السراب
السراب
السراب
السراب
تأليف
نجيب محفوظ
السراب
1
إني أعجب لما يدعوني للقلم؛ فالكتابة فن لم أعرفه لا بالهواية ولا بالمهنة، ويمكن القول بأنه فيما عدا الواجبات المدرسية على عهد صباي، والأعمال المكتبية المتعلقة بوظيفتي، فإنني لم أكتب شيئا على الإطلاق. والأعجب من هذا أني لا أذكر أني سودت خطابا أو رسالة طوال الدهر الذي عشته في الدنيا؛ وهو ما ينيف على ربع قرن من الزمان. والحق أن الرسالة - كالكلام - رمز للحياة الاجتماعية، وعنوان للوشائج التي تصل ما بين الناس في هذه الحياة، ولست من ذلك كله في شيء. ألسنا نشذب الأشجار فنبتر ما اعوج من أغصانها وفروعها؟! فلماذا نبقي على من لا يصلحون للحياة من أفراد الناس؟! لماذا نتسامح، بل نهمل، فنفرضهم على الحياة فرضا، أو نفرض الحياة عليهم كرها؟ لهذا يسعون في الأرض غرباء مذعورين، وقد بلغ الذعر منهم أحيانا أن يخبطوا على وجوههم كالمحمومين، فيدوسوا بأقدامهم المتعثرة ضحايا أبرياء.
أقول مرة أخرى إنني لا أذكر أنني كتبت كتابة تستحق هذا الوصف. كذلك طالما أعياني الحديث وأعجزني، فكنت إذا اضطررت إلى كلام تلعثمت وأدركني العي والحصر، ولم يكن الإعياء في قوة النطق أو الكتابة، إنه أجل من ذلك وأخطر، وإن العي والحصر والعجز لأتفه عواقبه على وجه اليقين. ولذلك حق لي أن أتساءل عما يدفعني الآن إلى الكتابة. وليس الأمر قاصرا على رسالة تدون، إنه شوط طويل تنقطع دونه الأنفاس، وإني لأعجب لما يستفزني من نشاط لم أعهده، وحماس لم آلفه، حتى ليخيل إلي أني سأواصل الكتابة دون تردد أو تعب، في الليل والنهار، وبعزيمة لا تعرف الخور، فلماذا يا ترى هذا العناء كله؟ ألم آو عمري إلى الصمت والكتمان؟ ألم تظفر الأسرار من صدري بقبر مغلق تستكن فيه وتموت؟ فما سر هذا الإلحاح العنيف؟ وكيف سللت القلم لأنبش قبرا تراكم عليه ثرى الإخفاء؟! لقد ضاعت الحياة، والقلم ملاذ الضائع، هذه هي الحقيقة. إن الذين يكتبون هم في العادة من لا يحيون، ولا يعني هذا أني كنت أحيا من قبل، ولكنني لم أكن آلو أن أرنو لأمل بسام أستضيء بنوره، وقد خمد هذا النور. ولست أكتب لإنسان، فليس من شأن المرضى بالخجل أن يطلعوا إنسانا على ذوات نفوسهم، ولكني أكتب لنفسي، ونفسي فحسب، فطالما داريت همساتها حتى ضللت حقيقتها، وبت في أشد الحاجة إلى جلاء وجهها المطموس في صدق وصراحة وقسوة، عسى أن يعقب ذلك شفاء غير مقدور. أما محاولة النسيان فلا شفاء يرجى منها. والحق أن النسيان خرافة بارعة، وحسبي ما كابدت من خرافات. ولعل في شروعي في الكتابة آية على أنني قد عدلت عن فكرة الانتحار نهائيا، وما كان الانتحار بالجزاء الذي لا يستحقه إنسان قضى على نفسين، بل هو دون ما يستحق بكثير، ولكن ما حيلتي والحياة لا تتورع عن وسيلة في سبيل الدفاع عن نفسها؟ ولو كان الماضي قطعة من المكان المحسوس لوليت عنه فرارا، ولكنه يتبعني كظلي، ويكون حيثما أكون، فلا مناص من أن ألقاه وجها لوجه بعين غير مختلجة، وقلب ثابت. ومهما يكن من أمر فالموت أهون من الخوف من الموت. وإنه لعمل فيه سحر، تستحيل به هذه الصحائف نفسا خالصة بغير حجاب. ولست أدعي العلم؛ فما ناصبت شيئا العداء كالعلم، وإني لغبي كسول، ولكني عانيت تجارب مرة زلزلتني زلزالا، وليس كالتجارب كاشف عن مطاوي النفوس. إني لأتلهف على رفع النقاب، وهتك الأسرار، لأضع أصبعي على موطن الداء ومكمن الذكريات ومبعث الآلام، ولعلي بذلك أتفادى نهاية محزنة، وأنجو من آلام لا قبل لي بها، وأتلمس في الظلماء سبيلا. لست في الواقع إلا ضحية، ولا أقول ذلك تخفيفا من ذنبي، ولا تهربا من تبعتي، ولكنه حق وصدق، فالحق أني ضحية، إلا أنني ضحية ذات ضحيتين. وأشد ما يحز في نفسي أن إحدى الضحيتين هي أمي! أفظع بها من حقيقة لا تصدق! كيف أنسيت أنها سر حياتي وسعادتي، وأنني لا أحتمل الحياة بدونها! ولكني كنت أحيا على حافة عالم الجنون، وهكذا فقدت كل شيء، ووجدت نفسي في خلاء مظلم مخيف ... إني رجل مؤمن عميق الإيمان، وأعلم علم اليقين أني سأبعث حيا في اليوم الموعود، ولست أخشى آلام ذلك اليوم وأهواله - إذا تجردت أمام الله بما في يميني وبما في شمالي - قدر ما أخشى أن أبعث على الحال التي عانيتها في دنياي. أروم بعثا جديدا حقا، ويومذاك تصبح آلامي لا شيء، يطويها الفناء إلى الأبد، فيمكنني لقاء أحبائي بقلب صاف ونفس نقية طاهرة.
Halaman tidak diketahui