إذن ما أضيع الوعظ عند صاحبتنا التي لا تعجب من الوعاظ إلا بقدرتهم على الوعظ وقدرتهم بعد ذلك على نقض المواعظ.
نعم، إنها تتذوق الكلام وتعطيه «درجته» العادلة من التقريظ والتأثر، ولا يبعد أن تبكي إذا كان فيه ما يحرك الشجن ويستدر الدمع، ولكنها لن تزيد على ذلك، ولن تخلط بين التقدير الفني والنتائج العملية! ولو كانت في موضع السلطان العثماني «سليم الأول» لبكت من قصيدة الشاعر الذي تشفع لديه بالشعر البليغ ليعفو عنه، ثم أمرت كما أمر بسوقه إلى ساحة الموت عقيب إنشاده القصيدة؛ لأن الفن شيء والسياسة شيء آخر!
أم أن صاحبنا، وليكن اسمه «هماما»، وليكن اسمها منذ الآن «سارة» لتيسير الكلام عنهما ...
أم أن صاحبنا «هماما» قد شاقته الفتاة بعد الفراق القصير ولم يشأ أن يعترف بشوقه ولا أن يستدعيها إليه صراحة فعمد إلى كتابة الخطاب ليفتح باب الحديث فاللقاء ...؟!
لا، ولا كل هذا.
إن «هماما» لم يكن من دأبه أن يقصر في مراجعة نياته ودسائس طبعه، ولقد يغلو في ذلك حتى يعزو إلى نفسه من المقاصد ما ليس في حسبانه، ولكنه - غلا أو لم يغل - ما كان في وسعه أن يزعم أنه بحاجة إلى تلك الحيلة لتدبير اللقاء دون استدعاء؛ فاللقاء لم يكن بالشيء العسير، ولم يكن بينهما بعد القطيعة ما يلجئ إلى الحيلة والمناورة، ولعل انتظاره الهداية من توجيه ذلك الخطاب أقرب إلى التصديق من التذرع به إلى تدبير لقاء.
السبب في الحقيقة أنه لا سبب هناك.
السبب هو الحيرة الملحاح التي تستحثنا إلى كل عمل مستطاع دون أن نستوضح أنفسنا عن علة معقولة أو نتيجة مأمولة، وكل من حار هذه الحيرة يوما يذكر أنه فعل شيئا لا علة له، ولا هو يقبل التعليل.
كذلك يفعل الأب الذي يرى بين يديه ولدا مريضا ميؤسا من شفائه وهو لا يستقر إلى التسليم، وكذلك يفعل المحرج الذي يرى أن العمل واجب؛ لأنه خير من سكون لا صبر له عليه، وكذلك يفعل الذي لا بد أن يفعل؛ لأنه بالفعل يستريح، أما بالسكون فلا راحة ولا أمل في الراحة.
وأتبع وصول الخطاب حديث بالتليفون.
Halaman tidak diketahui