تحولت العديد من الوديان إلى خزانات تبدو أنها من الحليب؛ إذ كانت أسطح هذه البحيرات مغطاة بطبقة سميكة من مادة دبقة بيضاء لكي تحول دون فقدان الماء بالتبخر. وفيما حولها من جميع الجهات تجمعت جذور هؤلاء الأشخاص الغريبين الذين يسكنون هذا العالم كأرومات الأشجار في غابة قد قطعت أشجارها وأخليت. كانت الأرومات كلها مغلفة بالغراء الأبيض. وكانت مساحات التربة جميعها مستخدمة، وقد عرفنا أنه بالرغم من أن بعضها قد تكون النتيجة الطبيعية للعمليات التي حدثت في العصور الماضية بفعل الهواء والمياه، فقد كان الجزء الأكبر منها اصطناعيا قد صنع من عمليات ضخمة تتمثل في استخراج المعادن وتفتيتها. لا شك بأن الصراع التنافسي للحصول على نصيب من التربة النادرة في هذا العالم الصخري في العصور البدائية وبالطبع على مدار جميع مراحل التطور «القبل البشري» قد كان أحد العوامل الأساسية التي حثت على ظهور الذكاء.
كنا نرى البشر-النباتات المتحركين محتشدين نهارا في الأودية ناشرين أوراقهم إلى الشمس، ولم نكن نراهم يعملون إلا ليلا، متحركين على الصخور العارية أو منشغلين بالماكينات وغيرها من الأشياء الصناعية من أدوات حضارتهم. لم يكن هناك أبنية ولا أسيجة مسقوفة تحمي من الطقس؛ إذ لم يكن هناك من طقس. بالرغم من ذلك، فقد كانت الهضاب والمصاطب الصخرية تمتلئ بجميع أشكال الأدوات التي لم نكن نفهمها على الإطلاق.
كان الكائن النموذجي من البشر-النباتات منتصبا مثلنا. وكان يحمل على رأسه عرفا كبيرا من الريش الأخضر، والذي كان يمكن طيه معا على هيئة ثمرة خس رومي ضخمة ومحبوكة، أو نشره لالتقاط الضوء. ومن تحت هذا العرف، تبرز ثلاث عيون مركبة. وتحت هذه العيون، توجد ثلاثة أطراف خضراء ملتوية شبيهة بالأذرع تتفرع عند نهاياتها أيد تستخدم للتناول. وكان الجذع الرشيق المرن المغلف بحلقات صلبة تنزلق إحداها في الأخرى عند انحناء الجسم، ينقسم إلى ثلاث سيقان للحركة. اثنتان من الأقدام الثلاث كانت لهما وظيفة الفم أيضا، وكان يمكنهما امتصاص العصارة من الجذر أو التهام المواد الخارجية. أما القدم الثالثة، فقد كانت عضوا للإخراج. ولم تكن الإفرازات الثمينة تهدر أبدا، بل كانت تمر عبر وصلة خاصة تقع بين القدم الثالثة والجذر. كانت الأقدام تضم أعضاء التذوق والسمع أيضا؛ إذ لم يكن الصوت ينتشر فوق الأرض لانعدام الهواء.
في النهار، كانت هذه الكائنات الغريبة تحيا حياة النباتات بصفة أساسية، وفي الليل تحيا حياة الحيوانات. في كل صباح، بعد ليلة طويلة وباردة، تتدفق الجماعة السكانية بأكملها إلى مساكنها في الجذور. يسعى كل فرد إلى جذره ويثبت نفسه فيه ويقف على مدار اليوم متقد الحرارة ممددا أوراقه. كان ينام حتى الغروب، غير أن نومه لم يكن نوما دون أحلام، بل نوعا من الغيبة التي كان سيتضح في الأجيال المستقبلية أن طبيعتها التأملية الباطنية ينبوع سلام للعديد من العوالم. وفي أثناء نومه، كانت تيارات العصارة تتسارع ذهابا وإيابا في جذعه تنقل المواد الكيميائية بين الجذور والأوراق، وتغمره بإمداد مركز من الأكسجين وتزيل عنه نواتج عملية الأيض الهدمي الماضية. وحين تختفي الشمس مرة أخرى وراء الصخور، ويتبدى منها للحظة وهج النتوءات الشمسية المتقدة، كان يستيقظ ويطوي أوراقه ويغلق الممرات المؤدية إلى جذوره ويفصل نفسه عنها، ويسعى في شئون الحياة المتحضرة. كان الليل في هذا العالم أكثر سطوعا من ضوء القمر في عالمنا؛ إذ لم يكن هناك ما يحجب النجوم، وكانت العديد من العناقيد النجمية الكبيرة تتدلى في سماء الليل. بالرغم من ذلك، كان الضوء الصناعي يستخدم في الأعمال الدقيقة، لكن عيبه الأساسي أنه غالبا ما كان يبعث العامل على النوم.
لا ينبغي لي أن أحاول حتى أن أعرض صورة عامة للحياة الاجتماعية الغنية والغريبة لهذه الكائنات. سأكتفي فقط بأن أذكر أننا قد وجدنا هنا، مثلما وجدنا في كل مكان آخر، جميع المحاور الثقافية المعروفة على الأرض، غير أنها قد اتخذت في عالم النباتات المتنقلة هذا شكلا غريبا ونمطا محيرا. لقد وجدنا هنا، مثلما وجدنا في كل مكان آخر، مجموعة من الأفراد المنشغلين للغاية بمهمة الحفاظ على وجود أنفسهم ومجتمعهم. هنا قد وجدنا مشاعر الاعتداد بالذات والكراهية والحب ومشاعر الحشود وحب الاستطلاع الفكري وغير ذلك. وهنا أيضا، مثلما هي الحال في جميع العوالم الأخرى التي زرناها حتى الآن، وجدنا سلالة تعاني من آلام الأزمة الروحانية الكبيرة التي كنا نعرفها في عوالمنا الخاصة، وشكلت قناة التواصل التي أتاحت لنا إمكانية الوصول التخاطري إلى عوالم أخرى. غير أن الأزمة هنا قد اتخذت نمطا مختلفا عن جميع ما صادفناه حتى الآن. كنا قد بدأنا في حقيقة الأمر في توسيع قدراتنا على الاستكشاف التخيلي.
بالرغم من أنني لن أذكر تفاصيل أي شيء آخر، فلا بد لي أن أحاول وصف هذه الأزمة؛ فهي مهمة للغاية لفهم أمور يصل تأثيرها إلى ما هو أبعد كثيرا من هذا العالم الصغير.
إننا لم نبدأ في فهم حياة هذه السلالة إلى أن تعلمنا كيفية استيعاب الطابع الذهني لطبيعتها الحيوانية-النباتية المزدوجة. باختصار، كانت الطبيعة الذهنية للبشر-النباتات في كل عصر من العصور تعبيرا عن التوتر المتفاوت بين جانبي طبيعتهم؛ بين الطبيعة الحيوانية النشطة الحازمة المحبة للبحث الموضوعي والتي تتسم بالإيجابية الأخلاقية، وبين الطبيعة النباتية السلبية المذعنة بشدة والتي تتسم بالتأمل الذاتي. لا شك بأن السلالة قد تمكنت من سيادة عالمها من خلال الإقدام الحيواني والذكاء البشري العملي، غير أن هذه الإرادة العملية دائما ما كانت تلطف منها وتثريها تجربة تعد نادرة للغاية بين البشر. ففي كل يوم من الأيام على مدار العصور، لم تسلم هذه الكائنات طبيعتها الحيوانية المتقدة إلى النوم اللاواعي أو المليء بالأحلام الذي تعرفه الحيوانات فحسب، بل كانت تسلمها أيضا إلى نوع خاص من الوعي عرفنا أن النباتات هي التي تختص به. حين تنشر تلك الكائنات أوراقها، فإنها تمتص الإكسير الجوهري للحياة على نحو مباشر، والذي لا تتلقاه الحيوانات إلا بصورة غير مباشرة عن طريق لحم فرائسها المشوه؛ ومن ثم يبدو أنها تمكنت من الحفاظ على تواصل مادي مباشر مع مصدر الوجود الكوني بأكمله. وبالرغم من أن هذه الحالة كانت مادية، فقد كانت روحانية أيضا على نحو ما. لقد كان لها تأثير واسع النطاق على جميع سلوكياتها. وإذا جاز لي أن أستخدم اللغة اللاهوتية، فيمكن أن أسمي هذه الحالة بالتواصل الروحاني مع الإله. في وقت الليل المليء بالمشاغل، كانوا يسعون في شئونهم كأفراد منعزلين؛ إذ لم يحظوا بتجربة حالية مباشرة لوحدتهم الضمنية، غير أن ذاكرة حياتهم النهارية كانت تحميهم دائما في المعتاد من أسوأ تجاوزات الفردانية.
لقد استغرق منا الأمر وقتا طويلا لكي نفهم أن حالة هذه الكائنات النهارية المميزة لم تكن تتمثل في اتحادها كعقل واحد للمجموعة سواء أكانت قبيلة أم سلالة. لم يكن وضعها مماثلا للوحدات الطائرة المتمثلة في غيوم الطيور، ولا مماثلا للعقول العالمية التخاطرية والتي كنا سنكتشف بعد ذلك أنها قد أدت دورا كبيرا للغاية في تاريخ المجرة. لم يكن الإنسان-النبات في حياته النهارية يكتسب مبادئ رفاقه من البشر-النباتات وأفكارهم؛ ومن ثم يستيقظ بوعي أكثر شمولا وإدراكا للبيئة وللجسد المتعدد للسلالة. على العكس من ذلك، كانت استجابته تتوقف تماما فيما يتعلق بجميع الظروف الموضوعية خلا فيضان ضوء الشمس الذي يغمر أوراقه المفترشة. وقد كانت هذه التجربة تمنحه انتشاء قويا يقترب في طبيعته من الانتشاء الجنسي، ذلك الانتشاء الذي يبدو فيه أن الفاعل والمفعول به قد صارا كيانا واحدا؛ لقد كان انتشاء الاتحاد الذاتي مع المصدر المحتجب للوجود المتناهي بأكمله. في هذه الحالة، كان الإنسان-النبات يستطيع التأمل في حياته الليلية النشطة ويستطيع أن يصبح واعيا بتعقيدات دوافعه على نحو أوضح كثيرا مما يتمكن منه ليلا. في هذا الوضع النهاري ، لم يكن يصدر أي أحكام أخلاقية على نفسه ولا على الآخرين، بل كان يراجع جميع مظاهر السلوك البشري ذهنيا بسرور تأملي موضوعي، بصفتها أحد العوامل الموجودة في الكون. بالرغم من ذلك، فحين كان يأتي الليل مجددا ومعه المزاج الليلي النشط، كانت رؤاه النهارية الهادئة عن نفسه وعن الآخرين تحفز بالاستحسان أو الاستهجان الأخلاقي.
والآن في مسار هذه السلالة بأكمله، كان ثمة توتر ما بين كلا الجانبين الكامنين في طبيعتها. إن كل إنجازاتها الثقافية الراقية قد تحققت في العصور التي كان كلا الجانبين قويين فيها دون أن يتغلب أحدهما على الآخر. بالرغم من ذلك، ومثلما هي الحال في الكثير جدا من العوالم الأخرى، أدى تطور العلوم الطبيعية وإنتاج القوة الميكانيكية من ضوء الشمس الاستوائي إلى ظهور اضطراب فكري خطير. إن تصنيع عدد لا يحصى من وسائل الراحة والرفاهية، وانتشار السكك الحديدية الكهربية على مستوى العالم بأكمله، وتطوير الاتصالات اللاسلكية، ودراسة الفلك والكيمياء الحيوية الميكانيكية، والطلبات الملحة للحرب والثورة الاجتماعية، كل هذه التأثيرات قد عززت من العقلية النشطة وأضعفت من العقلية التأملية. وقد بلغ الأمر ذروته حين اكتشفت إمكانية التخلي عن النوم النهاري برمته؛ فقد كان من الممكن حقن منتجات البناء الضوئي الصناعي في جسم الكائن الحي كل صباح؛ كي يتسنى للإنسان-النبات أن يقضي اليوم بأكمله في العمل النشط. وسرعان ما بدأ استخراج جذور البشر واستخدامها كمواد خام في التصنيع؛ إذ ما عادوا يحتاجون إليها لأغراضها الطبيعية.
لا ينبغي لي أن أضيع الوقت في وصف هذا المأزق الشنيع الذي حل بهذا العالم الآن. يبدو أن البناء الضوئي الصناعي لم يكن ينتج أحد الفيتامينات الأساسية للروح بالرغم من حفاظه على نشاط الجسد؛ فانتشر مرض الآلية والحياة الآلية الخالصة بين الجماعة السكانية. وقد شهد العالم بالطبع حمى النشاط الصناعي؛ فقد اندفع البشر-النباتات في أرجاء كوكبهم بجميع أنواع المركبات التي تعمل بالدفع الآلي، وزينوا أنفسهم بأحدث المنتجات الصناعية، واستغلوا الحرارة البركانية المركزية للحصول على الطاقة، وأبدوا براعة كبيرة في تدمير أحدهم الآخر، واندفعوا في الآلاف غيرها من المساعي المحمومة بحثا عن نعيم كان يفلت منهم على الدوام.
Halaman tidak diketahui