إلا أن الأتراك العثمانيين كانوا أول الشرقيين الذين انتبهوا إلى هذه الحالة المحزنة التي وصلت إليها الآداب الشرقية؛ وذلك بسبب اختلاطهم مع الغرب أكثر من سواهم، فإنه ما كاد يكثر اختلاطهم بأهل الغرب حتى اشتد تبعا لذلك إحساسهم بالحاجة إلى إصلاح لسانهم الأدبي، وأدى بهم ذلك إلى إعجابهم بالآداب الغربية، وبالأخص أدب اللغة الفرنسية، فاقتبسوا كثيرا منه وأدخلوه في آدابهم بعد تحوير وتعديل.
ثم جاء «عاكف باشا» الشاعر الشهير فخطا خطوة في سبيل الإصلاح، وأخذ في تحوير الخطة التي سنها «نعيما» في الأدب، إلى أن جعلها وفق المحيط الذي كان فيه على قدر الإمكان، فكان بعمله هذا أول من تشبث بتمزيق سحب التردد المتكاثفة في سماء الأدب التركي، غير أن ذلك القلم العالي لم يتمكن من انتشال الأفكار من وهدة الغفلة التي كانت فيها.
وتلاه بعد ربع قرن «شناسي» المجدد الشهير، وكان أقدر من «عاكف باشا» لتذوقه بالأدب في محيط أرقى من البيئة التركية، غير أن المرض الذي لازمه طول حياته لم يمكنه من الاستمرار في سبيل الإصلاح، بل كان ما فعله هو تزيين الخطة التي رسمها عاكف باشا للإصلاح.
كانت حاجة العثمانيين شديدة في ذلك الزمن إلى عبقري يقوم بتشييد بناء جديد للآداب التركية يتمشى مع روح العصر، فتمت تلك المعجزة على يد نبي الآداب التركية «نامق كمال» ذلك الذي مزق ستار الآداب القديمة وكسر قيودها، وبشر العثمانيين بموقع في الآداب أعلى من موقعهم، ثم تطورت الآداب التركية عقب الثورة العثمانية، فظهرت بثوب جديد وخطت في سبيل الرقي خطوات واسعة، وكانت الكاتبات التركيات في مقدمة هذه النهضة المباركة يفسح لهن المجال في صدور المجلات، وأمهات الصحف، وتنشأ لآثار أقلامهن المقالات الطوال، ومن بين تلك الفضليات امتازت أميرتنا المصرية الجليلة القدر «قدرية حسين» بكثرة ما نشرته من الكتب النفيسة، والمقالات الرائعة، سواء أكان ذلك في مصر، أم في الآستانة، وإن هذا القلم الضعيف لأعجز من أن يحصر مناقب صاحبة السمو وآثارها القلمية؛ لأن ذلك يستلزم مجلدا كاملا، وإنما أردت إجلالها وإظهار ما لها من المكانة في عالم الخيال والأدب، بترجمة مؤلفاتها المكتوبة باللغة التركية، وكانت فاتحة أعمالي في ذلك ترجمة خواطر سموها، فلاقت من إقبال الناس عليها، واهتمام كبريات المجلات والصحف العربية والإفرنجية، ما دفعني إلى المضي في سبيل ما أخذته على عاتقي، وها أنا ذا أتقدم إلى أبناء مصر بالحلقة الثانية من سلسلة تلك البدائع التي أعجبوا بها وافتتنوا بجمال أسلوبها «في كتاب الخواطر»، وفي مأمولي أن يكون من وراء هذا الصنيع الفائدة التي أنشدها، وهي الوساطة في تمكين المعرفة بين الأدبين العربي والتركي، وإعلاء شأن النابغات من فضليات مصر، اللائي يفتخر بنبوغهن شباب هذا الوطن، والله هو المستعان على تحقيق الغايات.
عبد العزيز أمين الخانجي
القاهرة 4 شوال سنة 1338
المقدمة
أيها القارئ المنحني على صفحات هذا الكتاب تقلبها واحدة فواحدة، إن كنت ظمآن الروح لتصفحه، متعطشا لقراءة محتوياته، فلا تأمل أن تجد في تضاعيفه قطرة واحدة تنفع غلتك وتطفئ ما بين جنبيك من حرارة الظمأ، وإن طموحك لتحقيق مثل ذلك الأمل يسلب ما في نفسك من الراحة والسكون؛ لأن هذا الغدير الذي يصوره لك وهم الظمأ نبعا فياضا مترعا بالبهجة والإشراق، إن هو إلا منظر سراب خادع كونته أشياء ثلاث هي: الصحراء، فالحرارة، ثم النور، فهل يليق بك أن تحفل بأمر هذه مكوناته؟
قدرية حسين
الفصل الأول
Halaman tidak diketahui