118

فأجابه يوري: «لا شيء! لا شيء! مسألة تافهة! لقد كنا نتحدث عن ريازانتزيف. كلام فارغ.»

وضحك ضحكة مستكرهة، فنظر أبوه إليه شزرا وارتسمت على وجهه دلائل الغضب وصاح به: «ماذا بالله كنت تقول لها؟» وهز كتفيه واستدار وخرج.

فطار طائر يوري وهم بأن يجيبه جوابا عنيفا وقحا ولكن ما خالجه من الحياء أسكته وعقد لسانه. وجاش بصدره الغيظ من أبيه والتوجع للياليا والاحتقار لنفسه، فلم يسعه إلا أن ينحدر إلى الحديقة وداس وهو يمشي ضفدعة تنقنق فسحقها وكادت تزل قدمه فوثب صائحا محنقا. وجعل يمسح قدمة مدة طويلة على الحشائش الطويلة وقد سرت في ظهرة رعدة باردة.

وعبس وأغراه الاشمئزاز الجثماني والعقلي باعتبار كل شيء مثيرا مستفزا حقيرا. وتلمس الطريق إلى مقعد جلس عليه وشخص بعينه إلى الحديقة غير معتمد شيئا على التعيين بنظره، ولم ير إلا رقعا عريضة سوداء في الظلام الشامل، واصطخت في صدره ورأسه الخواطر السوداء.

ورمى بعينه إلى حيث كانت تموت تلك الضفدعة الصغيرة المسكينة أو حيث ماتت بعد كرب وألم هائلين. فكأنما ماتت دنيا بأسرها وزهق عالم برمته، فيالها من حياة مفردة مستقلة لقيت حتفها الشنيع ولم يحسها أحد ولا سمع بها ديار!

واستطرد يوري من ذلك إلى خاطر مقلق غريب ، هو أن كل ما يكون الحياة من غرائز الحب أو البغض الخفية التي تدفع المرء إلى قبول شيء بعينه ورفض آخر، وإحساسه الفطري بالخير والشر، كل هذا ليس إلا ضبابا رقيقا يغطي شخصيته وحدها ويلفها ويحجبها. فأما أعمق تجاريبه وأوجعها فلا يكترث لها العالم في جملته الهائلة كما لم يكترث لمصرع هذه الضفدعة الصغيرة. وكان قبل ذلك يتصور أن آلامه وعواطفه تعني غيره، فنسج من هذه العلاقة شبكة معقدة بينه وبين الوجود؛ كان مصرع الضفدعة كافيا لتحطيمها والقضاء عليها، فتركه ذلك مستفردا يعوزه العطف والغفران.

ثم كرت خواطره إلى سمينوف وإلى ما بدا له من استخفافه بالمثل العليا التي استغرقت نفسه هو وملايين غيره من الناس، فراح يفكر في لذة الحياة الخالصة وفي سحر المرأة الجميلة وضوء القمر والبلابل، وهو موضوع كان قد شغل خواطره في اليوم التالي لآخر حديث جرى له مع سمينوف، ولم يكن يومئذ يفهم لماذا يهتم سمينوف بالتافه من الأمور كركوب زورق أو وجه فتاة حسنة، وكيف يأبى أن يكترث لأسمى الآراء وأعمقها. فأما الآن فقد أدرك أن هذا لم يكن منه بد وأنه لا سبيل إلا إليه، إذ كانت هذه الأمور التافهة هي التي تتكون منها الحياة - الحياة الحقيقية الغاصة بالإحساسات والعواطف والمتع واللذات - أما تلك الآراء السامية العميقة فليست إلا عبارات جوفاء باطلة لا يسعها أن تؤثر أضأل تأثير في ذلك السر الضخم المحجوب وراء الحياة والموت. وهب لهذه الآراء قيمة ووزنا فستعفى عليها وتحل محلها في المستقبل آراء أخرى ليست دونها خطرا وأهمية.

ولما انتهى إلى هذه النتيجة التي نشأت على غير انتظار من آرائه في الخير والشر حار واضطرب وأحس كأنما يواجه فراغا هائلا، وتحرر ذهنه لحظة وصفا وشعر بالقدرة التي يشعر بها الحالم على السبح في الفضاء إلى حيث أحب دون أن تقعد به قيود المادة، فأفزعه هذا الإحساس وجاهد بكل ما وسعه من قوة أن يجمع آراءه المألوفة في الحياة، فزايله هذا الإحساس المرعب وعاد كل شيء جهما ملتاثا في نظره كما كان.

وكان يوري يقول إن الحياة هي تحقيق الحرية وإن من الطبيعي على ذلك أن يبغي المرء في حياته اللذة وأن يعيش لها. وعلى هذا تكون وجهة نظر ريازانتزيف - على انحطاطها - منطقية معقولة، إذ كان لا ينشد إلا سد حاجاته الجنسية ما أمكنه ذلك لأنها ألح الحاجات وأعنفها. ولكن هذا جره إلى القول إن الفسوق والطهر ليسا إلا أوراقا ذاوية تكسو الحشائش النضيرة الجديدة، وإن لمثل لياليا وسينا كرسافينا من الفتيات الطاهرات الحق كل الحق في الارتماء في تيار اللذة الجثمانية. فأحس لهذا الخاطر صدمة واستقذره ورآه عبثا وصبيانية وعالج أن ينفيه عن ذهنه وقلبه بعباراته الحادة القاسية المألوفة.

وقال وهو ينظر إلى السماء: «نعم، إن الحياة هي الشعور ولكن الناس ليسوا بهائم لا تعقل وعليهم أن يحكموا شعورهم وعواطفهم وأن يضبطوها وأن يوجهوا رغباتهم إلى ما هو خير. ولكن أثم إله فيما وراء هذه النجوم؟»

Halaman tidak diketahui