Kenangan Puteri
سوانح الأميرة
Genre-genre
ففي ذات يوم من أيام الربيع المتوهج بالحرارة والنور، كنت مارة بإحدى هاته الشوارع، بينما النسيم يهب عليلا من جهة الشمال، وبينما أشعة الشمس الذهبية تهج الأنظار.
كان الطريق هادئا ساكنا يسوق المرء إلى أودية الخيال وحرارة الجو بما فيها من وحشة وانقباض تدعوه إلى طلب الراحة وتذكره بأيام الصيف الشديدة الوطأة.
اجتزت الطريق متأملة باستغراب فيما حولي من الحوانيت الصغيرة الممتدة على طول الطريق يمينا ويسارا، إذ كانت المناديل الحمراء المعلقة عليها تجعل لها شكلا لطيفا، أما أصحاب هذه الحوانيت؛ فالبعض منهم في انتظار زبائنهم وهم مضطجعون يراود النعاس أجفانهم، والبعض الآخر يقطع الوقت بالأحاديث الفاترة، كأنما شدة هذا اليوم القائظ قد نفذت إلى أعماق قلوبهم فصيرتهم في هذه الحالة. وكان يبدو على سيماهم الاستسلام للهدوء المحيط بهم وعدم الاكتراث لمدهشات المدنية. هكذا كانت تمر بهم الساعات وهم في لذة باطنية محفوفة براحة البال وهدوء الضمير؛ لأنهم في أمان من الاضطرابات التي تلحق أولئك الذين يضنيهم إجهاد الفكر في سبيل العمل. إننا لو أحصينا الحوادث المؤلمة التي اعترضت أيام هنائهم ومواسم سرورهم، فكم يبلغ عددها يا ترى؟ ولو فرضنا أن أيام حياتهم ضمت إلى بعضها كحبات المسبحة الواحدة، فكم علامة وقف يصادفها الإنسان بها؟
بعد أن تركت «باب زويلة» بقليل، ذلك الباب الرهيب الذي كان مشنقة في أيام المماليك، وقع نظري على بناءين شامخين: أحدهما على اليسار، والثاني على اليمين، والبناءان يلوح عليهما أثر القدم عند أول نظرة يلقيها الإنسان عليهما، لأن الأيام والليالي كانت قد لونت حائطيهما بلون ثابت لا يزول مدى الأيام.
كان يرتفع من جانب البناء الواقع على يساري منارة مربعة، يرى الناظر من خلال تزييناتها زرقة السماء وأطراف السحب، فأدركت للحال أنه مسجد قديم، وعندما ارتقيت السلالم المؤدية إلى مدخل الجامع كان أول أمر ألفت نظري هو الباب المحلى بالنقوش العربية النفيسة والأشكال الهندسية الجميلة. أثر نفيس يدل على غرام الأوائل بالفنون وولعهم بكل ما هو بديع وجميل.
تركت بعد ذلك ضوء الشارع لأدخل في قتام المسجد، وكان لا بد لي من وقفة عند عتبة إيوانه الصغير ليعتاد النظر على تمييز الأشياء، إلا أن النسيم البارد الآتي من صميم ذلك المسجد المقدس لطف ما بي، ولم يلجئني إلى إطالة الوقوف.
ما أجمل هذا المكان! ملجأ للإسلام بعيد عن حرارة اليوم، في أمان من ضوضاء العالم وضجيج الحياة! سكونه العميق ينفذ إلى قرارة النفس فيسكن ما بها من الآلام، وأنواره النافذة إليه من منوره المتوسط كانت تنتشر في أرجائه وزواياه لتنير الكتابات المنقوشة على الحائط، وتظهر للأنظار التزيينات المتعددة الموجودة به.
أما المنبر والقيشاني المحلى به الجامع فكانا آية في دقة الصناعة، وكلاهما كانا كلوحة فنية تسترعي الأنظار بجميل شكلها. وبالإجمال فإن دقة الصناعة التي كنت ألمحها في الأشكال المتعددة المصنوعة من العاج والصدف جعلتني في دهشة عظيمة، وبعد أن تأملت هذه الأشياء جلست باحترام على الدرج الموجود بجانب المحراب واستسلمت لتأملاتي. كنت أفكر في الغاية التي بني هذا المسجد لأجلها، فأقول في نفسي: هل كان بناؤه بدافع مقدس، أم أنه نتيجة لغرور العصور الاستبدادية؟
رباه، ما أجمل حسنه الرائق! إن معاني الآيات الكريمة المنقوشة على أطراف الجامع تمتزج بالأنوار الواصلة إليه من خلال نوافذه، فتكسب دقائق الأثير المالئة أطرافه حالة روحية توقع الهيبة في النفوس، وكان يخيل لي أن الأدعية التي تقرأ فيه بإخلاص والدعوات الصالحة والأحاديث الشريفة التي يرتلها المصلون أثناء عبادتهم ما زال صداها يرن في قبته الجميلة، ففي كل ركن أثر من الهيبة والجلال، وفي كل زاوية حالة روحية تجذب النفوس وتدعوها إلى التأمل والتفكير.
خطر لي وأنا غارقة في سكون المسجد وجلاله مظاهر الطنطنة التي يراها الإنسان في المعابد التي تقام فيها شعائر الأديان الأخرى، تلك المعابد المملوءة بالهياكل الثمينة والصور الجميلة والرسوم البديعة والمراسم المبهرجة.
Halaman tidak diketahui