فضحك الرجل حتى بانت أسنانه المثرمة وقال: المرأة إذا جاوزت الشباب لم تعد امرأة!
فقال آخر مؤمنا على قوله: صدقت، المرأة أقصر المخلوقات عمرا وإن هرمت.
وقال غيره: إن زوجي تدبر لي شجارا نظير كل سهرة في الحانة، وقد قلت لها: إني على أهبة الاستعداد لأن أهجر الحانة تحت شرط واحد وهو أن تهجر هي الدنيا!
وبدوا جميعا ساخطين على حياتهم؛ فداخلني عزاء لم أجده من قبل، وعجبت لهذه الأسباب الغريبة التي تؤاخي بين السكيرين. ثم لاحظت تغيب «فران» شريب اشتهر بيننا بإدمانه وصمته، فسألت عنه؟ فأجابني العجوز الفنان: لم تعد الخمر لتؤثر فيه، فهو يمضي مساء كل يوم إلى البدال ويشرب كحولا صرفا!
وواصلوا ما انقطع من الغناء، ورحت أشرب كالأيام الماضية. ما أعجب قدرتي على الشرب! إني ضعيف رعديد حيال كل أمر، ولا ثقة لي في عقلي ولا في قلبي، أما معدتي فقادرة على ابتلاع حانة! وغادرت الحانة في العاشرة مودعا بأطيب التحيات، وتنقلت من طريق لطريق لا تسعني الأرض من فرط النشوة والسلطنة، ثم هفا علي طيف حبيبتي فتخيلتها بعين السكران، وقد طال بها انتظاري فاستسلمت للرقاد؛ فانتشت نشوتي، وخفق فؤادي خفقان الوله، وهتفت بنفسي الأشواق، وبحثت عيناي الزائغتان عن تاكسي، ثم مضيت إليه لا ألوي على شيء وطلبت إلى السائق أن يسرع بأقصى ما لديه من سرعة، فطار بي يطوي الأرض طيا، وغادرته عند العمارة، وارتقيت السلم في عجلة، ثم دخلت الشقة وسرت إلى حجرتي بلا تردد، وأدرت مفتاح الكهرباء فوقع بصري على حبيبتي وقد استغرقت في نوم هادئ، وقد تحرك رأسها لدى سطوع النور وغمغمت: «من؟» ثم واصلت نومها دون أن تستيقظ، وخلعت ملابسي في عجلة واضطراب ويداي ترتعشان، وأنفاسي تتردد في دهشة وسرور وجزع، وهرعت إلى الفراش، واندسست تحت الغطاء، ضممتها إلى صدري ووضعت شفتي على شفتيها حتى فتحت عينيها، وأمطرتها قبلا بنهم ورغبة وسرور حتى أفاقت وبادلتني القبل، وبدا ما بيننا كأنه حلم سعيد يضن به المنام ... حلم لا يصدق، بيد أنه كان حلما قصيرا لم يستغرق ثانيتين من الدقيقة. وأفقت من سحره في طمأنينة وسلام، وبي من السعادة نشوة أضعاف ما بي من الخمر، واضطجعت في حبور، وأغمضت جفني مستسلما لأمتع الخواطر والأحلام. على أن أحلامي لم تنسج وشيها هذه المرة من مادة الخيال، ولكنها استمدته من الواقع، من صميم حياتي، وألذ العيش ما كان حلمه السعيد صدى للواقع الراهن! لقد تلقيت السعادة بامتنان العابد، وأيقنت أن همومي قد انجلت إلى الأبد. وفي صباح اليوم التالي جعلت أرنو إلى حبيبتي بثقة وسرور، وشعرت حقا بأني زوج، وبأني رجل .. ولم تزايلني أحاسيس السعادة والفخار طوال اليوم، وعندما أتى المساء ذهبت إلى شارع الألفي بك، ثم عدت إلى حبيبتي طائرا على جناحي نشوتي، وعللت من الكأس المترعة، بالسرور نفسه والسرعة نفسها، ثم اضطجعت ضجعة المطمئن، ما كان لمثلي أن ينسى ما تجرع من غصص العذاب، ولكن السعادة الحقة تستثير عطفنا حتى على ذكريات العذاب.
48
وتقضت أسابيع - لعلها لم تجاوز الشهرين - في سعادة وطمأنينة. وإني إذ أعود إلى ذكرى تلك الأيام يمضني شعور بالألم والأسى؛ لا حسرة على سعادة ذهبت، ولكن أسفا على أكبر خدعة ابتليت بها في حياتي. لم يكن هنالك ما يستوجب سعادة على الإطلاق. وإذا كنت قد تمتعت بالسعادة زمنا رغدا، فما ذلك إلا لأني كنت غرا جاهلا أعمى. وما من بأس أن يتمتع الأعمى بسعادة وهمية على شرط أن يواصل عماه، أما إذا رد إليه البصر ورأى سعادته سرابا فهل يجني من ذكريات سعادته إلا حسرة مضاعفة وهما مقيما؟! وهذه هي حالي بلا زيادة ولا نقصان، وما فطنت إليها إلا في بطء شديد يوافق جهلي وبلادتي.
لاحظت أن «رباب» تمضي النهار كله وشطرا من الليل خارج البيت، بين مدرستها وبيوت أهلها وأقاربها. وقد رافقتها بادئ الأمر رغم طبعي النفور، ثم شق علي الأمر فنكصت على عقبي، ولم أعد أصحبها إلا فيما ندر من الزيارات. وعادت أمي تعلن عن ملاحظاتها في مرارة وأسى، وأنا أدافع عن زوجي بلا فتور، وإن تجاوب لانتقادها في نفسي صدق عميق. وكنت فيما مضى أشجع زوجي على هذه الزيارات لتتسلى بها عما أشعر به من نقص حياتنا المشتركة، أما الآن فلم يعد من موجب في نظري للإفراط فيها. ولممت أطراف شجاعتي يوما وقلت لها: كأنك تقاطعين بيتنا يا عزيزتي، فهلا أقللت من هذه الزيارات المتواصلة؟
وحدجتني بنظرة مريبة وسألتني بحدة لم أعهدها من قبل: أما زالت تشغل نفسها بانتقادي؟
وفهمت أنها تعني أمي، وساءني أن تضمر لها هذا النفور، فأجبتها متلطفا: إن أمي لا تتدخل فيما لا يعنيها، وهذا رجائي أنا دون غيري، والحق أني لا أطيق بيتنا إذا كنت خارجه.
Halaman tidak diketahui