فبادر جدي قائلا: أما هذا فعن طيب خاطر.
وفطنت إلى ما في قول جدي من إيحاء موجه إلي، فوجدتني كالفأر في المصيدة، وتولاني ضيق كاد ينشق له صدري، ولعنت ذلك التصميم المزعج الذي حدا بجدي إلى سوقي إلى هذا البيت الكئيب. وانعقد لساني في يأس وعناد، حتى قال أبي متهكما: هذا قولك أنت يا عبد الله بك، ولكني أتساءل عن رأي كامل بك!
وآلمني تهكمه، وانقلبت إلى حال من التعاسة، فلم أنطق ولم أرفع رأسي. وتذكرت أمي بلهفة المستغيث شأني إذا اشتد بي كرب. وقهقهه أبي ساخرا وقال: ولعله يسر بمعرفتي ولكن من بعيد!
وتغيرت لهجته الساخرة فقال بصوت ينم عن القوة: ألا تعلم أنني إذا أردت أن تبقى هنا لم يحل دون ذلك حائل؟!
وتريث لحظة ريثما يحدث تصريحه الأثر المطلوب، ثم ضحك مستدركا: لا تخف، لا حاجة بي إلى هذا على الإطلاق.
وساد صمت رهيب. ولعل جدي أدرك أن الرجل قد كشف بقوله ذاك عن شعور عدائي. وشعرت أنا بغريزتي أن كلينا يجد نحو صاحبه نفورا لا خفاء فيه .. وهالني ما صدم جدي من خيبة مريرة، وتوقعت أن يوسعني تعنيفا وتقريعا. ثم قال جدي بصوت منخفض: ابنك سيئ الحظ يا رؤبة بك، فقد حرم نعمة التعبير عما يدور بخلده .. إنه طفل خجول لا يدري عن الدنيا شيئا، فترفق به واعذره!
فقال أبي بغلظة: ما هذا الذي تقول يا عبد الله بك! .. خجول، عذراء، لا يدري شيئا! ماذا فعلتم به؟ لقد كانت له أخت عذراء؛ ومع ذلك فقد هربت مع رجل، فمن أية جبلة هو؟!
وشعرت بطعنة نجلاء تصيب قلبي، واندفع الدم إلى وجه جدي فقطب غاضبا وقال بكبرياء: لقد اختارت أخته أن تمضي إلى زوجها بعد أن يئست من عدالة أبيها!
وروح عني قوله. أما أبي فاسترسل ضاحكا وقد احتقن الدم بوجهه وبدا فظا قاسيا ممقوتا، ثم قال بسخرية: تقول بعد أن يئست من عدالة أبيها! .. اسمح لي أولا أن أملأ كأسا (وملأ الكأس وعل منها جرعة) هلا شربت معي؟ .. كلا؟ .. كما تشاء فلكل إنسان داء. ولنعد الآن إلى قولك. ماذا قلت يا حسن بك؟! بعد أن يئست من عدالة أبيها؟! .. وأنت؟! ألم تيئس من عدالة أبيها؟!
فنظر إليه جدي باستنكار وازدراء وسأله: ماذا تعني؟! - أريد أن أقول: إن الفتاة إذا كانت قد يئست من أبيها، فإن جدها لم ييئس من عدالته ، وآي ذلك أنك جئتني اليوم بهذا الفتى لا لتقدمه لي كما قلت، فقد كان يمكن أن يحدث ذلك في أي وقت من الماضي، ولكن لتخبرني أنه عما قليل سيلتحق بالمدارس الثانوية .. وهناك المصروفات .. هه!
Halaman tidak diketahui