ورسمت شفتاي «أحبك» دون أن تنطقا بها، ولكنها رأت وفهمت بلا أدنى شك. وخفضت بصري حياء، ودق قلبي بعنف. وانتزعتني من الوجود غيبوبة عابرة غيبتني عما حولي. واسترقت إليها نظرة فألفيتها صامتة رزينة موردة الوجه. هذه لحظة مقدسة. أجل، إن الزمن لينوء بما يحمل من جلائل اللحظات التي مرت بالإنسانية في تاريخها، ولكن هذه اللحظة من أجل ما عرف الزمن رغم هذا كله. ولن ينقص منها أنها معادة وأنها تحدث كل يوم آلاف المرات في بقاع الأرض الواسعة، فهي الشيء الوحيد المعاد الذي لا يمل، وما ينبغي أن يمل وهو يتضمن سر الوجود الأعظم؛ ألا وهو الحب. لم يكن بوسعي أن أضمها إلى صدري - لا لمرور قافلة جمال تحمل برتقالا - ولكن لأنه لم يكن بوسعي أن ألمسها على الإطلاق، وقطعنا شوطا صامتين، وحال حيائي دون مواصلة الحديث في هذه النقطة بالذات، وعاودت التفكير في المسألة من وجوهها الأخرى فقلت مبتسما: وماذا تم من أمر محمد جودت؟
وحدجتني بدهشة عظيمة، وسألتني: من أدراك بها؟
فقصصت عليها نبأ المقابلة التي تمت بين محمد جودت وبيني، وهي تصغي إلي باهتمام شديد، ثم قالت: إنه رجل فاضل محترم، وموظف كبير، وقد رحب به أبي؛ أما أمي فقابلت عرضه بفتور لأنه يكبرني كثيرا، ولأنه سبق أن تزوج وله بنت في الخامسة عشرة، وقد حادثت أمي عن لقائنا في الطريق منذ ثلاثة أيام .. فاشترطت أن يعرفوا عنك كل شيء قبل أن تعلن عن رأيها.
وخفق قلبي في مزيج من سرور وقلق، وسألتها وإن لم أكن في حاجة إلى السؤال: وهل تعلم بمقابلتنا هذه؟
فابتسمت ولم تحر جوابا. وذكرت «وظيفتي» بعدم ارتياح وخجل، ولكن لم يخطر لي على بال أن أكذب أو أبدل من الواقع فقلت: إني كما قلت لك موظف بالحربية، ولكن لي دخل ستة عشر جنيها من أوقاف، وأملك إلى ذلك قدرا من المال يجاوز الألف الجنيه، وليس في سيرتي ما يشين، وسترين إذا ما تحروا عني أني التزمت الصدق حقا!
فابتسمت قائلة في إخلاص: لا شك في هذا مطلقا.
ورنوت إليها بامتنان عميق، وذكرت في تلك اللحظة آلامي وما عانيت من تشوق إليها وحسرة عليها، فهزني سرور يجل عن الوصف. بيد أنني تساءلت في خوف: ترى هل أروق في عيني الأم؟ .. ألا تستصغر وظيفتي، أو لا تجدني أهلا لهذه الأستاذة المحبوبة؟ .. وانقبض قلبي ذعرا، وحدثتني نفسي بأن أفاتحها فيما يكدر صفوي، ولكن عقلني الحياء. ثم خطر لي خاطر جديد فسألتها على الفور: هل تواصلين العمل في وظيفتك إذا تم الأمر كما أرجو؟ - ولم لا؟ إني أحب عملي حبا جما، وكثيرات من زميلاتي ...
وأدركت ما كانت على وشك قوله، فخفق قلبي بغبطة ونظرت إليها نظرة حيية ملؤها الحب والأمل، ثم قلت برضا: هذا حسن!
ساد الصمت قليلا فعلا وقع أقدامنا على أرض الطريق المفروشة بأشعة الشمس، ولاحت مني التفاتة إلى النيل فرأيت صفحته السمراء تترقرق تحت لؤلؤ النور المنثور، وأخذت أتصفح وجوه المارة القلائل الذين يمرون بنا في حياء وارتباك. وقد لطفت الشمس من برودة الجو وبثت في حنايانا نشاطا وحبورا، فشعرت بطيب الحياة كما لم أشعر به من قبل، وامتلأت امتنانا حتى وددت لو ألثم الثرى شكرا. بيد أنني لم أنس ما يشغلني من خطير الأمور، أو ما يبدو لي من خطيرها، فلذلك سألتها: أرشديني الآن إلى ما ينبغي فعله.
فسألتني في دهشة قائلة: ماذا تعني؟
Halaman tidak diketahui