وعزيز، فعلى كل لبيب كريم عزيز أن يفكر أن ما جاء في المقال هو الحقيقة بعينها.
أكتب هذا وأنا أعض على سبابتي ضاحكة. لا تغضبوا يا سادتي الصحافيون. كلنا معترف بالخير المتدفق من أقلامكم على من يقرأ ومن لا يقرأ جميعا؟ وأشهد باحترام أن وجودكم بيننا عنوان ارتقائنا، أليس كذلك؟ غير أني أريد أن أنصفكم فأقول: لئن كان كل منكم القدرة المجسمة، فإن هناك شخصا أقدر منكم لو اتحدتم جميعا. لا تظنون أن الله هو من أعني، بل هو بطل قلم الرقابة ... هو الرقيب.
موعظة شهر الورود
دنا المساء فهزني طرب الربيع ورغبت في الخروج والتجوال لأشارك الطبيعة في أفراحها. كأني حسبت جدران البيت تقطع الصلة بيني وبينها، وتشعرني بأني محرومة من مشاركة الموجودات الهاتفات بأريج أيار بين الغصون وبزينة الأرض العروس.
خرجت وليس لي وجهة معينة أطلب بداهة أحياء قلما اخترقتها، فسرت في شارع قصير على مقربة من شارعنا كأن نفسي المتيقظة لبت داعي الأخضرين المحيطين بهاتيك المنازل: أخضر يبسط على أرض الحديقة طنفسة مخملية، وأخضر يتعالى ظليلا فيعكس طيف أفنانه على وجه الجدران الشاهقات.
سرت متمهلة أنتقل من رصيف إلى رصيف، والشمس آخذة في التحدر وقد انكسرت حدتها ولطف نورها، حتى بدت الأشعة حزينة بما مازجها من معاني الفراق. وما كان أندر المركبات والسيارات في ذلك المنعرج، والمارون يتبادلون نظرة كأنهم لقلتهم يقولون «أرأيت؟ لا أحد إلا أنا!»
أتيت على آخر الشارع فنفذت إلى شارع رحب طويل هو شارع ماريت باشا المؤدي إلى دار الآثار المصرية، فخطوت مترددة بين العودة من حيث أتيت ومتابعة المسير إلى الأمام. وإذا بناقوس يدق على مقربة مني ولرنينه إزاء الغروب دوي متوسل حنان، فالتفت إلى جهته فوجدتني أمام كنيسة صغيرة رأيتها مرارا ولم أدخلها مرة.
وقفت أتأمل واجهة الكنيسة وأدير النظر في الحديقة التي تتقدمها وكانت تجتازها بعض السيدات، فلما توارين وراء باب الكنيسة تبادر إلي أنه يحتفل بصلاة الشهر المريمي في هذه الساعة من كل يوم على طول الشهر؛ لأن أيار (مايو) مكرس للعذراء، ولم يعد ينقصني إلا أن أرى فتاة تسير بخطوات عصفور في ثوب أزرق كزرقة الأحلام، وتتوارى هي أيضا وراء باب الكنيسة، لأجد مني شوقا إلى مشهد الهياكل وتوقا إلى رائحة البخور. اضحكوا ما شئتم، أنتم الزاعمون أن الثوب المليح دعاني، وأن زيه البسيط وتخريمه الدقيق كان له مع المرأة مني أحاديث.
أما الكنيسة فكانت مملوءة بالمصلين ولم يخل في مقاعدها إلا مكان واحد جثوت عنده قرب الكاهن الراكع أمام المذبح يتلو المسبحة باللاتينية فيرد عليه الجمهور بلهجة الخاشع المتهيب.
لا أعرف شيئا أجمل وأسمى من الصلاة في أي دين من الأديان؛ لأنها ترفع النفس إلى أعلى درجات الارتقاء ومحاولة الدنو من روح الحياة الكبرى. هي مناجاة العابد للمعبود، هي شكر المخلوق للخالق واستعطافه لاستنزال عطاياه. وما أعذب هذا الاعتقاد أن في السماء، هناك وراء جمع القوى والعجائب الكونية، إلها قديرا لا يقضى دونه أمر، لديه النعم يفيضها على الحاجة البشرية، وعزة يتلاشى حيالها ضعف الإنسان، وجود يعم البرايا فتموج وتتنوع وتنبض بالحياة والقول والتحول.
إلا أني لا أستحسن الصلاة الآلية المستطردة على وتيرة واحدة دون أن يشترك فيها العقل والقلب؛ الصلاة المتعاقبة ألفاظها بين الشفاه والأصابع تعد منها أرقاما معينة؛ لأنها أبعث إلى التنويم المغناطيسي منها إلى الإيقاظ الروحي. قد يكون هذا التأثير من تفنن الشيطان في التجربة والخداع - قاتله الله - لقد وسوس في صدري حتى شتت أفكاري وحملني على إحصاء الحاضرين. وكانت النتيجة أنى جزمت بأن النساء أسبق إلى دخول السماء نسبة إلى عددهن في الكنيسة؛ إذ لم يكن بين مائتي امرأة إلا رجلان وخمسة أرباع. أما الرجلان فرجلان، وأما الخمسة الأرباع فصبيان صغار خمسة جاءوا مع أمهاتهم. وكم كنت ظالمة في الإحصاء والحكم! ذلك أني عند الخروج وجدت جمهور الرجال في مدخل الكنيسة، يقفون هناك مراعاة للسيدات وتكرما لهن بالمقاعد.
وظل الخناس الوسواس يجربني فحسن لي تفحص المعبد فتفحصت جدرانه وما قام عليها من صور وتماثيل، وهندسته وما ميزها من نقوش ورموز، وهياكله وما تناسق عليها من صلبان وطاقات أزهار، تلك الأزهار ذات الانحناء السري، تتخللها شموع كأن لهيبها تذكارات لاذعة في شفق الغيبوبة والنسيان.
لكل شيء في العالم نهاية. صمتت الأصوات فمشى الكاهن إلى الدرابزين أمام المذبح الكبير وبدأ موعظته الإيطالية. وكان يقول أشياء عادية بصوت المثبت، وإشارته مرتبكة كإشارات التلاميذ في حفلة توزيع الجوائز، ولكن لم يلبث أن ارتفع صوته وركزت هيئته، واتسعت إشارته، ولمعت عيناه وهو يقول:
إلى مريم ربة هذا الشهر الجميل يجب أن تلتجئ النساء جميعا؛ فالأمهات يتعلمن منها التجمل بالصفات التي أحاطت بها ابنها يسوع: وهي الحنان والحصافة والمحبة الصادقة التي لا زهو فيها ولا تهور. لقد كانت، وما زالت، وستبقى أبدا أسمى مثال للأمومة القدسية، تسير الأمهات وراءها مستوحيات أساليب التربية والتهذيب.
إليها يلتجئ اليتامى الذين لا أم لهم فيجدون في حضنها الراحة والعطف والمساعدة. إليها تلتجئ العذارى؛ لأنها أبهى مظهر للطهر والحشمة والوداعة.
اسمعن يا أخواتي يا نساء القاهرة! إليكن أوجه هذه الكلمات فاقبلنها؛ لأنها خلاصة اعتقادي. تعلمن الحشمة من مريم، أنتن بنات اليوم الناسيات. ما وقار المرأة واحترام الناس لها إلا نتيجة حشمتها وعفتها. قد تكن عفيفات طاهرات في قلوبكن، ولكن كيف يصدقكن الرائي ويحسن الظن بكن وأنتن تسرن في الشوارع بهذه الأزياء الحديثة التي تعري منكن العنق والنحر والذراعين، هذه الأزياء الشريرة بأقمشتها الشفافة، الشريرة بقصرها وضيقها، التي تعدم لابستها كل هيبة وجلال؟
أللحب تتزين؟ أللحب تتهن في هذا التهتك؟ ألا فاعلمن إذن أن حب الرجل لا يكتسب بالتهتك بل بالتكتم. الرجل محارب من طبعه يهوى الفتوحات ويستميت في الإخضاع، بينما هو يعرض عن كل ما لا يكلفه ألما وكدا.
أم أنتن تتزين للجمال؟ ولكن هل الجمال في الزينة والأناقة وملاحة الوجه وتناسب الأعضاء؟ كلا! كم من امرأة تحسب آية تناسب وملاحة، وهي مع ذلك غير جميلة، إذا سر امرؤ بمشاهدتها مرة أو مرات فهو لا يتمنى مجالستها ويمل كلامها وسخافتها بعد أن يعرفها قليلا؛ إذ يرى أن أحسن ما فيها هو هذا الشيء الخارجي الذي لا يكفي لامتلاك القلوب واكتساب الأرواح.
ألا فاعلمن أن النساء اللاتي كن ذوات أثر في أعاظم الرجال وذوات سلطة وشوكة حزن جمالا أعظم من هذا الجمال الخسيس وأبقى. لقد كان لهن جمال النفس الذي تزيده الأيام رونقا، بينما هي تحك القشرة هنا وهناك وتوسعها كل ساعة ذبولا وإتلافا. كان لهن جمال العقل وجمال القلب، وجمال حسن التصرف، وجمال اللطف الصحيح، وجمال المحبة الطاهرة العميقة المستخفة بالمظاهر التي لا يغرها جمال الشباب وجمال الأناقة وجمال الأزياء.
أتعلمن ما هو الشباب والجمال؟ هما حديقة تملؤها الأزهار النضرة والعطور المنعشة، أمامها يقف المارون معجبين. وما هو إلا يوم وليلة فتمر العاصفة صارعة أشجارها، مبددة أزهارها، مبيدة عطورها، وتغادرها خالية إلا من أكوام التراب والأغصان المكسرة، هذا ما تسمونه جمال الشباب؛ أي جمال القشور. أما الجمال الآخر فهو جمال الجوهر، الآلام تطهره والمصائب تجلوه، والعواطف تفعمه قوة ونبلا. هو الجمال الذي يبقى ناميا مدى الحياة. هو مسعد العائلة، وهو مساعد الزوج، هو مهذب الأطفال، هو السلام والخير والبركة. ولتحفظه المرأة ... اسمعن أيتها السيدات ... لتحفظ المرأة ذلك الجمال. عليها أن تكون وردة تحيط بها الأشواك ...
انتهت الوعظة، فعزف الأرغن الشجي وابتدأ الزياح فاشترك الجميع في الترتيل وتصاعدت الشعائر نحو الله ملحنة أنغاما ومحترقة أمام هيكله بخورا.
وعند خروجي من الكنيسة كان الظلام يغمر المدينة ومضيئو المصابيح يجرون في الشارع حاملين المشاعل، فوقف أحدهم يتفرج على السيدات وهو يفتر عن أسنانه البيضاء، ويثني على كل مارة الثناء المعتاد قائلا بلهجته المصرية النغشة: «إنت يا واد يا حلو! إنت ياللي زي الباشا! إنت يا واد يا حلاوة!»
هذه هي موعظة شهر الورود: على المرأة أن تكون وردة تحيط بها الأشواك. وما «أشواك» الوردة النسائية غير التكتم والحشمة والطهارة كما قال ذلك القس، فإن عجبتم اليوم لهذا الكم الطويل الذي يتعثر قلمي بأذياله فاعلموا أن سببه موعظة شهر الورود. وإن أعرضت عن ذلك الثوب الشفاف الساحر واستبدلته بهذا الشبيه بثوب أبينا الواعظ لكثافته فما سببه إلا موعظة شهر الورود. وإن غادرتكم الآن فما ذلك إلا لأني أريد أسمع موعظة شهر الورود مرة أخرى: على المرأة أن تكون وردة تحيط بها الأشواك.
الحركة بركة
1916
شكا الناس هذا العام وما فيه من كثرة الجلبة في ميادين القتال وقلة الحركة في ميادين الأعمال. قال بعضهم إن مصر فارغة في هذه الشهور فراغ جيب البخيل. وقال آخرون إن جيب البخيل لا تفرغ إن كانت يده لا تمتلئ؛ فسعى بالصلح جماعة أرضوا الفريقين بقولهم: «بل قد تكون جيب البخيل ويده ملآنين ولكن عينه تبقى فارغة.»
هؤلاء الناس سفسطائيون لا يعرفون شيئا. أيها القارئ، لا بد أن أسميك اليوم لبيبا؛ إذ لدي من الأقوال ما أود أن تقبله بلا اعتراض، وأن تضحك له لا منه، لهذا لا بد أن تكون لبيبا، فإذا كان دولاب الأشغال (كما يقول الاختصاصيون) قد أكله الصدأ، وما كثر في هذه الأيام من العمال إلا العاطلون فلا تظن الحالة موجبة لليأس. صحيح أن البورصة تحزن السماسرة بعض الحزن؛ لأنها عنيدة تأمل الطلوع، لكني أعترف لك سرا بأنها مصيبة، فليست الأيام أيام طلوع، وكل مرتفع معرض للمقذوفات. إنما الزمان زمان خنادق. حفرت البورصة لنفسها خندقا ملائما للأحوال ونزلت فيه صامتة.
غير أني أكرر أن الحالة لا توجب اليأس؛ لأن اللصوص قوم أذكياء، إذا هدأت الحركات غلت حركاتهم وتنوعت، يتهادون بين المنازل والدكاكين تهادي ربات الجمال وذوات الحجال، يسيرون من باب إلى باب، ومن مستودعات الجواهر إلى مستودعات الأموال، بخفة وهدوء لئلا يقلقوا راحة النائمين. الأدب حسن في كل حين، واللصوص جماعة «جنتلمن».
على أني أعجب للمسروقين لماذا يغضبهم أنهم لا ينتبهون لمرور الساعة الرهيبة؛ أهذا جزاء المعروف، يا سادتي؟ أما البوليس فلا اعتراض على وقفته: يقف في النهار بكرامة، وعلى مقربة منه تتخاصم الناس وتتصادم المركبات، وهو - ولله الحمد - واقف بالسلامة، منصوب قوامه إلا من طرفيه كالألف المتقنة الصنع، وهذا يزيده شبها بإله الحدود القديم عند الرومان.
أستغفر الله! لست أعني أنه يظل واقفا كالتمثال! كلا ثم كلا! إنه يمشي أحيانا، ويرفع يده مسلما على بعض المارين في المركبات، وطرف حديث مع الإخوان لا يزعجه بل بالعكس، وهو مع ذلك متمم أمور وظيفته، فإذا رأى قبيل المساء حوذيا لم ينور شمعتي مركبته صاح إله الحدود الجديد باسطا ذراعيه إلى الأمام وقال: «نور يا أسطى!» إنه لبطل شجاع لا يحابي أحدا، وهو لا يخشى هولا إذا ما أمره الواجب! علينا أن نعترف من جهة أخرى بأن الحوذي يطيع مرة في المئة ويعصي تسعا وتسعين مرة، مكتفيا بأن يجيب على أمر البوليس «حاضر يا سيدي»! يقول المثل «لاقني ولا تعشني.» وكذا يعمل الحوذي؛ لأن ثقته في حلم البوليس لا حد لها، مهما كان المرء بوليسا فإنه يظل إنسانا رحيما.
هذه حالة البوليس في النهار، أما عن الليل فلا تسلني! قيل لي في قديم الزمان وسالف العصر والأوان إن بوليس الليل يدعى خفيرا، وهو كذلك. إنه ما زال بوليسا معتبرا ما دام قائما مقام البوليس، ولا أعرف عن هذا البطل الآخر سوى حادثة صغيرة جرت في شارعنا منذ أسبوعين تقريبا: دخل لص بيتا فأفاق أهل البيت، وانتبه الجيران، وقبض هؤلاء وأولئك على اللص وشريكه، ثم تساءلوا أين البوليس أو القائم مقامه، فبعد أن بحثوا عن رجل الساعة وجدوه نائما كطفل بريء ... فأيقظوه! ويل لقساة القلوب إنهم لا يشفقون!
من ألذ أخبار اليوم حوادث ثلاث: سرقتان لمبالغ 50 جنيها و115 جنيها من بعض المخازن، وسرقة حلي وجواهر من منزل سيدة وطنية بقيمة خمسين ألفا من الفرنكات.
بارك الله فيكم أيها اللصوص! إن ضاعت أيامكم فإن لياليكم لا تضيع! تذكرون قول الأمريكان «الوقت من ذهب»، وقول السويسريين «السكوت من ذهب» وتستخدمون الوقت والسكوت معا، فينقلب الذهبان بين أيديكم لآلئ وجواهر! بارك الله فيكم جميعا! أليس كذلك أيها القارئ اللبيب؟
والبوليس؟ لا توقظوه! إنه نائم بالسلامة كطفل بريء ...
دنا عيد الميلاد ...
دنا عيد الميلاد وجاءت معه جميع الذكريات والتصورات والمعاني الخاصة به. غدا يلقي الواعظون من على المنابر كلمات الرفق والإحسان والغفران، وينشد المنشدون «المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام»، فيسمع الناس الأناشيد والمواعظ ولا يحاولون إدراك كنهها، وإن أدركوا فلا يعتقدون بوجوب تطبيقها على أعمالهم؛ لأنها كجميع النصائح تقل قيمتها بالتكرار ويستخف بها كلما تبرع بها المتبرعون.
المجد لله ليس في العلى الذي لا نعلم ما هو فحسب، بل المجد له في كل مكان وكل زمان. أما السلام فليس على الأرض في أيامنا، ولا ينتظر أن يحل عليها قبل أن يتغير نظام الكون وهو التصارع والتقاتل الذي لا يفتر ولا يضعف.
منذ مئات الأعوام والدهور تتجاوب كلمات المحبة والمساواة، أما الأعمال فلا يظهر فيها غير تنازع البقاء وتنازع القوة، وتنازع الغلبة والظفر بين الأفراد والجماعات في شئون العمران والدين والطبيعة. ليس غير التنازع من سبب في أن تقيم الفنادق الكبرى شجرة عيد الميلاد ليدور حولها الراقصون الراغبون في نسيان همومهم وتسريح غمومهم. وهو، هو باعث نظرات السرور في عيني طفل يرقب لعيبات ودمى وخيلا وأسلحة ومركبات عمرت بها نوافذ المحال التجارية. وهو منبه الذكرى في نفوسنا ومعيدنا إلى أيام كنا نرى في هذه اللعيبات الكون بأسره، كما أنه في الوقت ذاته العاطفة التي تحولنا عن هذه الأشياء إلى ما هو خير منها، أو ليس هو ذلك التنازع في شكل مجاملة، صارت بالاستمرار إخلاصا اجتماعيا، الذي يجعلني أقول: كل عام وأنتم ...
عام سعيد
كلمة يتبادلها الناس في هذه الأيام ولا يضنون بها إلا على المتشح بأثواب الحداد، فإذا ما قابلوه جمدت البسمة على شفاههم وصافحوه صامتين، كأنما هم يحاولون طلاء وجوههم بلون معنوي قاتم كلون أثوابه.
ما أكثرها عادات تقيدنا في جميع الأحوال فتجعلنا من المهد إلى اللحد عبيدا! نتمرد عليها ثم ننفذ أحكامها مرغمين. ويصح لكل أن يطرح على نفسه هذا السؤال: «أتكون هذه الحياة «حياتي» حقيقة وأنا فيها خاضع لعادات واصطلاحات أسخر بها في خلوتي، ويمجها ذوقي، وينبذها منطقي، ثم أعود فأتمشى على نصوصها أمام البشر؟»
يبتلى امرؤ بفقد عزيز فيعين له الاصطلاح من أثوابه: اللون والقماش والتفصيل والطول والعرض والأزرار، فلا يتبرنط، ولا يتزيا، ولا ينتعل، ولا يتحرك، ولا يبكي إلا بموجب مشيئة بيئته المسجلة في لوائح الحداد الوهمية، كأنما هو قاصر عن إيجاد حداد خاص يظهر فيه - أو لا يظهر - حزنه الصادق المنبثق من أعماق فؤاده.
إذا خرج المحزون من بيته فلا زيارات ولا نزه ولا هو يلتقي بغير الحزانى أمثاله. عليه أن يتحاشى كل مكان لا تخيم عليه رهبة الموت؛ المعابد والمدافن كعبة غدواته وروحاته يتأممها وعلى وجهه علامات اليأس والمرارة.
وأما في داخل منزله فلا استقبالات رسمية، ولا اجتماعات سرور، ولا أحاديث إيناس. الأزهار تختفي حوله وخضرة النبات تذبل على شرفته، وآلات الطرب تفقد فجأة موهبة النطق الموسيقي، حتى البيانو أو الأرغن لا يجوز لمسه إلا للدرس الجدي أو لتوقيع ألحان مدرسية وكنسية، على شريطة أن يكون الموقع وحده لا يحضر مجلسه هذا أحد. أما القرطاس فيمسي مخططا طولا وعرضا بخطوط سوداء يجفل القلب لمرآها.
كانت هذه الاصطلاحات بالأمس على غير ما هي اليوم، وقد لا يبقى منها شيء بعد مرور أعوام، ولكن الناس يتبعونها الآن صاغرين؛ لأن العادة أقوى الأقوياء وأظلم المستبدين.
إن المحزون أحق الناس بالتعزية والسلوى؛ لسمعه يجب أن تهمس الموسيقى بأعذب الألحان، وعليه أن يكثر من التنزه لا لينسى حزنه، فالحزن مهذب لا مثيل له في نفس تحسن استرشاده، وإنما ليذكر أن في الحياة أمورا أخرى غير الحزن والقنوط.
ألا رب قائل يقول إن المحزون من طبعه لا يميل إلى غير الألوان القاتمة والمظاهر الكئيبة، إذن دعوه وشأنه! دعوه يلبس ما يشاء ويفعل ما يختار! دعوا النفس تحرك جناحيها وتقول كلمتها! فللنفس معرفة باللائق والمناسب تفوق بنود اللائحة الاتفاقية حصافة وحكمة.
بل أرى أن أخبار الأفراح التي يطنطن بها الناس كالنواقيس، ومظاهر الحداد التي ينشرونها كالأعلام، إنما هي بقايا همجية قديمة من نوع تلك العادة التي تقضي بحرق المرأة الهندية حية قرب جثة زوجها. وإني لعلى يقين من أنه سيجيء يوم فيه يصير الناس أتم أدبا من أن يقلقوا الآفاق بطبول مواكب الأعراس والجنازات، وأسلم ذوقا من أن يحدثوا الأرض وساكنيها أنه جرى لأحدهم ما يجري لعباد الله أجمعين من ولادة وزواج ووفاة.
وتمهيدا لذلك اليوم الآتي أحيي الآن كل متشح بالسواد، أما السعداء فلهم من نعيمهم ما يغنيهم عن السلامات والتحيات. أحيي الذين يبكون بعيونهم، وأولئك الذين يبكون بقلوبهم؛ أحيي كل حزين، وكل منفرد، وكل بائس، وكل كئيب. أحيي كلا منهم متمنية له عاما مقبلا أقل حزنا وأوفر هناء من العام المنصرم.
نعم، للحزين وحده يجب أن يقال «عام سعيد»!
أجوبة الفتيات
نشرت إحدى صحف اليوم تحت هذا العنوان النبذة التالية: ألقت نشرة امتحانات التعليم الابتدائي الفرنساوية على الفتيات المتقدمات للحصول على الشهادة هذا السؤال: «ما هي غايتك من الحياة؟» وبعض الأجوبة جدير بالذكر، منها: «أريد أن أكون من راهبات القديس فرنسيس لأمرض المرضى طول حياتي.» «لقد قر رأيي على أن أكون مركيزة.» «أود أن أكون ملكة على فرنسا.» «أشتهي أن أصير أما.» «أود أن أكون راعية للغنم.» «أطمع في الحصول على ساعة.» «أريد أن أكون بطلة مثل جان دارك.» «أتمنى أن أسافر وأموت غرقا.» «أود أن أبرع في أساليب الهزوء والتنكيت ... إلخ، إلخ» •••
فسألت نفسي بعد قراءة هذه النبذة: «وما هي أمنيتك الآن؟» وأغمضت عيني منتظرة الجواب. وما أغمضتهما إلا وتلاشت الأصوات حولي، ونسيت محيطي، ورأيتني سابحة فوق الأزرق الوسيع ، ورائحة المرارة البحرية وطعمها يخترقان كياني بينما الأهوية والنسائم يتناقلنني. يا لهذا البحر الجميل كم من أرض محبوبة يحول دونها، وكم من وجه عزيز يحجب عن المشوق معناه! وما لبثت أن وجدتني مستلقية على الشاطئ البعيد ...
أتعرفون تلك البقعة الهادئة المنبسطة على شفة البحر تحت ذياك المكان المدعو ب «وطأ نهر الكلب»؟ أما زالت هناك كما كانت يخاصمها البحر ويصالحها ليل نهار؟ هناك أود أن أنام، شأني وأنا في الثانية عشرة من سنواتي البشرية. هناك الرمال ذهبية نظيفة لا تفتأ الأمواج تغسلها وتظل الأشعة تنشفها. هناك صخور وشقوق أود أن أستريح في فيئها سعيدة بالاختلاء والكآبة، سعيدة بغرز يدي في الرمل الناعم، معرضة عن كل شيء، مكتفية بمناجاة الأصداف والحصى والذرات حولي، وبإلقاء هذا السؤال على الكون الصامت: «لماذا أوجدتني، أيها الكون، وما تريد مني؟» •••
أوقات سجلت في كتاب الحياة، أتمنى رجوعها لحظة ويأسف لانقضائها قلبي، ولكن فكري ليس ليشتهيها؛ لأننا في عالم نشوء وارتقاء. ولئن اكتفى جزء من النفس مرة فهناك جزء آخر يبقى متفلتا من إظلال الماضي، تائقا إلى المستقبل المجهول، لا يعرف لذة الارتواء وسعادة الاكتفاء ...
وصف غرفة في مكتبة
أستخرج هذه الصفحة من فصول لم تنشر بعد، كتبتها تحت عنوان «مذكرات الجامعة المصرية» لسنة 1916. والغرفة التي وصفتها تابعة لمكتبة الجامعة، وهي اليوم مركز سكرتارية المكتبة. أما يوم كتبت فيها فكانت خالية يجتمع فيها الطالبات إذا جئن قبل ابتداء الدرس الذي يقصدن حضوره. ومنهن الفرنساوية والإنجليزية والروسية واليونانية والإيطالية والبلجيكية والسورية. ولم تخل تلك الاجتماعات إلا من الفتاة المصرية، وهي الحقيقة بحضور الدروس أكثر من غيرها؛ لأن الجامعة جامعتها أكثر منها جامعة الأجانب.
كنا نجتمع هناك كمؤتمر دولي التأم لعقد الهدنة وتقرير شروط الصلح، أو كمؤتمر نسائي غرضه المطالبة بحقوقه والمجاهرة بمطالبه. لكن الأحاديث الدائرة بيننا لم تكن لتدل على ذلك، بل كانت مقتصرة على أخبار «الكونسرتات» والسينماتوغرافات والأزياء وأشكال البرانيط الحديثة. ويتخلل هذه الثرثرة النسائية المحضة ضحك «يدب دبيبه» في كل موضوع تجاذبت أطرافه فتاتان، فكيف به إذا صار ضجة فتيات كثيرات؟
من عجائب الحديث النسائي أن السيدات إما يصغين جميعا ولا تتكلم منهن واحدة، وهذا نادر، وإما يتكلمن جميعا في آن واحد ولا تصغي منهن واحدة. وكانت الحال الثانية حالنا في اجتماعاتنا نظل عليها حتى يعرض لنا ذكر موضوع الدرس، فيهدأ ضجيجنا بغتة ونصغي جميعا إلى المتكلمة فينا، ولا نحجم عن بث الآراء والمناقشة أحيانا، ونبقى «عاقلات» حتى يمر في الحديث خيال نكتة صغيرة فنعود إلى الثرثرة والضحك المتقطع المتواصل.
اجتماعات لطيفة كاجتماعات الفتيات في كل زمان ومكان، ولكننا لم نكن لنهتم «بسر» الغرفة التي تجمعنا جدرانها، ولم أتنبه لذلك «السر» إلا يوم وجدتني هناك وحدي ناظرة إلى ما نشر على الجدران من رسوم أعاظم الكتاب والمفكرين. •••
يقال إن في العالم نحو ثلاثمائة جامعة. ولئن كانت الجامعة المصرية أحدث هذه الجامعات سنا وأقلهن فائدة مادية (لأنه ليس لألقابها حروف شتى يحررها الطلبة وراء أسمائهم)، فهي مع ذلك آخذة مكانها بينهن، ولها ميزة خاصة بكونها جامعة أهلية.
على أنها ليست الجامعة الأولى في الشرق الأدنى.
إن الأزهر الشريف أقدم جامعات الشرق والغرب؛ لأنه تأسس في القرن العاشر، في حين أن أقدم جامعات أوروبا - وهما جامعتا بولونيا وباريس - لم توجد قبل القرن الثاني عشر.
يجلل الأزهر وقار القدم، غير أن بابه مقفل في وجه غير المسلمين، وتعاليمه دينية لغوية في الغالب، فهو في نظر كثيرين حلم عميق للمرء أن يذكره ويحدث عنه، ولكن لمسه ليس بالأمر الميسور.
أما الجامعة المصرية فمفتوحة للجميع ولا تقلل من فضلها حداثة سنها؛ إن كل صغير محبوب لأنه يطلب العطف، كل صغير مستودع آمال كبيرات لأن له قابلية النمو والتكاثر.
قال ألفرد ده موسيه (وهو الشاعر الذي أعطي قوة التعبير عن أعمق العواطف بألطف الألفاظ): «كأسي صغيرة لكني أشرب من كأسي.» وعلى هذا القياس للمصريين أن يقولوا: «جامعتنا صغيرة لكننا نتعلم في جامعتنا.» •••
ليست الجامعة منهل علم لطلبتها فحسب، بل هي مهبط وحي لي حين أبلغها قبل ابتداء الدرس الذي أبتغي حضوره بدقائق أقضيها منتظرة متأملة.
فكم من فكر إنساني ما يحيط بي من آثار الحياة! وكم من تأمل التقط موضوعه نظري بين وريقات شجرة خضراء تتمايل أمام النافذة! وكم من حلم لمحت خطوطه مرسومة في جو قاعة الدرس وألوانه متخللة خيوط الأشعة المطلة علينا! أفكار وتأملات وأحلام رفرفت علي حينا وغنت في نفسي كالأطيار، ثم فتحت جناحها الذهبي ساعة جاء الدرس ينبهني، فتحت جناحها وانطلقت تعدو إلى آفاق قصية أجهلها وأحبها؛ لأن لي فيها أطيارا خيالية.
أنا الآن في غرفة صغيرة تابعة لمكتبة الجامعة، وليس في هذه الغرفة من الكتب إلا ثلاثة أجهل اسمها ولغتها؛ لأنها خفيت تحت كتاب رابع من تأليف مارمونتل، وهذا أديب فرنسوي لم يتفوق في موضوع من الموضوعات الكثيرة التي عالجها، بل اكتفى بالإجادة فيها جميعا إجادة معتدلة، تاركا البراعة والتفوق لأستاذيهما الكبيرين: فولتير وروسو. روسو الذي حاول تكوين مجتمع جديد بقلمه القادر البليغ وملأ العالم ندبا ورثاء. وفولتير الذي كافح القيود الدهرية برأس قلمه الرشيق النافذ كالسهم إلى أعماق الأفكار، وبابتسامته الخالدة التي يرى فيها أتباعه فجر الحرية المنبثق من ليل العبودية الأليل.
إن للأمكنة أرواحا، وفي هذه الغرفة الصغيرة روح تناجيني وسر أطمع في اجتلاء غوامضه. كل ما يحيط بنا في الحياة سر ولغز، لكن حواسنا المثقلة بأحمال المادة تحجب عنا الأنوار، فلا نرى للأشياء وجودا ولا ندرك لها حقيقة إلا بقدر ما تتفق معانيها مع أطماعنا وشواغلنا.
كلما رأيتني وحدي في هذه الغرفة شعرت بأن في جوها روحا. أهي مجموع أرواح النوابغ الحاضرين هنا برسومهم وبخيالات الأفكار المطلة من أحداقهم؟
نهضت أمشي في الغرفة، أمشي وأفكر. وراء الطاولة التي أكتب عليها صورة سفينة ركبت من البحر جوادا حرونا وسارت تقطع الأمواج الكبار بقوة وثبات. وتحت السفينة إطار حوى ورقة ممزقة وفيها بعض السطور الهيروغليفية.
الكتابة الهيروغليفية قرب الباخرة! إن جوار هذين الرسمين لرمزي: السفينة فينيقيا، والخط الهيروغليفي مصر.
فينيقيا ومصر
المدنيتان القديمتان اللتان بزغت منهما مدنياتنا الحديثة وانحدرت من ذراريهما تواريخ ذرارينا، ترى هل وقفنا على جميع ما فيها من الأسرار، وعرفنا كل ما كان عندهما من علم وفن ومقدرة وسلطان؟ أم نحن في ذلك مدعون دعوانا في سائر أقسام المعرفة؟
قبل أن يكتشف كولومبس القارة الأمريكية بقرون طويلات كانت سفن الفينيقيين تضرب في البحر طولا وعرضا وقد عين التاريخ خطوط رحلاتها، ولكن أي شيء أجهل من العلم إن لم يكن التاريخ؟ ومن يدرينا ما إذا كانت اليد التي شادت الأهرام وأقامت الهياكل المتراكمة اليوم بقاياها على رمال النيل، هي غير اليد التي أوجدت هياكل، ترى الآن أنقاضها في أواسط أمريكا، ونحتت ما عثر عليه لورد دوفرن من مسلات مصرية ونقوش شرقية في كولومبيا البريطانية؟
والتليفون الذي أراه في زاوية الغرفة على مقربة من الكرة الأرضية أهو اختراع هذا العصر فحسب؟ ألم تكن من نوعه الآلة التي يقال إنها كانت مستعملة عند كهنة إيزيس وأوزوريس لمخاطبة كهنة الهياكل الأخرى من أقصى البلاد إلى أقصاها خلال الاحتفالات السنوية الكبرى والاجتماعات الدينية؟ ولماذا لا يقوى العلم الحديث على استخراج الأرجوان من الأصداف كما كان يفعل الفينيقيون؟ لماذا لا يخرج لنا ألوانا ثابتة لا تنفض نضارتها كألوان هياكل الأقصر؟
أكان أجدادنا جاهلين أم نحن لهم ظالمون؟ أم كل الفرق في أن العلم كان عندهم محصورا ضمن الأقلية المنتخبة وقد أصبح في زماننا «حصة من جد اعتزاما»؟ •••
ولكن لنتابعن سيرنا في الغرفة:
في منتصف الجدار إلى اليمين صورة هوغو في شيخوخته ويده تحمل جبهته المثقلة بالأفكار العظيمة، كأنما هو في جلوسه يناجي الأجيال قائلا: ها أنا ذا! أنا هوغو الذي أنالته الحياة مجدا وثروة وحبا. أنا ذاك الذي شاخ في المنفى فكان سعيدا في الشقاء. أنا ذاك الذي بحث عن نوابغ الماضي ودون أسماءهم تاركا بعدها مكانا واسعا لاسم جديد. والاسم الذي أعني إنما هو اسم الرجل الجالس هنا حاملا على يده جبهته المثقلة بالأفكار العظيمة: فيكتور هوغو.
وإلى شمال هوغو أرى الفيلسوف الرياضي ديكارت الذي قال فولتير في وصفه إنه جعل العميان يبصرون؛ إذ بين للقرن السابع عشر أغلاط القرون الخاليات، وجعل شعار هذه الجملة: «لتبلغ الحقيقة يجب أن تنسى مرة في حياتك جميع الآراء والاعتقادات التي شببت عليها، ثم تقيم أسسا جديدة لآراء واعتقادات شخصية.»
إلى شمال ديكارت أرى بوسويه أسقف «موو». ترى بأي شيء يسر ديكارت إلى بوسويه في ساعات الوحدة، وبماذا يجيب الأسقف الكاثوليكي؟ ليت لي من سبيل إلى التجرد من جسدي حينا؛ لأسمع محاوراتهما ولو مرة واحدة؛ ولأعلم كيف يتناقش العلم والدين في عالم الأرواح.
على يمين هوغو موليير الشاعر الفذ الذي ملأ رواياته، وراء لهجة الاستخفاف والظرف والتنكيت، انتقادات اجتماعية وعلمية ودينية، وعلم أهل زمانه الضحك من أنفسهم غير متذمرين.
وعلى يمين موليير وجه نحيف جذاب، من هذا؟ لو نسي مصورك كتابة اسمك تحت رسمك، لو درست آثار فكرك وعلمك وانتقادك وطمس الزمان كل ما أبده قلمك، لو أكلت النار وجهك غير مبقية إلا على شفتيك لعرفتك يا فولتير! يا لفمك من فم هائل في كلامه، هائل في بسمته، هائل في سكوته حتى في سكوت الصور!
تحت هوغو إطار ذو رسمين يمثل أحدهما راسين والآخر بوالو. ولو أنصفت الجامعة لوضعت راسين فوق هوغو وأقصت النظام بوالو عن الشاعرين. لكني أفهم أن صورة هوغو عندها أكبر من صورة راسين. كذلك تسير مواكب الحياة! فكثيرا ما يقطن الأكبر تحت الكبير ويقف الأحسن دون الحسن، ولكل أن يرضى بما قسم له؛ لأن الزمان شاء ومشيئته لا تتغير!
من زاوية فولتير إلى الباب تمتد مكتبة صغيرة خالية مما وجدت له، تتجلى فوقها صورة امرأة عظيمة: مدام ده سفينيه، كم تسرني رؤية هذه المرأة قرب هؤلاء الرجال! كأن وجودها هنا عنوان اهتمام الجامعة بالفتيان والفتيات على السواء، كأن صورتها على هذا الجدار صوت يستحث الفكر النسائي قائلا: إلى الأمام!
على الجدار المقابل لجدار فولتير صورة فنيلون «أسقف كمبري» مؤلف كتاب «تليماك» المفعم بالانتقاد الدقيق الخفي لحكومة لويس الرابع عشر وللملك العظيم نفسه، وإلى جانبه معاصره الشهير كورنيل واضع الروايات البديعات اللائي ما برحن ميدانا، فيه الحب والواجب يتنازعان .
وعند الباب هيكل عظام بشري إلا أنه صنع من خشب الجوز أو من خشب آخر دهن بهذا اللون. كل ما هنا يساعد ما في جواره لجعل هذه الغرفة كبيرة في صغرها، عظيمة في سذاجتها.
صدق القائل إن للغرف أرواحا ...
أحب روح هذه الغرفة الممزوجة من أرواح شتى.
وهل من مخبر بما رأته هذه الجدران قبل أن تكون للجامعة من أتراح وأحزان، وبما شهدته من تقلبات الحدثان!
لعلها سمعت تنهدات لم يلن لها قلب، أو رأت قلبا وحيدا لم يشاركه في ابتهاجه مشارك!
لعلها رأت دموعا سخينة لم تمسحها اليد الرحيمة!
فولتير! هوغو!
لو تكلمت الجدران لكانت أتم منكما بلاغة وأعمق تأثيرا!
في محكمة الجنايات
زرت اليوم مكانا لعله أرعب الأمكنة بعد مسارح الجرائم الخفية ومواضع تنفيذ الإعدام؛ أعني القاعة الكبرى في محكمة الجنايات؛ حيث يصدر العدل البشري أشد أحكامه على من يكون في عرفه مجرما. ذهبت إلى تلك القاعة حيث تنعقد المحكمة العسكرية لمحاكمة المتهمين بأنهم من أعضاء «جمعية الانتقام» المتآمرة على خلع السلطان، وقتل الوزراء، وقلب الحكومة، والتحريض على الثورة في البلاد. ما أرهب هذه الكلمات التي تصور للمخيلة مشاهد الظلم والفتك والدماء والدمار! ومن مميزات الحركة النسائية الجديدة أن المصريات امتزجن بالحياة العامة فصرن يظهرن في كل اجتماع قومي، حتى في أحرج المواقف وأوجعها للقلوب الوطنية. كذلك حضر بعضهن جلسات المحكمة بالتتابع.
دخلت الدهليز الواسع بين الجنود المنتصبين يمنة ويسرة، وخلالهم يختلط المحامون بأصحاب القضايا ويناقشونهم بأصوات خافتة على رغم منهم، فتلقاني جندي حاجب قدمت له تذكرة الدخول فأوصلني إلى آخر. وسار بي هذا إلى ثالث وأنا أعد الأزرار الذهبية المنضدة على كتف كل منهم، وأتظاهر بعدم الاكتراث لأسكت دقات قلبي. وما كان حتى رأيت ضابطا ينحني أمامي وهو يفتح بابا لم أسمع له ما يشبه الصوت، فوجدتني بغتة في قاعة متوسطة الاتساع قد تبلغ مساحتها العشرين مترا طولا على عشرة أمتار عرضا. وبدلا من أن أخطو وراء الجندي الذي سار ليدلني على مكاني، ظللت واقفة وأنا في إجفالي أتفرس في الوجوه المستوية في صدر القاعة وقد اشرأبت نحوي جميعا. غير أن الذي تكفل بإيصالي عاد إلي ثم مشى يهديني حتى أجلسني على المقعد الرابع، وعلى مقربة مني «قفص» المتهمين.
أجميع الحضور يحدقون في أم أنا في هلوعي أظنهم فاعلين؟ رفعت بصري أتبين الأمر في سيماء القضاة أولا فإذا بهم يرقبونني وقد أدركوا في سرهم مقدار جزعي واضطرابي. وهل من نظر ينفذ إلى أعماق النفس ويعريها من أستارها كنظر القاضي؟ ربما كان هناك شخص واحد يفوقه براعة، وهو الكاهن الكاثوليكي الذي يكسبه تعاطي الاعتراف واستماع شكايات الناس، حنكة ودراية ومعرفة بأسرار النفوس لا يماثله فيها من العلمانيين غير من شفت بصيرته بأنوار الإلهام.
لم أجرأ على النظر إلى المتهمين، وشعرت بأن أسلم النظرات عاقبة وأضمنها براءة هي نظرة أصعد بها إلى سقف المكان مستوضحة هندسته وزخرفته.
زخرف محكمة الجنايات؟ ما هذا المجون؟
نعم، هناك زخرف وتنميق، وهو عبارة عن خط عريض نقش بالنقوش الحجرية البيضاء ودار حول سقف القاعة في أعالي جدرانها الكنسية الجرداء. وقطعت خطوط أخرى من نوعه السقف ثلاثا وأنالته شكلا مرضيا. ثم هبطت عيناي إلى الحوائط، وفي أحدها القائم شمالا شبابيك كبيرة واسعة رفعت الأستار الكتانية إلى أوجها فتدفق خلالها نور النهار الداخل من الحديقة الفاصلة بين هذه القاعة وبين الشارع؛ حيث يسير الناس أحرارا غير مقيدين. ولما فرغت من تفحص الحائط والنوافذ والستائر، واستنزفت عليها كل ما جال في دماغي من ملاحظة ومناقشة وتعليق، مشى بصري قليلا قليلا إلى صدر الغرفة؛ حيث استوت هيئة القضاء لتحكم بقسطاس العدل.
أين ذهب اضطرابي حتى واجهت نظر القضاة بهدوء هذه المرة، وبي شعور يشبه الراحة والطمأنينة؟ فعدلت جلوسي واستعدادي العقلي لأضع الأشياء في مواضعها.
هيئة المحكمة تتألف من قضاة عسكريين أربعة يلحق بهم المترجم، ويرأسهم قائد تبدو مرتبته في الأشرطة الحمراء المذهبة على كتفيه وكميه، وفي صفي الأشرطة الملونة الصغيرة الممتدين على صدره واحدا فوق الآخر؛ ليدلا على ما عنده من مختلف الميداليات والأوسمة. ويتوسط الهيئة «نائب الأحكام»، وهو قاض في المحاكم المختلطة وأحد كبار رجال القانون الإنجليزي، وهو وحده بين القضاة يلبس الشعر العاري الأبيض والرداء الأسود. وإلى اليمين كرسي المدعي العمومي، أو مدعي الملك، كما يسمونه في هذه القضية، وهو كنائب الأحكام يلبس الشعر الأبيض والرداء الأسود. وأمام المحكمة مكان المحامين، فموقف الشهود، تتناسق متتابعة وراءه مقاعد القاعة التي أجلس أنا في صفها الرابع، وإلى يميني قفص المتهمين الذي تنتهي حدوده من الجهة الأخرى قرب هيئة المحكمة.
أي المواقف أغرب من موقف المتهم إزاء القاضي؟ وأي كره قسري بين هذين الاثنين: بين شخص ضعيف أعزل تحت رحمة الآخر، وبين هذا الآخر الذي وجد ليفسر الحركات والمعاني ويتصرف كيفما شاء في مصلحة المتهم وراحته وحياته. أي عداء وأي اختلاف أعظم من هذا؟ مع ذلك فالاثنان خاضعان معا لجميع نواميس الطبيعة وأهوائها، فلو تساقط الثلج الآن لانتفضا معا، ولو زلزلت الأرض زلزالها وفغرت فاها لالتهمتهما معا. ولو انتشر مكروب خبيث لتناولهما معا ولتألم كل على حدة بمثل ما يتألم الآخر، بل ها هم جميعا كلت أدمغتهم وأغمضوا عيونهم وفي كل منهم احتياج يظهر حتى في تصلب جلوسه، احتياج إلى أن يتثاءب ويتمطى كما يفعل الأسد، أو كما تفعل هرتي البيضاء عندما تأبى ملاعبة من لا يعجبها، وعندما تخرج كلمة هزلية من فم المحامي أو القاضي أو الشاهد تلمع عيونهم جميعا ويشتركون في الضحك. ولئن بعث القضاة إلى المتهمين بنظرة نافذة مستفسرة باردة كالسلاح الأبيض، حينا بعد حين، فلواحظ هؤلاء تخال باسمة في الغالب.
نعم، في جميع عيون المتهمين ابتسام، وهيئة القاعة عموما بسيطة ليس فيها ما كنت أتوقعه من مظاهر الغم والعبوسة، كأنها مكتب لأي عمل من الأعمال التجارية مثلا. وبينما المدعي العمومي يتابع شكايته مستطردا في الاتهام فيأتي بالحجة بعد الحجة، وبالإثبات تلو الإثبات، إذا بالمتهمين لاهون عن أقواله بما بين أيديهم من جرائد ومجلات يقلبون صفحاتها، ثم يتحادثون كأنهم يتبادلون الآراء في الموضوع الذي يقرءونه ولا علاقة له بالمحاكمة أصلا، ثم يرتسم الحزن في سواد عيونهم وتبرز على جباههم أحكام نقشها لهم القدر في كتابه النحاسي، فيتأملون قليلا ويتنهدون، إلا أن اجتماعهم إجمالا يشبه باجتماع مدرسي جدي. أقول «مدرسي»؛ لأنهم من طلبة المدارس العليا، فهذا كان يدرس الطب، وذاك القانون، والآخر من طلبة الأزهر، وغيره من مدرسة القضاء الشرعي، وهيئة التلمذة عليهم جميعا إلا عبد الرحمن بك فهمي الواقف في مدخل الممر إلى القفص كالجبار، وعليه ملامح الحكام والوزراء.
1
حسن بزتهم يشير إلى درجتهم الاجتماعية، وفي عيونهم ترقص أنوار الحياة، وعلى شفاههم يبسم رونق النضارة، وفي ذقون بعضهم تلك الطبعة الجاذبة التي يحسبها أهل الفراسة علامة الحب الشديد ورمزا إلى أن في صاحبها احتياجا للشعور بأن له من يعزه ويحنو عليه. وإن حرمة شقي شقاء لا يدركه غير أمثاله، فكيف يحتمل هؤلاء حياة السجن وراء الأبواب المقفلة وفي عناء الأشغال الشاقة؟ وكيف يحتملون القيود والأغلال وكل ما هيأه المجتمع من نظام ولباس ويحول يأس الجاني إلى سخرية ظاهرة؟ وأي التوسلات ستنطلق من هذه الأفئدة، وأي الدموع ستلهب هذه المحاجر؟
تلاشى فجأة ما يحيط بي، واتسع القفص، وأضيفت إليه جميع الأقفاص في جميع محاكم العالم وقد حشر فيها الألوف والملايين، ورأيت في عيون الجناة صور جناياتهم، وفي عيون الأبرياء صور براءتهم، وفي جميع العيون أشباح الخوف والفزع. ثم انهدمت جدران القاعة وارتدت حدودها إلى ما وراء جميع المحاكم في الماضي والحاضر والمستقبل. وصار القضاة الخمسة ألوفا وملايين، ونظراتهم النافذة المستفسرة الباردة كالسلاح الأبيض تتجه نحو العيون المذعورة. وسمعت الأحكام على العبيد وعلى الملوك، على المظلومين وعلى الظالمين، وتراءت لي السجون بغمومها والأشغال الشاقة بذلها، وآلات التعذيب بهولها، وبدت أمامي وجوه الجرائم والفظائع والشرور فتقطعت أوصال إحساسي. وفي هذه الغرفة التي كانت تبسم منذ هنيهة سمعت صلصلة السلاسل وقعقعة القيود، ولمحت أحكام الإعدام على لابسي البذلات القرمزية السائرين نحو المشانق عراة الأقدام ...
ما هذه الضوضاء التي تخرج بي من هذا الكابوس الفكري؟ أكل هذه جلبة الحبال في الأعناق؟ كلا، بل حانت ساعة الانصراف، ورفعت الجلسة، وانفرط عقد المجتمعين وها هم يخرجون إلى الدهليز الوسيع المؤدي إلى الشارع. وهناك عند العمود الضخم المنتصب أمام المحكمة رفع أحد المتهمين نظره إلى إفريز العمود الأعلى ثم أداره سريعا إلى الأرض وأرسل زفرة محرقة، فنظرت إلى الإفريز الأعلى وإذا بطائرين قد وقفا جنبا إلى جنب ينشدان أنشودة الحياة والحب والحرية.
«سعادة» ملك اليونان
نقلت برقيات اليوم خبر عودة الملك قسطنطين والأسرة المالكة إلى بلاد اليونان، فقالت إنه قوبل بحماسة شديدة وروت عنه هذه الكلمة: «إني سعيد بالعودة إلى وطني.»
طبعي أن يسر المرء بالعودة إلى بلاد أقصي عنها وهو يحبها، طبعي أن يرتاح لاستنشاق هوائها، لا سيما وله فيها عرش كسائر العروش انتصبت قوائمه على قوة الاستمرار والتسليم بلا مناقشة. ليس تلاميذ المدرسة اليونانية الذين أسمعهم يهتفون لقسطنطين عند الانصراف هم وحدهم أطفالا يؤيدون من يجهلون وينادون بما لا يفقهون. الجمهور طفل بوجه عام. موجة ترفعه وموجة تدفعه. انفعال يطير به إلى قمم الجبال وانفعال يهوي به إلى أعماق الهاوية. يؤله الساعة من سيذل بعد ستين دقيقة وسيمجد غدا ما قدسه أعواما ودهورا. وهو في كل ذلكم هائج مائج، مسير غير مخير يتدافع بلا ترو أو تعقل.
ومن الغرائب أن الأشياء تقوى بالتضاعف إلا ذكاء الجمهور، فلو اختير خمسة أشخاص أو عشرون شخصا من أرقى الناس وجمعوا للمناقشة والبت في أحد الموضوعات، وأفرد لمثل ذلك شخص واحد متوقد الجنان ماضي العزيمة، فلربما جاء الفرد بما قصرت دونه الجماعة؛ لأن مستوى الذكاء يهبط في الجمهور ويختلط، بينا هو في الفرد يسمو ويتناهى. وهو حدث سيكولوجي معروف لدى علماء النفس. ولعل المقابلة بين قاموس الأكاديمية الفرنساوية الذي يشتغل فيه عشرات «الخالدين» منذ عشرات الأعوام، وبين قاموس لاروس الكبير الذي أنهاه فرد واحد دون مساعدة أحد، لعل هذه المقابلة مصداق يقبله كثيرون.
على أن كلمة الملك تستوقف الذهن وتنبه الهواجس عند ذويها. يقول إنه «سعيد بالعودة.» ولكن سبب هذه العودة راجع إلى موت ولده؛ إذ لو بقي الملك إسكندر على قيد الحياة ما تقيض لأبيه أن يغادر سويسرا في هذه الآونة. وإذا كان «سعيدا» بالنتيجة فكيف لا يكون سعيدا بما أدى إليها؛ أي بوفاة ولده؟
والذي ساقته الهواجس إلى هذه النقطة لا يحجم عن أن يخطو خطوة أثيمة أخرى، فيقول: إذا سعد الملك بتلك الوفاة بعد وقوعها، فأي مانع منعه عن أن يسعد قبلئذ بتخيل احتمال وقوعها؟ ترى ألم يمر في مخيلته خيال الموت وولده على فراش المرض؟ ومن يدري؟ ألم يتحرك في قرارة نفسه شيء يشبه الخوف أو ... التمني؟
لا، لا أريد استطراد التحليل، وسواء أكان هذا الوهم ممكنا أو مستحيلا في قلب والد أو والدة، فإن النفس البشرية تبقى دوما هي هي في ارتباك انفعالاتها واشتباك نزعاتها. ولئن كانت العواطف الأبوية قوية في الغالب فلكم ضحي من ولد لغاية شخصية، أو لأجل قريب، بل لأجل غريب إذا أحسن ذلك الغريب لمس الموضع الحساس من حب الذات، أو علل طمعا من أطماع النفس أو مناها بإحدى رغائبها ...
لمحة مرعبة في قلب الإنسان، فلنحولن النظر إلى ما هو أقل ادلهماما!
ماك سويني
على ذكر الملك إسكندر أقول إني - ككثيرين غيري - كنت أرقب الأخبار عنه صباح مساء كل مدة مرضه. لم أكن لأهتم بشخصه من حيث هو ملك اليونان «الموافق» الآن لسياسة الدول. لقد أتعستني الطبيعة - أو أسعدتني - بأن جعلت لفافة السياسة في دماغي جافة عقيمة لا تتأثر ولا تتحرك. إلا أنه كان مذكورا بالخير؛ لسحقه تقاليد راسخة وتحطيمه سلاسل وثيقة بزواجه من فتاة من ذوات الدم الأحمر الحيوي الفوار، بدلا من الدم الأزرق «الشريف»، الذي ليس بشريف ولا هو بأزرق في غير دعوى مدعيه.
كذلك كنت أهتم لأخبار ماك سويني؛ إذ كاد يدخل العليلان دور النزع معا، وقد توفي أحدهما بعد الآخر بساعات معدودات، وكل منهما بطل في بابه، ضحية في بابه؛ فهما مختلفان متشابهان.
ملك اليونان يقضي بعضة حيوان غاضب، يقضي مرغما تمرضه امرأة عزيزة. والآخر يقضي ببطء مختارا لا يداويه عزيز، ولا هو يسير بنشوة الحماسة وجنونها نحو الموت، بل ينتظره انتظارا رياضيا، منظما، متتابعا، متماسكا عنيدا. يموت لينفذ كلمة قالها عند دخول السجن: «سأخرج من هنا بعد شهر حيا أو ميتا.» ولم يثن عزمه ذكر زوجة وأبناء ينتظرون نعيه في البيت الخالي منه حيث لن يعود قط.
أي رجل كان ذلك الرجل؟ حمل ثقيل أزيح عن عاتقي عندما علمت بانتهاء آلامه.
لقد طالعت كثيرا مما كتب عنه في الصحف الإنجليزية وغير الإنجليزية، وقرأت يوميات دونها في سجنه، وقد تكون مختلفة أو محرفة. وحضرت قداسا أقيم في كنيسة القديس يوسف لراحة نفسه. وظهرت هنا بعض الصحف الوطنية مصدرة برسمه، وقد جرت في أعمدتها أنهار النظم تنويها بشجاعته وبطولته. أما أنا فلم أفهم بعد أية خدمة أدى إلى وطنه، وأي درس ستتلقى أيرلندا من موته سوى درس المثابرة والثبات؟
أليس من الخسارة الفادحة أن يلاقي رجل كهذا حتفه مختارا، ليعطي وطنه أمثولة كان في وسعه أن يعطيه عشرات لا تنقصها أهمية وإن اختلفت عنها نوعا في حياته، حتى إذا حانت ساعة الموت رحل عن الدنيا بميتة هي أنبل من الميتة الغبراء وأسمى؟
زواج الملوك
أثينا في 10 مارس سنة 1921:
احتفل في الكاتدرائية بزواج ولي عهد رومانيا بالبرنسيس هيلانة اليونانية.
روتر
زار ولي عهد رومانيا مصرا في الشتاء السابق قاصدا إلى اليابان، على ما أظن، وقد دعيت رحلته يومئذ «حمية النسيان» فصارت اليوم «رحلة الشفاء». أرسلوه يجوب الأقطار؛ ليسلو زوجته وولده وليقدم على إهمالهما وإنكارهما؛ لأنه هو الآخر فعل فعل الملك إسكندر واقترن بابنة ضابط بسيط، غير أن إسكندر اليوناني تزوج بعد ارتقائه العرش يوم لم تكن في الدولة فوق إرادته إرادة. أما كارول الروماني فحاول التملص من وثق تجعله إنسانا مركبا، مقيدا، رهين أهواء المناورات الدولية، فتنازل عن العرش الموعود، ورفض تاجا يهيئه له المستقبل، ورضي بأن يبقى رجلا بسيطا حرا سعيدا بزوجته وولده، وأن يتمتع بالحقوق العامة كأحد رعايا رومانيا دون أن يطمح إلى ميزة أخرى.
كان ذلك؛ فأرسلوه يسرح عواطفه بين ماء القارة ويابستها. وعندما عاد بعد ستة أشهر إلى عاصمة رومانيا كان خطيب هيلانة اليونانية. وإذ وقف يشكر الذين شربوا نخبه في الوليمة الرسمية التي أقيمت احتفاء بعودته، رفع الكأس بيد ثابتة وقال بصوت جلي أدهش الحاضرين: «علمت في رحلتي هذه أن المرء يخص وطنه قبل كل شيء.»
ولما كنت أقرأ وصف المهرجانات المعدة في أثينا احتفالا بمجيء الملك قسطنطين والعائلة المالكة كنت أفكر على رغم مني في امرأة تمزق قلبها أصوات الفرح. هي وحدها تلبس السواد في وسط الزينة والأبهة، وتبكي تحت نقاب الأرامل، بينما الملكة تركز على جبهتها تاجا كادت تفقده وترصع صدرها بجواهر العرش. تلك المرأة وحدها تذكر في وسط النسيان الشامل، وشيء كثير أن يكون للمرء قلب واحد لا ينسى.
وهناك امرأة تشبهها في بخارست، غير أن زوجها حي سعيد وقد تملكته من جديد أطماع الملوك وأطماع أنصاف الملوك، وتهلل شعبه بهداه، أو على الأقل زعم أنه تهلل. الجريمة التي يعاقب عليها القانون بصرامة في طبقات المجتمع على اختلافها يرغم على ارتكابها من يعد بعد الملك منبع الشرف في الدولة، ويحسبون امتثاله وذله عقلا وحصافة، فيسارع ملك آخر إلى تسليمه يد ابنته وحياتها. ومن توفرت له هذه المزايا فلا بد أن يكون في الغد ملكا عظيما ...
أرملة إسكندر في أثينا، وأرملة كارول في بخارست: ترى أي المرأتين أشقى؟
الشباب والموت
لم يهمل سادتنا العلماء موضوعا هو في نظر بعضهم الموضوع الأمثل.
نحن نسمي هذه الدنيا «وادي الدموع»، ثم نشفق على الذين يغادرونها، وأقصى ما نتمنى هو أن نعمر طويلا متمتعين بخصائص القوة والصحة والشباب.
لقد استولت تلك الأمنية على قلوب الناس فجعلتهم آنا كاذبين محتالين، وآونة خونة مارقين. كم أفسدت من عمل نبيل! وكم قادت إلى فظيع الجنايات!
كل منا يريد التفلت من شباك الردى ليطيل الجلوس في مأدبة العمر مراقبا مناظر الطبيعة، متسقطا أخبار العالم، نائلا حظه من التنعم والتلذذ، ومن التوجع أيضا. ولكم متن قيد الألم حتى تجاوزه الفل، بينا قيود الحبور مقطعة الأوصال، لا تفتأ تصهر مادتها لتستحيل ألما ذا طعم جديد.
كذلك أخذوا يبحثون عن «عين الحياة» التي أوجدها زفس
1
فوصفها أحد علماء الجغرافيا وصفا ... جغرافيا، وارتأى كاتب روائي أنها تأتي من النيل ومن أنهار الفردوس الأرضي، وأن قطرة منها تعيد إلى العليل صحته وإلى الشيخ شبابه. ومضى يطلبها رحالة إسباني فاكتشف مقاطعة فلوريدا، وهي من الولايات الأمريكية المتحدة. وانحنى الكاباليون على الصهور الكيماوي يبحثون عن مادة الشباب فتبارى بايكون، وسن جرمان، وكاليوسترو في تركيب «إكسير الحياة»، وتعددت الكتب الدالة على وسائل إطالة العمر وحفظ الشباب. ومتصفح جريدة «السائح» النيويوركية ومجلة «الأخلاق» يرى هناك إعلانا عن كتاب «الاكتشاف الثمين لإطالة العمر مئات من السنين» بقلم الدكتور لويس صابونجي السوري الذي كان سكرتيرا ثانيا للسلطان عبد الحميد وأستاذ التاريخ لنجله البرنس برهان الدين.
وها أخذت تهتم الدوائر العلمية بمباحث الدكتور فرونوف وتجاربه الدائرة حول استبدال الغدد المتداخلة بين الأنسجة بغدد جديدة تستخرج من الحيوانات. ويقال إن النجاح باهر يحول الشيخ شابا بلا وجع ولا ألم، بل بحقنة بسيطة تحت الجلد.
إلى هنا وصلنا من طمعنا الأكبر. وحسن أن يستعيد المرء شبابه وأن يحفظه طويلا، ولكني لا أرغب في إبعاد الموت عن البشر.
لقد وصف الكاتب الإنجليزي «سويفت» في كتابه «رحلات جلفر» حال قبيلة استرالدبرج المحتم عليها أن تعيش دواما، فقال إن أعضاءها يصرفون المئة سنة الأولى وشأنهم شأننا نحن النوع الآدمي، حتى إذا تجاوزوها أصيبوا بكآبة يائسة وساورتهم الهموم والغموم. ينادون الموت فلا يلبي نداءهم، ويجدفون على الحياة كلما شهدوا موكب جنازة، ويمقتون الطبيعة التي حرمتهم لذة الموت وهناء الاستسلام إلى الراحة الدائمة.
وأي نصيب أمر من هذا؟
ألا إنما قيمة الحياة في رهبة الموت الذي هو جزء منها. وإذا أدرنا البصر في أحوال الناس ورأينا تلك الوجوه السقيمة، والأجسام المشوهة، والأعضاء البتراء، ورأينا ذوي العاهات الأخلاقية الذين ينزلون في المجتمع المصائب والأوصاب ويظلون عالة عليه طول حياتهم، إذا رأينا ذلك أدركنا ضرورة الموت وعرفنا فيه محسنا كريما.
ثم، أي اسم غير اسمه يخفف من حزن الحزين؟ وأي خيال غير خياله يلطف من يأس الآيس؟
عائدة تتذكر ...
أي هذا المار أمام معاهد التعليم، ما أجهلك بما وراء الجدران من متزاحم العواطف ومتضارب الانفعالات! هناك هيئة اجتماعية صغيرة. والعمر الذي تحسبه أليف الصفاء والغفلة والهناء إنما هو كالشباب والكهولة والشيخوخة أسير حمى الحياة. هناك جميع صنوف الناس: المتين والمتطير، المفكر والأحمق، الشجاع والجبان، الرصين والطائش، الشخصية الممتازة والشخصية العادية، النفس الأبية الشماء والنفس الدعية المتبذلة. وما الطفولة إلا مقدمة قد يكفي أن تطالعها أحيانا لتلم إلماما سريعا بما ضمنه الكتاب من تفصيل وإسهاب.
كانت عائدة ذات طبيعة غنية خصبة. تحب الجري واللعب والضحك، أي بنية لا تحب ذلك؟ وتبتكر للهو أساليب طريفة ترفعها في تقدير رفيقاتها، ولكنها كانت وحيدة الروح. وكثيرا ما تنزح عن ميدان اللعب إلى الحجر المنفرد في أطراف الساحة، فتجلس هناك ناظرة إلى البحر البعيد، إلى زرقته الفيحاء واستدارة الأفق المخيم عليها، متمتعة بجمال الطبيعة ومتهيبة إزاء روعتها جميعا، فترى السفن، وقد تضاءلت بشاسع المسافة، مارة في تلك الزرقة القصية بكياسة ورشاقة، تترك وراءها خطا أبيض طويلا لا تعرج فيه، عندئذ تمعن عائدة في تفحص ذلك الخط المستقيم، كأنما هي تقابل بينه وبين خط آخر رسمه في داخلها مرور سفينة من سفن أحلامها شقت أمواه نفسها العميقة.
كانت تحسن ركوب الخيل على حداثة سنها، وقد قطعت على ظهر الجواد سهولا وجبالا نبضت حياة التاريخ تحت الأرض منها، وبين الأشجار، وعلى الصخور وحول القمم. ما شهدت جلال الطبيعة إلا عادت إليها تلك الذكريات مع صدى الأغاني الوجدانية التي ينشدها أهل المضارب في الظلام، فتثير بين ستائر الخيام أنة جزع وغرام. أمام البحر ها هي شجية تتذكر، فتنشد من الألحان البدوية ما تهتز له أوتار قلبها. •••
تكونت بينها وبين إحدى الراهبات، على مرور الأيام، صداقة حارة تنشأ أحيانا بين النساء الجامعات بين غزارة العواطف وحدة الذكاء، ولعل تلك الراهبة كانت وحيدة بين الراهبات وحدة عائدة بين التلميذات.
لم تكن الأخت أوجني من معلمات عائدة، فهذه من بنات «الداخلية» والأخت أوجني تتولى تدريس أصغر الصفوف في «الخارجية»، وليس بين المدرستين غير الصلة الحجرية؛ لأنهما في طرفين متباعدين من بناء الدير الواحد، فكانت الفتاة تقول لنفسها: «لو كانت هي معلمتي لتفوقت في صفي إرضاء لها، بدلا من أن أرغم الآن على العمل تحت مراقبة راهبة لا أحبها، وإن قالت لنا الرئيسة إنها حفيدة مارشال فرنسوي. ما أقل اهتمامي بك وبحفيدتك أيها المارشال العظيم! وكم يسوءني أن أطيع حفيدتك، أيها المارشال العظيم! وكم أكره الواجب؛ لأن حفيدتك تدعو إليه، أيها المارشال العظيم! ما أجهل الناس بأساليب الإخضاع والتعليم! إذا كان وجه الطاعة والواجب عابسا، كما يقولون، ألا فلتأت الدعوة إليها من أصوات نعز منها الوجوه في حالتي البشاشة والقطوب ...»
لم تكن عائدة في سن أو في درجة عقلية تستطيع معها الإفصاح عن رغبتها بمثل هذا الكلام، وإنما ذلك ما كان يخالج ضميرها. والتعبير عن الشعور إن لم يبرز بيانا منسقا واضحا فقد برز زفيرا حارا؛ لذلك كانت الصغيرة تصغي إلى صوت فؤادها وتتنهد.
قل ما اجتمعت الصديقتان في غير الكنيسة؛ حيث تحتشد عشرات الراهبات ومئات التلميذات من داخليات «بانسيونر»، وبنات الميتم، وبنات المشغل، وبنات التفصيل، فتدخل كل جماعة في الوقت المعين وتجلس في مكانها تحت رقابة المعلمات. وعند انتهاء الصلاة تنصرف كل جماعة في دورها فلا يختلط الفتيات، ولا يتحاذين، وإن تلاقين صدفة فلا يتخاطبن. يعشن غريبات في دير واحد؛ لأن هيئتهن ... الهيئة الاجتماعية بما بين أعضائها من فروق المراتب.
وقد تلتقي الصديقتان صدفة في الحديقة أو في أحد الممرات فتتبادلان الأخبار بسرعة، بينما العيون تتحدث بلغتها المختلفة، غير أن عائدة لم تكن لتقنع بهذه اللحظات النادرة، فتتحين الفرص لتذهب خلال نزهة الظهر، ولو دقائق، إلى الجناح الآخر من الدير وتدخل على الأخت أوجني وهي تطرز وحدها في المدرسة منتظرة وصول تلاميذها وتلميذاتها.
ما أخطر هذه المجازفة وأعظم هذه الجرأة! ولكن الفتاة كانت تكافأ؛ إذ ترى أمارات السرور على وجه الراهبة وتسمعها قائلة: «انظري إلي يا عائدة!» ثم تقول: «يجب أن تتعلمي الخضوع للقانون وألا تعودي إلى مثل هذه «الفلتات». والآن أستودعك الله، اذهبي يا ابنتي، اذهبي يا صغيرتي ولا تنسيني.»
يا ابنتي، يا صغيرتي، بمثل هذا تنادي الراهبات جميع التلميذات، ولكنه من فم الأخت أوجني نشيد سماوي يظل صداه مترددا في جنان عائدة. •••
جددت هذه «الفلتة» اللذيذة يوما ووقفت عند عتبة الراهبة وهي تلهث تعبا واضطرابا. رباه، ماذا ترى في هذه الغرفة وماذا تسمع! بين ذراعي صديقتها فتاة تقريبا من عمرها هي عائدة. الفتاة تبكي والراهبة تواسيها بصوت شفيق قائلة: «لا تبكي يا ابنتي، لا تبكي يا صغيرتي!»
لم تلمح هذا المشهد حتى انقلبت راجعة من حيث أتت. سمعت الفتيات في الخارج يتحسرن على هند؛ «لأن أمها ماتت»، ففهمت وقالت: «مسكينة هند.» ولكن شفقتها كانت سطحية لاستيائها من هند المجهولة هذه التي أخذت مكانها، والنداء الذي يجب أن تنادى به وحدها، الأخت أوجني هي! هي! تستعمله لتعزية الفتاة الغريبة ...
آه من خيانة البشر! آه ما أضيق الحياة! ما أثقل جدران هذا الدير وأرهب ظلها المنعكس على ساحة اللعب مختلطا بظل الأشجار الكبيرة! وتبا لهذه الأشجار فقد مشت الأخت أوجني الخائنة تحتها! وتلك الفروض التي يجب أن تكتب! وتلك الدروس التي يجب أن تستظهر! ما أطيب الموت! أين أنت أيها الموت؟
مسكينة عائدة! كانت قوية الشعور فطرة وقد ساعدت تربيتها الأولية على تقوية عواطفها وإرهافها، ولم يكن لديها العقل اللاجم ولا الخبرة الحكيمة. وكم من امرأة تقضي عمرها على هذه الحال فتشقى وتشقي، وهي لا تدري أنها مريضة في أعصابها، وإن نسبت ذلك إلى الرقة. نعم، الحياة تافهة إن لم يبهجها نور الحب ويعظمها سناء الفكر، ولكن بين هاتين القوتين الجليلتين وسخافة الغيرة بونا شاسعا.
وصارت عائدة توجه إلى الراهبة كل كلمة حواها كتاب الصلاة في هجو الشيطان واحتقاره. وتلخصت معاملتها لها في إظهار الاستياء والاستنكاف إلى درجة المبالغة. وكلما أبدت الصديقة الكبيرة ألما زادت الصغيرة الشريرة تعذيبا. •••
تكاد حيوية الشر تتغلب على حيوية الخير، ولكن القلب الوفي لا يفتأ يلتمس من المحبة غذاء ودواء؛ لذلك أفرغ قلب عائدة الكره في أسابيع وأخذت تتسرب إليه الكآبة.
أخذت تكتئب لا سيما وقد دنا عيد الميلاد وأسرعت أيام العام الأخيرة نحو هوة العدم. يخيل أن هذه المواسم أعلام العمر أو محطات على خط الرحلة منه، فتحتاج القلوب إلى مضاعفة المحبة والصداقة والعطف والتبحر، بينا قلوب أخرى تلهو بالرقص واللعب والإنشاد وما شاكلها من أمور خارجية.
وكانت تكتئب؛ لأن رفيقاتها الصغيرات أخذن يغادرن الدير ليصرفن الأسبوع بين أهلهن المقيمين في المدينة أو في ضواحيها. وعائدة من بلدة بعيدة كل البعد؛ لذلك لا يزورها من ذويها في العيد أحد. وستقضي هذه الأيام وحدها بين أولئك النسوة الصائمات، المصليات، الزاهدات، اللائي كانت تشعر بأن منهن غير السعيدات رغم امتثالهن الظاهري؛ فتودع رفيقاتها الواحدة بعد الأخرى متمنية لهن عيدا سعيدا، حتى إذا مضت أخراهن انطلقت إلى الكنيسة وحجبت وجهها بيديها وأجهشت بالبكاء. وإذا بصوت مألوف يهمس في أذنها: «تعالي يا عائدة، فقد سمحت الأم الرئيسة أن أشترك وإياك مع الأخت حنة في تهيئة المذود.»
فانتصبت الفتاة وفرت هاربة إلى حيث لا يعثر عليها، وشهقت متفجعة تقول: «أواه! إنها تشفق علي، إنهن يشفقن علي! ربي، ترى أيهما أمر، أخيانة البشر أم شفقتهم؟» •••
وكان مساء العيد حزينا، وجوه مكفهرا، والدير صامتا، كتوما، مرمريا كالمقابر القديمة يضن بخفاياه. وكان لعائدة يومئذ أن تفعل ما شاءت دون قانون يقيدها فتقضي أكثر أوقاتها في غرفة الموسيقى المنفردة في أطراف الحديقة تخيم عليها الأشجار ذات الغصون العارية.
هناك جلست طويلا والسماء تمطر رذاذا، ثم نهضت إلى البيانو وما كادت تمس أصابع العاج حتى سحبت يدها قائلة: «ما أشد برد البيانو!» ثم أضافت: «بل البرد في يدي، البرد في روحي، البرد في وحدتي وغربتي! إني جليد ولكني جليد يتعذب، وأشعر بأن كل ما في هذا الدير جليد حي ينبض ويتعذب ويبكي!»
ألقت برأسها إلى خشب الآلة الموسيقية، على أن يدا لطيفة اجتذبتها مداعبة شعرها وخدها، فصرخت الفتاة قائلة: «اتركيني! لا أريد أن يشفق علي أحد؛ لأني لا أطلب الشفقة !»
فقالت الأخت أوجني: «وإذا طلبت أنا شفقتك أتضنين بها؟» وتابعت بصوت خافت مملوء بتعنيف عذب: «ألم تفكري في كل هذه المدة؟ ألا تحتاجين إلي في هذه الأيام مثلما أحتاج إليك؟»
وبدلا من أن تبكي عائدة على خشب البيانو البارد الصلب، أخذت تبكي على صدر لين دافئ علق عليه الصليب الفضي رمز التضحية والامتثال، واكتساب الحياة بالموت الاختياري. •••
رأيت عائدة اليوم في أحد المخازن أمام مذود نام فيه تمثال الطفل تحيط به رموز عيد الميلاد المختلفة، فقلت: «أتذكرين أيام المدرسة يا صديقتي؟» فأجابت «أذكرها على الدوام.» وأخذت تفكر في شيء بعيد، فحدقت في عينيها، وخيل إلي أني أرى هناك رسم ابنة اثنتي عشرة سنة اتكأت على صدر علق عليه الصليب، وقد انحنى على وجه الفتاة الباكية وجه الراهبة الحزين.
فقلت: «أتذكرين الأخت أوجني أحيانا؟» فأشارت بالإيجاب، قلت: «حتى بعد مرور أربع عشرة سنة تشجيك تلك الذكريات الصبيانية؟»
فلزمت عائدة الصمت وقد بدا وجهها مهيبا، ثم قالت: «ذكريات صبيانية؟ وهل نحن الآن غير أطفال؟ وهل الشباب والكهولة والشيخوخة سوى مظاهر أخرى من الحياة الدائمة الطفولة؟ ما مر بي يوم إلا زدت اعتقادا أن ما نراه، ونشعر به، ونختبره في الحداثة إنما هو، هو ما نشهده متتابعا من عام إلى عام، ولكن بصورة أكبر، في ميدان العالم الوسيع.»
حكاية السيدة التي لها حكاية
لكل من الناس حكاية أولية يتناقلها الأقارب والأباعد بلهجاتهم المتعددة ويفهمونها بعقلياتهم المختلفة، وينسجون حولها حكايات كثيرات. يسرد الواحد «الحكاية» الأولية عن ذبيحته في تلك الساعة ثم يزيد قائلا، وله معي أنا أيضا «فصل»، وله مع زميلي «عبارة»، وله مع الآخر «طابق» ... إلخ. ويجود بهذا الطابق والفصل والعبارة شارحا متبسطا منمنما مزخرفا. ويصغي الآخرون متعجبين متأففين، ويتعوذون بالله العلي العظيم، وينكتون ويتهكمون كأنهم لم يأتوا هم ولم يأت بشر قبلهم شيئا شبيها لما يسمعون. وبدهي أنهم في تطبيق الأحكام على سواهم لا يراعون قانونا مرنا يستعملونه في الحكم على نفوسهم، والقاعدة الذهبية القائلة بحب القريب ومعاملة الآخرين بمثل ما يود المرء أن يعامل، لا تزال قاعدة ذهبية ... فحسب.
لا يراعي الناس في حكمهم على الآخرين ما يجيزونه لأنفسهم، وإنما يحكمون وفقا لنصوص صلبة جمعت في الجدول الأخلاقي الذي يتسلحون به أمام بعضهم بعضا، فإذا ما طرحت العيوب في سوق المزايدة، هي مزايدة لا تقبل المناقصة مطلقا، عمد المتحدثون الذين صار كل منهم في ذلك الموقف بارا صفيا وقديسا مفضالا، عمدوا إلى ذلك الجدول الصارم كوجه الجلاد. وكما أن جدول الحساب الذي وضعه فيثاغورث اليوناني هو جدول ضرب كذلك كان الجدول الأخلاقي لمساوئ العباد والحكم عليها، جدول ضرب تعالت أرقامه الشريفة عن كل طرح شائن! •••
كثيرا ما كنت ألتقي بالسيدة غ. ب في أماكن مختلفة؛ في الكنيسة، والحفلات الموسيقية (كونسرت)، والمخازن الكبرى، وكان يندر أن أسير في شوارع حي الإسماعيلية كشارع قصر النيل، وعماد الدين، والمغربي، والمدابغ، وسليمان باشا، دون أن أراها مارة كأنها تقطن هذه الجهات أو قريبا منها، فإذا كنت مع صاحبة أو رفيقة لفظت بيننا تلك الكلمة التي يتبادلها النساء، والرجال أيضا مع احترامي لسادتنا الأجلاء، لدى مرور سيدة ذات ميزة ما، تلك الكلمة هي «انظري! انظر!» ولتلك السيدة غير ميزة، فهي معروفة بجمال الصوت وقد سمعتها في حفلتين اثنتين. وهي أنيقة الهندام تتزيا بأحدث الأزياء، بل هي من السابقات إلى ترويج الأزياء الحديثة في القاهرة، ويقولون إنها حسناء.
كنت أشاهدها عن بعد فيستلفتني إليها ذلك الشيء الخاص في كل إنسان وليس هو الهندام، ولا ملامح الوجه، ولا الحركة، ولا السكوت ولكنه شيء مبهم يختلف باختلاف الأشخاص. ويزعم بعض أهل الفراسة أن مقره بين العينين، ويدعي غيرهم أنه في إنسان العين، أو حول الفم، أو في خطوط الشفاه، أو في ارتكاز الذقن. وأنا لا أعلم سوى أنه موجود وأنه المكون الأكبر لما نسميه «معنى» الشخص. وهو عند بعضهم قوي، شديد التأثير، يلتصق بنفس الرائي فلا يعود ينسى ذلك «المعنى» ولا ينسى حامله.
بعد كلمة «انظر! انظري!» لا بد من «حكاية» عن موضوع النظر. وهكذا سمعت عن تلك السيدة حكايات جمة جعلتني كثيرة التفكير فيها أسائل «معناها» الباقي في نفسي: ماذا علي أن أصدق من كل ما قيل ويقال؟ ويزيد اهتمامي بها بتراكم الحكايات عنها، كأني ذلك الرجل الذي تعرف إلى أحد المشاهير وقال: «سمعتهم يذمونك فشاقني التعرف بهولك.»
عيناها كانتا أعلق الأشياء بحافظتي، هما عينان متغيرتان تظهران مرة عيني امرأة وجيعة صابرة، وحينا تفكران معرضتين عن جميع مظاهر الحياة، ويوما تكنان نظرة لا قرار لها، وتخترقان الأشياء إلى فضاء يحيط بها، كأنهما ترقبان في الهواء إشارات يد غير منظورة. وطورا تبدوان كعيني الشخص الاجتماعي الذي يتمتع بأفراح عادية ويكتفي بها غير متخيل وجود ما يفضلها. ثم تتألقان سعيدتين كأن الحياة أشبعتهما مسرات لطيفة هادئة وحققت منهما بعيد الأماني. إلا أني كنت أحبهما عندما تذبلان وينطفئ نورهما كأن صاحبتهما شاخت في أسبوعين خمسين عاما. ثم ألتقي بها مرة أخرى فأحسبها في ثوبها الوردي، وبرنيطتها المرفرفة على وجهها، طفلة تنتظر من الوجود جميع صنوف الهناء. •••
أقامت يوما نخبة غواة حفلة موسيقية في قاعة الأعياد الكبرى بفندق شبرد. وقد أشرف على تنظيمها أستاذان شهيران هما السيدة ك. أقدر معلمة بين الأجنبيات المتعاطيات تدريس فن الغناء، ولها في منزلها اجتماعات حافلة بأجمل أصوات القاهرة من نساء ورجال درسوا عليها والتفوا حولها. والسنيور ف. الذي يقطن هذه المدينة منذ أعوام وقد كثر تلاميذه وتلميذاته من مختلف الجاليات، وتزايد عدد أصدقائه والمعجبين به الذين يرون معجزاته على البيانو متجددة كل يوم، مدهشة كل مرة.
في تلك الحفلة غنت السيدة التي لها حكاية إلا أني لم أجد من يحدثني عنها، ربما لأن أكثر الحضور من أهل الغواة، فكلما عزف عازف أو أنشدت منشدة زف الجمع التهاني إلى ذويه وذويها؛ ليضمنوا بذلك تهاني تزف إليهم عندما يغني أولادهم ويعزفون. تلك المرأة لم يكن لها أهل، ومع ذلك فقد أحدث إنشادها تأثيرا كبيرا وأثار تصفيقا حادا لم تكن تقابله هي بغير السكون. وقد أطل من عينيها لهيب قاتم عميق وارتدت ملامحها هيئة آمرة تبعدها عن الشباب والشيخوخة معا ، وتجعلها شبيهة بالتماثيل التي لا تتغير شاراتها وتظل في أوضاعها ثابتة على الدوام.
فكرت فيها طويلا ذلك المساء، وألفت من كل ما سمعت عنها رواية كئيبة فقلت لنفسي: «يا للخسارة! لماذا تتجاهل هذه المرأة ذاتها؟ لماذا لا تنسى أنها حسناء فترتفع إلى القمة التي أراها أهلا لبلوغها؟»
وفي الغد جاء السنيور ف. ليعطيني درسي الموسيقي ولكن بدلا من أن يأتي في الساعة الحادية عشرة، وهي الوقت المعين، جاء قبل الظهر بعشر دقائق. دخل يفرك يديه وعيناه تلمعان وراء زجاجتي نظارته، فتذمرت وقلت: «إنك لا تبالي بوقتي يا أستاذ، لقد أتلفت صباحي، بل نهاري كله!» فضحك ضحكة ابتدأت في قرار معتدل وانتهت فيما يشبه زقزقة الطيور وقال: «أنا لست أستاذ رياضيات لألزم بالمجيء في الوقت المعين.» وفرك يديه من جديد ليستشهد بالمثل الفرنسوي القائل: «بعض التشويش ضروري لتجميل الفن.» قلت: «ولكن وقتي ...» فقاطع قائلا: «الدرس، الدرس.» وسمع الجيران مدة ساعة طويلة تلك الضوضاء الخاصة التي يحدثها التمرين والمراجعة في حضرة المعلم.
ولما انقضت الساعة بإجهاد وسلام طلبت حقي. والسنيور ف. يعزف لتلاميذه القطعة التي يطلبونها إذا كان راضيا عنهم. وحقي الذي طلبته يومئذ قطعة موسيقى روسية كان قد عزفها في حفلة اليوم السابق. •••
فجلس إلى البيانو وقبل أن يبدأ تكلمنا عن «الكونسرت»، وتبادلنا الآراء في أصوات المنشدين والمنشدات حتى وصلنا إلى ذات الحكاية، فسألته: «أهي من تلاميذك؟»
أجاب: «كلا ولكنها من تلميذات السيدة ك. وقد اجتمعت بها عندها غير مرة.»
قلت: «أسمعهم يلقبونها تارة بالمدام وطورا بالمدموزيل، أمتزوجة هي أم عزباء؟»
فتنهد وقال: «يا لها من امرأة مسكينة!»
فقلت: «وهل من ظروف حياتها ما يحرك الشفقة إلى هذه الدرجة؟»
فقال: «ومن ذا الذي لا يشفق على امرأة جمعت بين الحسن والذكاء والصلاح وهيأتها الطبيعة لتسعد وتسعد فلم يكن نصيبها إلا الشقاء؟»
قلت: «أي شقاء تعني؟»
قال: «كيف؟ ألا تعرفين حكايتها؟»
قلت: «أعرف عنها نتفا مبعثرة. ومن ذا الذي يستطيع أن يرسم لحياة امرئ صورة جلية من كلام الناس؟»
فتنهد مرة أخرى ، وجرت أنامله بسرعة على السلم الموسيقي كأنه يسرح شيئا من أسفه أو يبحث عن أسلوب جديد لحكاية قديمة. ثم غشت نظرة سحابة وقال: «كان والد هذه الفتاة قاضيا في المحاكم المختلطة وهو على جانب كبير من العلم والذكاء، فعلم ابنته وثقفها أحسن تثقيف. ولما جاء وقت الزواج جرى لها ما يجري لفتيات كثيرات؛ أي إن والديها انتقيا لها خطيبا أجنبيا مثلها، رأيا فيه ما يملق مطالبهما الاجتماعية. وكان على الخاطب مسحة من الجمال فلم تعارض. ورضيت كما ترضى الكثيرات من أخواتها ليفرحن بالأثواب، والأساور والحرية المنتظرة، فتزوجت في عرس فخم دعي إليه أعيان الجاليات الأوروبية. ولم يكن حتى استولى الزوج على البائنة المتفق عليها.»
وقف الأستاذ عن الكلام، وقد بدت على وجهه سيماء الخجل والرحمة والاحتقار جميعا. ثم قال بعد سكوت قصير: «كم أشقت المرأة من رجل، وكم مزقت من شمل، وكم كسرت من قلب! ولكن مسكينة هي عندما لا تكون شريرة! مهما علت في عين نفسها، ومهما تحررت من قيودها، ومهما بالغت المناديات بحقوقها في رفعها إلى مستوى الرجل فإن حياتها، كل حياتها، تظل في قبضة هذا الرجل الذي تزعم أنها مثيلته، وما هي في الواقع سوى ما يريد هو أن تكون، فإذا كان حرا نبيلا جعلها حرة نبيلة، وإن كان ذليلا حقيرا حقرها وأذلها، فهي ألعوبته، وهي عبدته، وهي الشيء الذي يتصرف به في سائر الأحوال. وبعض ذوي الضمائر من الرجال تروعهم هذه السلطة على المرأة، وهذه القدرة التي تهزأ بتقلب السياسة والاجتماع؛ لأنها أقوى من الاجتماع والسياسة وأمكن باستنادها على الطبيعة نفسها، فيحجمون عن الزواج خوفا من نفوسهم.»
ضايقتني هذه التعليقات على أهميتها؛ لأني كنت أرغب في استماع البقية، فقلت: «ثم ماذا جرى؟»
قال: «جرى أن ذلك المتحذلق كان مقترنا سرا بامرأة أخرى، وكان يحتاج إلى نقود فكان الزواج أسهل وسيلة للفوز بحاجته. وبعد ثلاثة أسابيع اختفى.» - «وكيف اختفى؟» - «خرج من منزله ولم يعد، فجنت زوجته في الأيام الأولى؛ إذ ظنت أنه قتل. ومرت الأسابيع فشاع خبر سفره مع زوجته الأولى، فأرسلوا يبحثون عنه في بلده بإيطاليا، وهنا غص السنيور ف. بريقه؛ لأنه إيطالي، ولكن ذهبت أتعاب البوليس سدى، ولم يجدوا له أثرا لا في إيطاليا ولا في غيرها من بلاد الغرب. ولم يطل حتى توفي والد هذه المرأة التي غدرت في شبابها، وفي حبها، وفي مالها، وفي مركزها، فأمست وحيدة فقيرة، والكنيسة لا تحل زواجها؛ لأن الرجل لم يكن مرتبطا مع زوجته الأولى بزواج كنسي، بل كان زواجه اتفاقيا فقط. القانون يعاقب على هذا، ولكن كيف يصل القانون إلى من ضاع في المجهول؟ ولو كسرت الكنيسة زواج المرأة لظل الناس في ريبة من أمرها؛ لأن المظلوم أكثر تعرضا للشبهات والتخمين من الظالم، لا سيما إذا كان المظلوم امرأة والظالم رجلا؛ لذلك ترين الناس يؤولون كل حركة تأتيها؛ لأنها حلت على ألسنتهم وصارت لأفواههم مضغة سائغة. ولو قضت أيامها بالصوم والصلاة والتقشف لما أنصفوها. ومهما نقدتهم الثمن غاليا فلا يبيعونها ذلك الاعتبار الوهمي الذي يتزلفون به لدى أهل الجاه والثروة والسلطان، أو لدى من أتقن «البلف» عليهم، فأي غاية لهذه المرأة من الحياة؟ لا هي طليقة تتصرف بأيامها، ولا هي مقيدة تجد في تحطيم قيودها تعزية وسلوى. هذه حياة بتراء أشقاها الرجل كما بتر وأشقى مثلها وقبلها كثيرات ...»
قلت: «ولكن كيف لم تشعر هي خلال الخطبة أنه يخادعها؟»
قال: «لا أدري كيف لم تفهم هي، ولم يلمح أهلها شيئا من ذلك.»
قلت: «لعله تزوجها مخلصا إلا أنه ظل يفكر في تلك التي ربما كانت على جمال عظيم.»
قال: «يقول الذين يعرفونها إنها عجوز شمطاء، ويتعجبون كيف يرضى بها هذا المتوقد المتأنق جارية.» ثم أطرق قليلا وقال: «ولكن ليس للشباب والجمال دخل في هذه المسائل. الجمال يبحث عنه في الصالون، والمسرح، والاجتماع، والشارع، والمرأة المليحة تجذب النظر عادة أكثر ممن كانت أقل ملاحة. على أن تأثيرها لا يتعدى ذلك، والتاريخ شاهد على قولي. وأقرب شواهد التاريخ نجدها في ولي عهد النمسا الذي نشبت الحرب إثر مقتله، وهو الذي أعرض عن جميع الأرشيدوقات النمساويات الباهرات الجمال، وعن جميع الأميرات في الدول المالكة، وتنازل عن العرش والتاج غير مرة ليتزوج بمن هي أقل النساء ظرفا وحسنا. وهي الكونتس دي شوتك وصيفة إحدى قريباته، التي صارت بعد زواجها الدوقة دي هوهنبرج، وقد قتلت معه في مفجعة سراجيفو.»
وعدل السنيور ف. جلوسه وأخذ يعزف قطعة حماسية حزينة من وضع بتهوفن وهي «مارش جنازة البطل» (Marcia funebre d’un eroe) . •••
رأيت البارحة، في حديقة بضواحي القاهرة، السيدة ذات الحكاية. فهمت الآن لماذا يتغير معنى عينيها، ولئن لم أدرك بعد تماما ماذا تعني كلمة «حياة بتراء»؛ فإني أدرك أن الحياة تهيئ لبعضهم ظروفا لم يحلموا بها، ولو حلموا لتلافوها مشيا على الأشواك والجمرات. وعلمت أن في ذلك القوام المعتدل، وفي ذلك الهيكل الذي يمثل القوة والأنفة قلبا، قد يكون جرحه الحب الصادق يوما إلا أنه اليوم يعذبه سرطان تتمدد منه الأصول في جميع نواحيه، ذلك السرطان العريق الذي لا يقتلع؛ احتقار الحياة وعدم الثقة بالناس.
ساعة مع عيلة غريبة
الأشخاص
متاتياس:
مالي من رجال البورصة.
أغابي:
زوجته يونانية الأصل تظهر اللكنة الأعجمية في لفظها.
مدام سالم:
أخته الكبرى ضيفة عنده مع زوجها.
الدكتور سالم:
صهر متاتياس.
سميحة:
أخت متاتياس الصغرى. عزباء تسكن معه. وقد توفيت والدة هؤلاء الأخوة الثلاثة على إثر ولادة سميحة.
شفيق:
طالب في مدرسة الحقوق، أديب وموسيقي، أخو متاتياس لأبيه، وقد توفيت والدته كذلك بعد وفاة أبيه، يصغر سميحة بعامين أو أكثر قليلا.
المكان
منزل فخم في رمل الإسكندرية.
الوقت
بعيد الساعة التاسعة صباحا.
متاتياس (جالس أمام المائدة يتناول طعام الفطور وإلى يمينه زوجته، وإلى شماله شقيقتاه مدام سالم وسميحة. يتحادثون عن أشياء عادية كالمغص الذي تألم منه الولد، والخصام بين الخدم، والمخصر على طاولة البكارا البارحة، وكم ربح الجيران من مدخول البوكر في الشهر المنصرم ... إلخ. يدخل شفيق بلا تسرع ويجلس بهدوء في مكانه قرب سميحة. متاتياس يرقبه بشيء من الاستياء ثم يتنحنح ليجلو صوته ولينذر السامعين بأنه سيقول شيئا خطيرا، مخاطبا شفيق) :
صح النوم !
شفيق (بعد سكوت قصير) :
لم أكن نائما، أنا آت من حمام البحر.
متاتياس :
من حمام البحر؟ إذن هذه الليلة لم تنم كعادتك؟ (شفيق يصب القهوة في فنجانه معرضا)
إذن تريد أن تنتحر انتحارا؟ أتظن أني سأحتمل هذا طويلا دون أن أدعك تشعر بأن لك من يسيطر عليك؟ في الليل بدلا من أن تفعل كسائر الخلائق فتسهر في تياترو أو في سينما ...
شفيق (مقاطعا بأدب) :
وهل من شروط الخليقة أن تسهر (مفخما اللفظة)
الخلائق في تياترو أو في سينما؟
متاتياس (دون أن يلتفت لمقاطعته) : ... أو معنا نحن أهلك؛ فإنك تذهب إلى مجتمعات الدعوى، والكلام الفارغ، والعقول المرقعة التي تسميها أندية الأدب والمناقشة والخطابة (أغابي ومدام سالم يتبادلان إشارة أسف وتتنهدان عاليا جدا)
وتعود بعد نصف الليل إلى كتبك الشيطانية كأن نور النهار لا يكفي لإضعاف بصرك وإتلاف صحتك وتقصير حياتك ...
أغابي (تتنهد مرة أخرى) :
يا سلام!
متاتياس (ينظر إليها شزرا لجرأتها على مقاطعته ويتابع متغيظا) :
كانت غرفتك منارة عند الساعة الثالثة، فمتى نمت ومتى استيقظت؟ ألا تعلم أن الكتب لم يتاجر بها متاجر إلا وجننته وأفقرته؟ أتريد أن تعيش مستعطيا ذليلا؟ ألسنا نحن أفضل من هذه الوريقات عدة إبليس؟ أليس مجلسنا أهلا لك حتى تقضي الساعات مسجونا في غرفتك، وعندما تخرج إلينا لا تعطينا غير الدقائق التي تقضيها على المائدة؟ أهكذا يصطاف الناس، أهكذا يتنزهون ويعيشون؟ أتعلم أن أمرك صار يشغلني إلى درجة القلق؟ ساعدك الله على حياتك كيف تكون!
شفيق (يحرك السكر في فنجانه بهدوء ويحتمل هذه الوعظة بتجلد من اعتاد سماعها، يتكلم بأدب ورصانة) :
يسوءني أن أكون سببا لإزعاجك. ولكني لا أستطيع تغيير فطرتي. ثق بأني لن أفعل ما يؤذيني، بل أتمتع بحريتي باعتدال. أحب أن أشعر بأني حر مطلق الحرية.
مدام سالم (تشهق متعملة التعجب والغيظ) :
أخوك يريد خيرك وينصحك وأنت تقول له «أنا حر»؟ نجنا يا ألله من أولاد الجيل الجديد دا!
أغابي :
دا إيه دا يا شفيق؟ إنت تبقى حر إزاي؟
شفيق (متألما في ذكائه لمناقشة هذه الرءوس الخاوية) :
ها قد ابتلينا بموضوع جديد! وهل كلمة «أنا حر»، هذه الكلمة التي تثبت وجود الإنسان أمام الوجود، هل هي أثيمة إلى هذا الحد؟ إن لي ذوقي وميولي ومطالبي ورغباتي وكلها تختلف عن ذوق أخي وميوله ومطالبه ورغباته. لا يعني هذا أني أفضله أو أنه يفضلني. كل طبيعة حسنة منسجمة في ذاتها. ولكنه عندما ينصحني ويعنفني يقدر أني مثله تماما، ويجردني من نفسي، ولا يتصور أني أختلف عنه كل الاختلاف، فحبذا لو تفاهمنا مرة واحدة ووضعنا حدا لمثل هذه المناقشات. لكل منا فطرته وحريته، ولي حريتي وأريد أن أتمتع بها.
مدام سالم (وقد طفح كيل تعجبها) :
يا ابني دا أخوك. يكبرك بعشرين سنة. دا رباك زي أبوك. دا هو احتضنك ورباك. وأنت مخطئ تتبع سبل الضلال، ولما يجي ينصحك تقوم أنت تتجاسر تقول له «أنا حر!»
شفيق (متتبعا باهتمام تحني هذا المنطق الأعوج) :
من يسمعك قائلة إني أسير في «سبل الضلال» يحسب أني ... (يصمت فجأة؛ إذ يأنف متابعة جدال كهذا، ثم يقول بشيء من المرارة)
تلومونني لأني لا أطيل الجلوس معكم، وهل من عجب وكل جلسة كهذه الجلسة؟
متاتياس (يتنحنح كعادته ليقول شيئا خطيرا) :
وكم دفعت ثمن الأرغن الذي جئت به البارحة؟
شفيق (بتأدب) :
هذا أمر لا يعني غيري.
متاتياس (يغضب حقيقة هذه المرة) :
شئونك المالية لا تعنيني؟
شفيق (ينجح في أن يكون هادئا كالأول) :
إنها لا تعني غيري في هذا الموقف؛ لأني ابتعت الأرغن بما توفر لدي من مصروفاتي الشهرية. وأنا حر في أن أشتري آلة موسيقية تسرني ولا تؤذي أحدا.
مدام سالم :
هو «حر» من جديد. هو «حر» كل مرة.
متاتياس :
ألست مجنونا؟
شفيق (يهز كتفيه) :
قد أكون مجنونا لأني لست مثل ...
متاتياس (متمما فكر شفيق) :
مثلنا نحن، أليس كذلك؟ نحن عقلاء نعمل كجميع الناس، ونجتمع بالوجهاء أمثالنا، وألعابنا ومسراتنا معقولة معتبرة، كما أن أشغالنا شريفة كثيرة الأرباح. أما أنت فانظر إلى ما تفعل واذكر من تعاشر. وأنا أريد أن أصلحك رحمة بك وخوفا على مستقبلك فتقبل نصحي كالمجنون الأحمق.
شفيق (بهدوء حزين) :
حدثني عن رحمتك ... إني حتى الساعة لم ألمح خيالها ...
متاتياس (يتكلف الشفقة المتناهية) :
وماذا ينفع الذكاء والدرس إن لم يقدهما النصح والرأي؟ اعلم أيها المغرور، أنه كما قال الشاعر العربي (بفخامة وتأن في الألفاظ) «الرأي قبل شجاعة الشجعان.» (شفيق ينظر إلى أخيه بعينين واسعتين دهشتين وفيهما خيال الضحك، فتهمس له سميحة بسرعة: «لا تدهشنك هذه الفصاحة الفجائية! هذا عنوان إعلان تجاري رآه في جريدة هذا الصباح قرب أخبار البورصة.» هنا ينهض متاتياس بعظمة تتبعه زوجته ومدام سالم ويتجهون نحو الباب. وعندما يصل متاتياس قرب أخيه يتهكم قائلا: «ابق على حريتك لنرى إلى أين تقودك.» ثم يخرجون وشفيق مهتم بملس الزبدة على كسرة خبز في يده. وبعد أن يبتعد وقع أقدامهم يجيل النظر فيما حوله فيرى أنه وحده، فيحمل فوطته ويلوح بها في الفضاء كمن يطرد الذباب، فيسمع صوتا يتكلم وراءه ويلتفت فيرى الدكتور سالم مشيرا نحو الشرفة حيث سميحة تسقي الأزهار.)
الدكتور سالم (مخاطبا سميحة) :
أتسمحين لي بفنجان قهوة صغير؟
سميحة :
أسمح بفنجان قهوة كبير. (تدخل من الشرفة وتدنو من المائدة.)
الدكتور :
أشكر لك كرما لن أتمتع به. يجب أن أذهب إلى المدينة في الحال. (مخاطبا شفيق)
كيف الحال يا سي شفيق؟
شفيق :
في الحياة أمراض لا يداويها الطب يا دكتور.
سميحة (بعطف أكيد) :
لقد أنهكوا قوى هذا الولد المسكين.
الدكتور (يشرب القهوة واقفا) :
كدا؟ وأي ذنب جنيت يا كثير الذنوب؟
شفيق :
هو الذنب الأكبر الذي لا ينتهي. وهل ينتظرك في المدينة مريض ما؟
الدكتور :
لا تغير الموضوع. أخبرني عن ذنبك الجديد.
سميحة :
سهر البارحة في النادي. وظلت غرفته منارة حتى الساعة الثالثة صباحا. وابتاع أرغنا. وقال إنه «حر». هذه قائمة الذنوب الجديدة.
شفيق (لا يلتفت إليها) :
ذنبي الذي لا يغفر هو أني لست طفلا. أريد أن أفتكر بنفسي، وأعمل لنفسي، وأعتمد على نفسي. وهم يقذفون علي بآرائهم ونصائحهم في كل حين. وما هي قيمة الرأي يا ترى إن لم أطلبه أنا ؟ وقد أطلبه وأسمعه دون أن أتبعه. ثم إذا استشرت غيري كل خطوة فكيف أعرك الأمور فأخطئ هنا وأصيب هناك، وأكتسب من الفشل والنجاح اختبارا هو في الحقيقة أكبر وأقدر ما يقود المرء في هذه الحياة المتشعبة السبل؟
الدكتور :
الرأي حسن يا شفيق، عندما تطلبه وتكون في حاجة إليه.
شفيق (متحمسا) :
حسن في هذه الحال وقبيح فيما عداها. عندما أقصدك مستشفيا أعلم أنك تستطيع شفائي فأذعن لأوامرك وأقبل نصائحك. وعندما أسألك رأيك أعتبرك قادرا على وضع نفسك مكاني والشعور معي، حقيقا بأن تقودني في طريق سلكتها واختبرتها قبلي. ولكن ما قيمة الرأي عند غير أهله؟ كيف يرشدني في الموسيقى من لا يتقن إلا التجارة؟ كيف يصلح أغلاطي اللغوية من كان صحيحه مغلوطا؟ كيف يعلمني الصينية من لا يعرف عدد حروفها؟ ثم كيف هو ينهاني عن قيادة زورق حياتي كما أريد؟ عجبا! أألام لأني لا أقضي ليالي حول الطاولة الخضراء، ولا أصرف نهاري بين سباق الخيل، وصيد الحمام، وحانات الرقص والشراب؟ كنت وما زلت أعتقد أن من كانت هذه حياته حق عليه الملام، وها أنا الذي أطلب الهدوء والوحدة أقابل بالشغب والعبوس. (يصمت آسفا لأنه تكلم، إلا أن الكلام يعود متدفقا من شفتيه)
يعيرني أنه رباني صغيرا. والله يعلم كيف رباني! إنه أدخلني المدرسة، وهل كان بوسعه أن يفعل أقل من ذلك! ويقول إنه بمثابة الأب لي، فأي حنو وطد هذه الأبوة؟ كنت أقضي في المدرسة شهورا طويلة دون أن أراه، وإذا زارني هو و... وهن حملوا إلي الحلوى واللعبات وكل ما تجلبه الدراهم، ولكنهم لم يكونوا ليعطوني منهم شيئا. الدراهم أورثنيها أبي مثل ما أورثهم. أما قلوبهم فكانت مختومة كالقبور. كنت أبكي - أتسمع يا دكتور؟ قلت أبكي - كنت أبكي عندما أرى رفاقي في أحضان ذويهم محبوبين مدللين، أما هو فكان يأتي ويذهب بلا قبلة عطف، بلا كلمة محبة، بلا نظرة اهتمام لليتيم الصغير الذي كنته. وكم كنت مستعدا لأحبه! وكم كنت أتمنى أن يتركني أحبه دون أن يجمد قلبي! ولو علمت اليوم أنه ينصحني مهتما مخلصا لسعدت بالتنازل عن رأيي وسارعت إلى إتيان ما يشتهي. ولكنه ينصحني ليجعل لنفسه أهمية وليذلني، ولو أذعنت لكلامه لحظة ما تأخر عن تغييره في اللحظة التالية. (يتنهد)
لا أستنشق في هذا البيت غير هواء المقت والكظيمة. إنهم ينظرون إلي كدخيل مغتصب. وهذه أمراض عضالة لا تستطيع معالجتها يا دكتور. (تلتقي عيناه بعيني الطبيب وهو ينظر إليه طويلا بعطف يشبه المصادقة، فيهز رأسه فجأة ويحاول الابتسام)
أستمحيك عفوا فقد مزجت قهوتك بالشكوى. (يهز كتفيه)
ما أحقر الشكوى وما أحقر الشاكي! (يتغلب على نفسه ويرسل زفرة عميقة)
انتهى يا دكتور.
الدكتور (متجها نحو الباب) :
نصحي إليك، وإن كرهت الناصحين، أن تخرج من نفسك بقدر الإمكان. إن عكفك على ذاتك يزيد عواطفك رقة وتهيجا. احتك بالناس، اسمع ثرثرتهم، شاركهم فيها، اخرج إلى الهواء الطلق، تعاط الألعاب الرياضية. العب، العب، كن من أبناء جيلك لئلا تتعذب كثيرا.
سميحة (تغمز ضاحكة) :
سلمني مريضك فأمرضه يا دكتور! (إلى شفيق)
تعال معي إلى الهواء الطلق! تعال وكن رابع رفقائي في دور «التنس» هذا الصباح! (يخرج الطبيب مسلما ويحاول شفيق اتباعه فتسد سميحة الطريق قائلة):
لا تذهب هكذا. لئن ساءني أن أراك غاضبا فإنه يحزنني أن أراك حزينا. وعندما يضايقونك يضعف احتمالي وينفد صبري.
شفيق (ببرود) :
يحزنك! يسوءك! إنك مثلهم جميعا.
سميحة :
ما أجهلك بي! لماذا لا تنظر إلي؟ لا أدري أأنت محق أم متاتياس، ولكن ميلي معك.
شفيق (بلا اكتراث ودون أن ينظر إليها) :
عجائب!
سميحة :
لو علمت أني في حاجة إليك، وأني شقية مثلك في هذا البيت لما كلمتني بهذه اللهجة.
شفيق (يتكلف الاهتمام التمثيلي) :
شقية أنت بين حمامات البحر، ولعب الكرة، والسهرات الراقصات، والسينما، والتياترو، ومغازلة أبناء الوجهاء أمثال أخيك؟ تعزي بالأثواب الجديدة، والقلائد الكثيرة، والكعاب الطويلة، تعزي ولا تحزني! (ينظر إلى ساعته)
مضى الوقت أرجوك أن تدعيني أخرج.
سميحة (بتأن) :
قلت إني في حاجة إليك.
شفيق (يخرج من جيبه مفكرة وقلم رصاص) :
صحيح، نسيت؛ بماذا تريدين أن أجيئك من المدينة ... (منتظرا أن تتكلم ليكتب)
بودرا؟ خضاب؟ عطر؟ زهور؟ شكولاتا؟ أي شيء؟
سميحة (يظهر الحزن في وجهها. وتفسح له الطريق قائلة) :
لك أن تخرج.
شفيق (يخطو العتبة وهناك يتردد ذاكرا خشونته. ثم يلتفت ويعود نحو سميحة وينظر في وجهها متمتما ما يشبه الاعتذار) :
إنك لا تنقمين علي، أليس كذلك؟
سميحة :
وماذا يهمك؟
شفيق :
لا يهمني! لقد هنت على الآخرين فهانوا هم علي. لا يهمني شيء.
سميحة :
فهمت أني لا أهمك، وأنك لا تريد أن تعتني بأمري، أعدت لتقول هذا؟
شفيق :
عدت لأقول ... (بتردد)
أراك غير راضية.
سميحة :
حقا لست راضية. إني شقية.
شفيق (لا يريد أن يتأثر) :
لست جادة.
سميحة :
وهل من شقاء أوفر جدا من أن تقصد زوجة متاتياس أن تزوجني لأحد أقاربها واسمه خريستو بوبو لاندو بولس.
شفيق (يرفع يده كمن يقي رأسه لطمة) :
يا حفيظ! ما كل هذا؟
سميحة :
كل هذا اسم واحد. (يائسة)
اسم يملأ بطاقة الزيارة من أولها إلى آخرها.
شفيق (مواسيا) :
هوني عليك! وماذا يقول متاتياس؟
سميحة :
وماذا ينتظر من رجل لا قيمة عنده إلا للمال، وكل اسمه متاتياس؟
شفيق (يضحك) :
لست أدري لماذا أعطوه هذا الاسم.
سميحة :
يظهر أن ابن جارة يونانية لنا كان يدعى به. وربما كان نبوءة بأنه سيقترن بامرأة يونانية من ذوي قرباها خريستو بوبو لاندو بولس هذا.
شفيق :
ممكن (يضحك ثم تعود إليه هيئة التفكير شيئا فشيئا)
إذن تتخوفين الإرغام؟ أيزعجك الإرشاد المتتابع، أم في هذا القلب الصغير شيء آخر؟
سميحة :
أنت طيب كجميع الرجال الأذكياء.
شفيق (يتفحص وجهها بدقة) :
وكيف عرفت جميع الرجال لتعلمي أن الأذكياء منهم ...
سميحة (مشرقة الوجه) :
أعرف الجميع لأني أعرف واحدا. (تهز رأسها لتخفي خجلها)
وأنت أخبرني أسرارك: بين الكثيرات المفضلات على الكثيرات، والقليلات المفضلات على الأخريات، ألا يوجد واحدة ...
شفيق (يأتي إشارة مبهمة ونظره، يتبع خطوط حلم بعيد) :
ليس هذا من شئون الفتيات. وساروفيمك هذا من أبطال «التنس»؟
سميحة :
إن ذكاءك لمدهش! هو زميلي وقد غلبته مرات مع أنه لاعب ماهر.
شفيق :
وقد نال حظوة في عينيك لأنه لاعب ماهر أم لأنه مثل دور المغلوب؟
سميحة (تحلم) :
لست أدري. إنه يجذبني خصوصا ونحن وحدنا في الليل على شط البحر.
شفيق (متبرما) :
وحدكما على شط البحر، وفي الليل، ما هذه الحكاية؟
سميحة (تتغير ملامحها وتجللها الهيبة والعظمة) :
هناك عطفة تؤدي إلى الشط حيث طائفة صخور لها صور الضواري وأشكال الكواسر. ينبسط أمامها البحر بمروجه المائية وتنهده العميق الفسيح. هناك تحت عيون النجوم أجلس على مقربة منه، أجلس في حماه، فيتناجى هو والبحر صامتين وأظل حابسة أنفاسي لأستمع لنجواهما.
شفيق (مأخوذا بهذا الشيء الجديد الذي لم يعهده فيها) :
أشاعرة أنت! حقا إن المرأة لغز. (ولكنه يعود إلى ما يشغله)
ومن ذا الذي اكتشف هذه الخلوة؟
سميحة :
ومن ذا الذي يصنع الأعاجيب غيره؟ اكتشفها وقال «تعالي» فذهبت.
شفيق (غير مسرور) :
أيكفي أن يقول «تعالي» لتذهبي؟
سميحة (تملأ عينيها مشاهد بعيدة) :
يكفي أن يقول «تعالي» لأذهب.
شفيق (جادا) :
أنصحك ألا تذهبي بعد الآن. (سكوت قصير. ثم يقول آمرا وبقوة هادئة)
لا أريد أن تذهبي. أتفهمين؟
سميحة (تعود إلى خفتها الأولى. مقلدة صوته) : «نصحي إليك ألا تذهبي» «لا أريد أن تذهبي» (ثم بلهجة خطابية فخمة وإشارة تمثيلية واسعة)
اصغي خاشعة أيتها الشعوب، فإن أخا متاتياس يتكلم!
شفيق (متغلبا على نفسه لا يريد أن يضحك) :
اسمعي يا بنية. أنت لا تعرفين هؤلاء الشبان ولا تسمعين ما يتبجحون به بعضهم أمام بعض. يكفي الواحد منهم أن يعرف فتاة معرفة سطحية وأن تكون علاقته بها اجتماعية محضة، فتجامله مجاملة تقضي بها الاصطلاحات، بل قد يكفي أن يراها مرة واحدة ليذكرها بلهجة توهم أنه واقف على جميع دخائلها. لو علمت النساء جميع التعليقات، والملاحظات، وأنصاف الابتسامات، وأنصاف النظرات، وصنوف الكلام، وصنوف السكوت الخبيثة التي يشفع بها ذكرهن أولئك المتملقون! آه لو علمت النساء الغافلات!
سميحة :
شرير منك أن تعمد إلى الوشاية.
شفيق :
هذا هو الواقع مع الأسف.
سميحة :
قد يوجد بين الرجال كمن وصفت ولكن هو لا يشبههم.
شفيق :
كل امرأة تكبر بطلها وترفعه فوق الآخرين. أقول لك إنه يكفي أن يصافحها ...
سميحة (بلهجة الغالب) :
وأنا أقول لك إنه لا يصافحني.
شفيق (مرتابا) :
ألا تصافحينه قبل «التنس» وبعده؟
سميحة :
أصافحه وقتئذ، وأصافحه كلما اجتمعت به في الأندية العامة كما أصافح غيره من معارفي. أما في تلك الخلوة القدسية فلا.
شفيق :
أهي معاهدة بينكما؟
سميحة :
تعاهدنا ولكن بغير كلام.
شفيق :
لم تتصافحا البارحة، أما الغد فمن يضمنه؟ لو مد لك يده وقال «ضعي يدك هنا» فماذا أنت فاعلة؟
سميحة (لا تريد أن تتخيل ذلك) :
هذا غير ممكن. هذا مستحيل.
شفيق :
ولكن هي لحظة أن المستحيل ممكن. لو مد يده غدا وقال (يلفظ الكلمات بتأن متعمدا)
بلهجة قوله «تعالي»، لو قال بتلك اللهجة «ضعي يدك هنا» فماذا أنت فاعلة؟
سميحة (حائرة حزينة) :
أتركه، أهرب، ولا أعود ألتقي به. (ترفع رأسها مفاخرة)
غير أن الرجل الذي أحتمي بحماه لا يحوجني إلى الهرب.
شفيق :
كم تحبينه! (سميحة تضطرب كأن هذه الكلمة لمست من نفسها مكانا مؤلما فتسبل أجفانها وتسح دموعها ببطء، شفيق يتأملها.)
أإلى هذا الحد؟
سميحة (تفتح عينيها فجأة وتسأل بحرقة) :
شفيق، قل لي: أتظن أن فتاة مثلي، فتاة عادية مثلي، تستطيع أن تسعد رجلا حاد الذكاء؟
شفيق (يبتسم بحلم) :
أرى جميع أعراض المرض بادية. وأراك ككل امرأة تبالغين في قدر من تحبين. (يسكت متأملا)
أتمنى أن يكون هذا الغلام أهلا للكنز الذي هو أنت. (ثم معاتبا ومداعبا معا)
وهكذا أفقد أختي ساعة أجدها! إذا سرق هو كل شيء فماذا يبقى لي؟
سميحة :
في صدر المرأة قلوب يا فيلسوف، وعلى كل أن يجد القلب الذي يخصه. (عائدة إلى الموضوع الرئيسي)
خلاصة كل هذا أني أتكل عليك في دحر متاتياس وخرستو بوبو بولاند بولس وشركائهما.
شفيق :
سندحرهم! ومعنا الدكتور سالم الذي أحترمه؛ لأنه ليس على وفاق مع أختك زوجته ... مسكين! أما سهراتك أنت على شط البحر فسيكون لك من يرقبها ويحرسها ... يا لعناد النساء! وفي ما عدا ذلك سندحرهم، ولنا الفوز المبين!
سميحة :
آمين! (تمضي باحثة عن صولجان «التنس» وشبكته وتنشد) «يا ليلة يا بيضا يا نهار سلطاني» (ثم تغادر الغرفة بخطوات خفيفات راقصات).
شفيق (يخرج إلى الشرفة منتظرا مرورها في الحديقة وعندما يراها ينحني قائلا) :
سلمي عليه!
سميحة (تتظاهر بعدم الفهم) :
أي شيء؟ (ثم تضم أصابعها وتدنيها من شفتيها وتقول):
ما أحلى اسمك يا شفيق!
Halaman tidak diketahui