لقد كان نصيبنا أن نشهد الهدوء الاستثنائي، بل الانتشاء والبهجة اللتين تقبلت بهما هذه العوالم احتمال فنائها على أن تمتهن نفسها بالمقاومة. وقد شهدنا فيما بعد الأحداث الغريبة التي أنقذت مجرتنا من الكارثة، لكن المأساة قد حلت أولا.
من نقاط المراقبة التي اتخذناها في عقول المهاجمين والواقع عليهم الهجوم، راقبنا فناء سلالات من أنبل ما صادفنا حتى ذلك الوقت، ثلاث مرات لا مرة واحدة فقط، وكان ذلك على يد سلالة من المجانين الذين كانوا يتمتعون بالمرتبة الذهنية العالية نفسها تقريبا. شهدنا فناء ثلاثة عوالم، بل ثلاثة من أنظمة العوالم التي يسكن كل منها مجموعة متنوعة من السلالات المتخصصة. ومن هذه الكواكب المحكوم عليها بالهلاك، شاهدنا بالفعل الشمس وهي تندلع بانفجار ضخم وتتضخم على مدار الساعة. وقد شعرنا بالفعل من خلال أجساد مضيفينا بالحرارة التي تزداد بسرعة كبيرة، ورأينا الضوء الذي يغشي الأبصار بعيونهم. رأينا الحياة النباتية تذوي والبحار تبدأ في التبخر. سمعنا الأعاصير الغاضبة تحطم كل بناء وترمي بالأنقاض إلى الأمام وشعرنا بها. وبرهبة وتعجب، اختبرنا بعضا من النشوة والسلام الداخلي اللذين لاقت بهما الشعوب الملائكية الهالكة نهايتها. إن هذا الانتشاء الملائكي الذي اختبرناه في ساعة المأساة هو بالتأكيد ما منحنا البصيرة الواضحة لمعرفة التوجه الأكثر روحانية تجاه القدر. لم نعد نطيق العذاب الجسدي الناتج عن الكارثة بعد وقت قصير للغاية فاضطررنا إلى الانسحاب من تلك العوالم الشهيدة. غير أننا تركنا تلك الشعوب الهالكة أنفسها وهي متقبلة لا العذاب الجسدي فحسب، بل فناء مجتمعها الرائع بآماله اللانهائية أيضا . تركناها وهي متقبلة لتلك المرارة وكأنها إكسير الخلود لا مرارة قاتلة. إننا لم نفهم المعنى الكامل لهذا الانتشاء إلا للحظة واحدة حين كانت مغامرتنا قد أوشكت على الانتهاء.
لقد كان من الغريب بالنسبة إلينا أن أيا من هذه الضحايا الثلاث لم يحاول المقاومة. الحق أن أيا من سكان هذه العوالم لم يفكر للحظة واحدة في احتمالية المقاومة. لقد بدا أن التوجه الذي اتخذوه جميعا في معالجة الكارثة يتمثل فيما سأحاول التعبير عنه فيما يلي: «إن الانتقام سيعني أن نجرح روحنا المشتركة إلى حد لا يمكن علاجه، ونحن نفضل الموت على ذلك. إن طابع الروح الذي بنيناه سيحطم لا محالة سواء أكان ذلك بقسوة المعتدي أو بلجوئنا إلى التسلح. من الأفضل أن نهلك على أن ننتصر مع ذبح روحنا. وبالرغم من أن تلك هي الحال؛ فالروح التي تمكنا من الوصول إليها عادلة وهي محبوكة في نسيج الكون على نحو لا يمكن تدميره. إننا نموت ونحن نمجد الكون الذي يمكن فيه على الأقل تحقيق إنجاز كإنجازنا. نموت ونحن نعرف أن الوعد بمجد أكبر سيبقى بعدنا في مجرات أخرى. إننا نموت ونحن نسبح لصانع النجوم أو محطم النجوم.» (4) انتصار في مجرة فرعية
بعد تدمير نظام العوالم الثالث، وبينما كان نظام رابع يستعد لنهايته، حدثت معجزة أو ما بدا على أنه معجزة وغيرت مسار الأحداث بأكمله في مجرتنا. وقبل أن أحكي عن ذلك التحول في مجرى الأمور، لا بد لي من العودة بقصتي إلى الوراء وتتبع تاريخ نظام العوالم الذي كان سيقوم الآن بالدور الأهم في أحداث المجرة.
سيذكر أنه على «جزيرة» بعيدة عن «قارة» المجرة، عاشت السلالة التكافلية الغريبة من السمكيات والعنكبوتيات. كانت هذه الكائنات هي من أقام الحضارة الأقدم في المجرة تقريبا. لقد بلغوا المستوى «البشري» من التطور الذهني قبل «البشر الآخرين»، وبالرغم من أنهم قد عانوا من الكثير من النوائب، فقد تمكنوا من تحقيق تقدم عظيم على مدار الآلاف من ملايين السنين في مسيرتهم. لقد أشرت في آخر ذكر لهم أنهم قد أسكنوا جميع الكواكب الموجودة في نظامهم بسلالات متخصصة من العنكبوتيات كان كل منها في اتحاد تخاطري دائم مع شعب السمكيات الذي يسكن محيطات الكوكب الأم. وبمرور العصور، قل عددهم كثيرا إلى أن كادوا يفنون تماما، مرة بسبب تجارب فيزيائية جريئة للغاية ومرة بسبب الاستكشاف التخاطري الطامح للغاية، غير أنهم قد تمكنوا بمرور الوقت من اجتياز ذلك كله وتحقيق تطور ذهني لا نظير له في مجرتنا. صار كونهم المتمثل في الجزيرة الصغيرة؛ ذلك العنقود النائي من النجوم، تحت سيطرتهم بالكامل. ضم هذا الكون العديد من الأنظمة الكوكبية الطبيعية التي كان بالعديد منها عوالم وجد مستكشفو السلالة العنكبوتية الأوائل حين زاروها تخاطريا أنها مأهولة بسلالات أصلية لم تصل إلى المرحلة الطوباوية. تركت هذه السلالات لمصيرها فيما عدا أنه في بعض الأزمات التي واجهتها في تاريخها مارست السلالة التكافلية عليها سرا من بعيد تأثيرا تخاطريا ربما ساعدها في مواجهة الصعوبات بقوة أكبر. وبهذا، حين بلغ أحد هذه العوالم الأزمة التي يعاني منها النوع البشري في الوقت الحالي، فقد مر بها بسهولة تبدو طبيعية، ليصل مباشرة إلى مرحلة الوحدة العالمية وبناء العالم الطوباوي. حرصت السلالة التكافلية حرصا كبيرا على إخفاء وجودها عن السلالات البدائية خشية أن تفقد استقلالها العقلي؛ ومن ثم فحتى حين كان أفراد السلالة التكافلية يرتحلون بين هذه العوالم في المركبات الصاروخية ويستخدمون الموارد المعدنية الموجودة في الكواكب المجاورة غير المأهولة، كانوا يتركون العوالم الذكية دون الطوباوية خارج حدود الزيارة. ولم يسمح لهذه العوالم باكتشاف الحقيقة إلا بعد أن بلغت هي نفسها المرحلة الطوباوية وراحت تستكشف الكواكب المجاورة. في ذلك الوقت، كانت قد أصبحت على استعداد لاستقبالها بابتهاج لا خيبة وخوف. منذ ذلك الوقت فصاعدا، كان العالم الطوباوي الناشئ يرتقي بسرعة من خلال الاتصال التخاطري والمادي أيضا، إلى المرتبة الروحانية التي كانت قد بلغتها السلالة التكافلية نفسها، وكان يشارك على قدم المساواة في نظام العوالم التكافلية.
بعض هذه العوالم السابقة على الطوباوية التي لم تكن خبيثة لكنها لم تستطع تحقيق تقدم أكبر، قد تركت في سلام وأبقي عليها لأغراض البحث العلمي مثلما نحفظ الحيوانات البرية في الحدائق الوطنية. وحقبة بعد حقبة، صارت هذه الكائنات المقيدة بعدم جدواها، تعاني عبثا من أجل مواكبة الأزمة التي تعرفها أوروبا الحديثة حق المعرفة. وفي دورة تلو الأخرى، كانت ستنبثق الحضارة من الهمجية وتؤدي الميكنة إلى تواصل الشعوب معا تواصلا مربكا، وتغذي الحروب القومية والطبقية من الرغبة في نظام عالمي أفضل، غير أنها تغذيه بلا جدوى. ثم كانت ستقع الكارثة تلو الكارثة فتضعف من نسيج الحضارة، وتعود الهمجية تدريجيا من جديد. وحقبة تلو الأخرى، كانت ستتكرر العملية من جديد تحت المراقبة التخاطرية الهادئة التي تجريها السلالات التكافلية، والتي لم تشك الكائنات البدائية التي تقع تحت المراقبة في أمر وجودها على الإطلاق. وبهذا فقد تمكنا نحن أنفسنا من أن ننظر من الأعلى وكأن ننظر إلى حوض صخري حيث توجد بعض الكائنات البدائية التي تكرر بحماس ساذج مآسي قد مر بها أسلافهم قبل حقب طويلة.
كانت السلالة التكافلية تتمتع بما يكفي من الإمكانيات لئلا تمس قطع المتحف هذه؛ إذ كانت تمتلك تحت تصرفها الكثير من الأنظمة الكوكبية. وعلاوة على هذا، فقد كان تسلحها بالعلوم الفيزيائية الفائقة التطور وبالطاقة دون الذرية يمكنها من أن تبني في الفضاء كواكب اصطناعية صالحة للسكن الدائم. كانت هذه الكرات المجوفة الكبيرة المصنوعة من معادن فائقة اصطناعية وحجر الأدمنت الاصطناعي الشفاف تتنوع في الحجم، من البنيات الأولى الأصغر التي لم يكن حجمها يزيد عن كويكب صغير للغاية إلى كرات أكبر من الأرض بدرجة ملحوظة. ولم يكن لها غلاف جوي خارجي إذ كانت كتلتها خفيفة بوجه عام مما يمنع هروب الغازات. وثمة غطاء من القوة الطاردة كان يحميها من الشهب والأشعة الكونية. كان السطح الخارجي للكوكب، والذي كان شفافا بالكامل يغطي الغلاف الجوي. وتحته مباشرة، تتدلى محطات البناء الضوئي وآلات توليد الطاقة من الإشعاع الشمسي. كانت المراصد الفلكية، والآلات اللازمة للتحكم في مدار الكوكب، وكذلك «الأرصفة» الضخمة المخصصة للسفن العابرة للكواكب؛ تشغل جزءا من هذه الطبقة الخارجية. أما الجزء الداخلي من هذه العوالم، فقد كان يتألف من نظام من الكرات المتحدة المركز والتي تدعمها عوارض وأقواس عملاقة. وفيما بين هذه الكرات تتوزع الآلات المسئولة عن تنظيم الغلاف الجوي، وخزانات المياه الضخمة، ومصانع الغذاء والبضائع، ومتاجر المواد الهندسية، ومسارات تحويل المخلفات، والمناطق السكنية والترويحية، ومجموعة ضخمة من المختبرات والمكتبات والمراكز الثقافية. ولأن السلالة التكافلية كانت بحرية المنشأ، فقد كان هناك محيط مركزي قد شكل فيه نسل السلالة السمكية الأصلية والذي قد تعرض لتعديلات جوهرية وكان يتسم بالتقاعس الجسدي والنشاط الذهني «المسارات الدماغية الأرقى» في العالم الذكي. وهناك، كان الشركاء التكافليون يسعى بعضهم وراء بعض مثلما كان يحدث في المحيط البدائي في الكوكب الأم، ويتلقى الصغار من كلا النوعين التربية معا. ولأن سلالات هذه المجرة الفرعية لم تكن بحرية في الأصل، فقد صممت هذه الكواكب الاصطناعية بما يتلاءم مع طبيعتها الخاصة، وإن كان تصميمها ينتمي إلى النوع العام نفسه. بالرغم من ذلك، فقد وجدت السلالات كلها أنه من الضروري أن تغير من طبيعتها تغييرا كبيرا لتتلاءم مع الظروف الجديدة. وبمرور الحقب، تأسست مئات الآلاف من العويلمات التي تنتمي جميعها إلى هذا النوع لكنها كانت تزداد تدريجيا في الحجم والتعقيد. صار عدد كبير من النجوم التي لم يكن لها كواكب طبيعية محاطا بحلقات متحدة المركز من العوالم الاصطناعية. في بعض الحالات، كانت الحلقات الداخلية تضم العشرات من العوالم، وتضم الحلقات الخارجية الآلاف من العوالم التي تكيفت على الحياة على مسافة محددة من الشمس. ثمة قدر كبير من التنوع المادي والذهني كان يميز العوالم عن بعضها وإن كانت تنتمي إلى الحلقة نفسها. في بعض الأحيان، يشعر أحد العوالم القديمة نسبيا أو حتى حلقة بأكملها من العوالم، أن العوالم والسلالات الأحدث والتي كان تركيبها الفيزيائي والحيوي يضم مهارات متزايدة؛ قد تفوقت عليه في البراعة الذهنية. وعندئذ، إما أن يتابع هذا العالم حياته ببساطة في حالة من التخلف الحضاري، بينما تتحمله العوالم الأصغر وتحبه وتدرسه، أو يختار الموت والتنازل عن مواد كوكبه لصالح مشروعات جديدة.
ثمة نوع صغير للغاية وغير شائع بعض الشيء من العوالم الاصطناعية كان يتكون كليا من الماء. لقد كان يشبه أحد أحواض أسماك الزينة الذهبية الضخمة. وتحت طبقته الخارجية الشفافة، المرصعة بالآلات الصاروخية والأرصفة الكوكبية، يقبع محيط كروي تقطعه العوارض الهيكلية ويتخلله الأكسجين باستمرار. ثمة لب صلب صغير كان يمثل قاع المحيط، وكان شعب السمكيات وشعب العنكبوتيات الزائر يتدفقان في هذه المساحة المائية الضخمة المغلفة. كان كل فرد من شعب السمكيات يتلقى ربما زيارة عشرين من الشركاء الذين كانوا يقضون حياتهم العملية على عوالم أخرى. لقد كانت حياة السمكيات غريبة بالفعل؛ إذ كانوا محبوسين وأحرارا في الوقت ذاته. إن السمكي لم يكن يترك محيطه الأصلي أبدا، لكنه كان يتمتع بالاتصال التخاطري مع السلالة التكافلية بأكملها في جميع أرجاء المجرة الفرعية. إضافة إلى ذلك، فقد كان علم الفلك هو النوع الوحيد من النشاط العملي الذي مارسه شعب السمكيات؛ إذ كانت تتدلى تحت قشرة الكوكب الزجاجية مباشرة المراصد؛ حيث كان علماء الفلك السابحون يدرسون تركيب النجوم وتوزيع المجرات.
اتضح أن هذه العوالم الشبيهة ب «أحواض الأسماك الذهبية» انتقالية فحسب. قبل عصر الإمبراطوريات المجنونة بفترة قصيرة، بدأت السلالة التكافلية في إجراء التجارب لإنتاج عالم يجب أن يتكون من كائن مادي واحد. وبعد عصور من التجارب، أنتجوا عالما من نوع «حوض الأسماك الذهبية» يرتبط فيه المحيط بأكمله بشبكة ثابتة من أفراد شعب السمكيات الذين يرتبطون معا باتصال عصبي مباشر. وقد كان لهذا النسيج الحي الشامل الشبيه بالسليلة روابط ثابتة بآلات العالم ومراصده. وبهذه الطريقة شكل كائنا عالميا عضويا بالفعل، ولأن شعب السمكيات المتجانس كان يوفر معا عقلية موحدة تماما، فقد صار كل من هذه العوالم بالفعل بالمعنى الكامل كائنا عاقلا، وكأنه إنسان. وقد احتفظوا برابط جوهري من الماضي، وهو أن أفراد شعب العنكبوتيات لا سيما الذين تكيفوا منهم بنحو خاص على النظام التكافلي الجديد كانوا يزورونهم من كواكبهم البعيدة بين الحين والآخر ويسبحون عبر الدهاليز تحت المائية من أجل الاتحاد مع أقرانهم المرتكزين في المحيطات.
تزايد عدد نجوم العنقود أو المجرة الفرعية النائية المطوقة بحلقات العوالم، وتزايد عدد العوالم التي كانت من هذا النوع العضوي الجديد. كان القدر الأكبر من شعوب المجرة الفرعية من النسل العنكبوتي أو السمكي الأصلي، غير أن العديد منهم كان من النسل البشري، وانحدر عدد غير قليل منهم من سلالة الطيور أو الحشريات أو البشر-النباتات. وقد كان الاتصال بنوعيه؛ التخاطري والمادي، مستمرا بين العوالم وحلقات العوالم والأنظمة الشمسية. وكانت المركبات الصغيرة المدفوعة بالصواريخ تجوب بانتظام في كل نظام من الأنظمة الكوكبية. أما المركبات الأكبر أو العويلمات عالية السرعة، فقد كانت تسافر من نظام إلى آخر وتستكشف المجرة الفرعية بأكملها، بل كانت تسافر حتى عبر ذلك المحيط من الفراغ إلى الجانب الأساسي من المجرة، حيث كانت الآلاف فوق الآلاف من النجوم العديمة الكواكب تنتظر أن تحيط بها حلقات من العوالم.
Halaman tidak diketahui