126

وخاف يوري لسبب ما أن يرياه وأحزنه في الوقت نفسه أن لا يستطيع أن يلحق بهما ويكون معهما، فكأنما قام بينهما وبينه حجاب كاذب غير مفهوم أو فضاء لا جو فيه أو بون لا سبيل إلى تخطيه.

وثقلت على نفسه وطأة هذا الإحساس بالعزلة. وتجسم له أنه مستفرد وحيد، وأنه واقف بمعزل عن هذه الدنيا بأضوائها وألوانها ونيرانها ونجومها وأصواتها الآدمية كأنما هو ملقى به في غرفة حالكة، وبلغ من جثوم هذا الشعور بالوحدة أن خيل له وهو يجتاز حقل البطيخ حيث كانت مئات منه أن هذه ليست سوى جماجم آدمية مبعثرة فوق ظهر الأرض.

الفصل الخامس عشر

جاء الصيف بالحرارة والدفء، فكان الجو بين الأرض الساخنة والسماء الزرقاء المشرقة الصفحة كأنما يغشاه ويسبح فيه نقاب خفيف من البخار الذهبي، وكأنما أرهق الحر الأشجار فنامت وألقت أوراقها المتدلية الساكنة ظلالا شفافة قصيرة على الثرى الظامئ الجاف. وفي البيوت الرطوبة. والحدائق ترسل ألوانا خضراء باهتة ترسمها الأضواء على السقوف وكل شيء ساكن ما خلا الستائر المجموعة إلى جوانب النوافذ. هذه وحدها كان النسيم الواني يعابثها.

وكان سارودين في جاكتة من التيل مفكوكة الأزرار يقطع أرجاء الغرفة في بطء وهو يدخن سيجارة في كسل وفتور ويكشف عن أسنانه الكبيرة البيضاء. وعلى الكنبة تاناروف في ثياب الركوب متمطيا يلحظ سارودين بعينيه الصغيرتين السوداوين. وكان في أشد الحاجة إلى خمسين روبلا، وقد طلب إلى سارودين مرتين أن يسلفه إياها ولم يجرؤ على معاودة الكرة مرة ثالثة. فجعل ينتظر في قلق أن يعود سارودين من تلقاء نفسه إلى الموضوع، ولم يكن سارودين قد نسي ولكنه كان قد قامر وأضاع سبع مئة روبل في الشهر الماضي فضن على صاحبه بأي قرض آخر. وكان يقول لنفسه وهو ينظر إلى تاناروف إذ يمر به: «إن عليه لي مئتي روبل وخمسين روبلا. وهذا مدهش حقا! نعم نحن صديقان حميمان إلخ، ولكني أعجب له كيف لا يخجل. إنه على الأقل يستطيع أن يعتذر إلي من أنه مدين لي بكل هذا المبلغ. كلا. لن أقرضه درهما واحدا آخر.»

ودخل في هذه اللحظة خادمه وهو جندي صغير الجسم منقط الجلد ووقف بشكل محتوى وحيا وقال وهو لا ينظر إلى سارودين: «سيدي لقد طلبت جعة ولكنه لم يبق منها شيء.»

فنظر سارودين على غير إرادته إلى تاناروف واحمر وجهه وقال لنفسه: «حقا إن هذا أكثر مما يطاق! إنه يعلم ما أنا فيه من الضيق ومع ذلك لا بد من الجعة!»

وزاد الخادم على خبره السابق: «والباقي من الفودكا قليل أيضا.»

قال: «حسن لعنة الله عليك إنه لا يزال معك روبيلان فاذهب واشتر ما تريد.»

أجاب: «عفوا سيدي فليس معي شيء على الإطلاق.»

Halaman tidak diketahui