Tahun-tahun Lubang Hitam

Husayn Mihran d. 1450 AH
33

Tahun-tahun Lubang Hitam

سنوات الثقب الأسود

Genre-genre

قامت من السرير فلم يكن بإمكانها النوم على أي حال، وكان ياسين لم يزل في القاهرة لاستكمال إجراءات تصفية شركته، أخرجت ألبوم صورها من علبته الكبيرة وأخذت تتصفح صور زفافها وتستعيد ذكريات أيام زواجها الأولى، كان سقف توقعاتها عاليا في تلك الأيام، كانت فتاة مثالية بمقاييس المجتمع، حافظت على نفسها طوال السنوات، ادخرت جمالها وحفظت أنوثتها لزوج المستقبل حتى قبل أن تعرفه، انتظرت أن يعوضها، انتظرته فارسا ذا حصان أبيض، أميرا وسيما وفنانا شاعريا، انتظرت فيه كل ما طاف بخيالها وزار أحلام مراهقتها، وكل ما ثرثرت حوله مع صديقاتها في حصص المدرسة الفارغة، أو في المحادثات الهاتفية الطويلة، فعلت ما كان عليها فعله، التزمت بأوامر ونواه الأهل والمجتمع بحذافيرها، لم تقصر ولم تتهاون ولم تبد منها أي هفوة، كانت تلميذة مجتهدة ومراهقة مهذبة، توقفت عن ارتداء الفساتين القصيرة التي تحبها وبدأت تختار ملابسها بتحفظ حين بدا أن «خراط البنات قد خرطها» على حد تعبير عجائز العائلة، كانت شاهدة على مغامرات زميلاتها الغرامية، لكنها لم تتورط أبدا في نصف مغامرة، حاول معها العديد من الشباب ولم تضعف لنصف لحظة. ألم يكن من العدل أن تنال حينذاك مكافأة ذلك الالتزام؟! أليس هذا هو زوجها «وحلالها» الذي انتظرته ثلاثة وعشرين شتاء؟ فليكن هو إذن فارسها، وليأت بحصان أبيض، لا تدري من أين يمكنه أن يأتي به، لكن لا بد له هو أن يدري، أليس هو الرجل؟ فليأت إذن بالحصان الأبيض، وليكن أوسم من كيفن كوستنر، وأرق من كاظم الساهر، وأكثر رجولة من رشدي أباظة، فلن يرضيها أقل من ذلك.

كان ياسين هادئا متزنا، متحفظا في إظهار مشاعره، لم تكن تميز في أيامهما الأولى بين غضبه وشروده، أو بين سروره واشتهائه، كان غامضا كمخطوطة عتيقة تحتاج للكثير من الوقت والجهد حتى تنفك طلاسمها، ولم تزل هي تفك تلك الطلاسم حتى اليوم. انقضت أعوام طويلة وهي تفعل، ولم تزل تشعر بأنها لم تفهمه تماما بعد، هؤلاء الرجال غامضون وغريبو الأطوار، يبدون لها كأطفال، بلهاء تسوقهم غرائزهم البدائية بعض الأحيان، وكآلات عملاقة لا تكل ولا يصعب عليها شيء أحيانا أخرى، لا تعرف إن كان ذلك حال كل الرجال، أم أنه حال رجلها هي فقط، لا خبرة لها بالرجال على أي حال، فقط كانت تتشكل لديها قناعات غير مكتملة مما تلتقطه من فضفضة الصديقات والقريبات، أو مما يتناثر على صفحات الجرائد وتطبيقات التواصل الاجتماعي من ثرثرة، لكنها خرجت من ذلك كله باستنتاج واحد قاطع؛ لا يأتي الرجال بأحصنة بيضاء، وليس ثمة من هو في رقة كاظم الساهر، بل إن كاظم الساهر نفسه ليس بهذه الرقة على أرض الواقع! •••

كانت قد قررت منذ سنوات طويلة ترك العمل والبقاء في المنزل لرعاية أطفالها وبيتها، بعدما عملت في مكتب أستاذتها الجامعية لسنوات أربع، ثم انتقلت إلى مكتب استشاري أكبر عملت فيه لسنتين، لم تستطع بعدها التوفيق بين العمل المرهق في مجال العمارة، الذي يتطلب ساعات عمل طويلة، ومواعيد غير ثابتة، ويسبب ضغوطا نفسية وعصبية كبيرة، وبين متطلبات تربية أبنائها الذين يحتاجون لرعايتها ولوقتها واهتمامها الكامل. كان ذلك على الأقل هو السبب المعلن لاستقالتها من عملها، هذا هو التبرير الذي ساقته لقرارها ذلك أمام مديرها الذي حزن كثيرا لخسارة كفاءتها وما اكتسبته من خبرات، وأمام ياسين الذي رحب بالقرار بتحفظ مؤكدا على مساندته لها في أي قرار تجد فيه سعادتها، لكن السبب الحقيقي الذي لم تعلن عنه لأحد قط هو أنها انسحبت من معركة حياتها اعترافا بالهزيمة، كانت قد وصلت أخيرا للقناعة بأن طموحها المهني قد اصطدم بالسقف المتاح في هذه المدينة، كانت تعلم أنه لا يمكنها التقدم لما هو أبعد مما هي عليه الآن. هذه المدينة ضيقة جدا كما قال لها ياسين منذ سنوات في لقاء تذكره جيدا، كان ياسين قد سبقها إلى اكتشاف تلك الحقيقة، لكنها كانت تصر على تجاهلها، أو ربما كانت تصر على اكتشاف الحقيقة بنفسها؛ لذلك لم تسمح لها عزة نفسها بالاعتراف له وقتذاك بأنه كان على حق، وأنها كانت فتاة ساذجة يعميها الطموح والشغف بالمهنة التي ارتضتها عن إدراك قبح الواقع، كانت ناجحة في عملها إلى حد كبير، وكانت قادرة على التوفيق إلى درجة لا بأس بها بين عملها من جهة، وبين بيتها وأبنائها من جهة أخرى، وبين رعايتها لوالديها كذلك من جهة ثالثة، لكن كل فرص الترقي والتقدم في المشوار المهني كانت تقتضي الخروج من هذه المدينة التي ظلت على الدوام محدودة الفرص رغم ضخامة امتدادها الجغرافي واكتظاظها بالسكان. هذا البلد مركزي إلى درجة شديدة الفجاجة، كل الفرص هناك في العاصمة، كل فروع المكاتب العالمية الكبيرة هناك في القاهرة الكبرى، ليست الإسكندرية إلا مجرد إقليم مهمل كأي إقليم مهمل آخر في شمال البلاد أو جنوبها، فكل الأقاليم في هذا البلد سواء. نجح الكثيرون من زملاء وزميلات دراستها الذين انتقلوا إلى القاهرة، أو الذين سافروا إلى أمريكا وكندا، أو إلى دبي والدوحة، والتحقوا بالعمل في المكاتب العالمية الكبرى، بل ولمع نجم بعضهم حتى صاروا من مشاهير المهنة الذين تفرد المجلات المتخصصة مساحات وصفحات لمناقشة أعمالهم والتعريف بهم. عرفت في النهاية وبالطريقة الصعبة أنها لن تحقق أي جديد في مهنتها إذا استمرت على ذلك الوضع، عرفت أنها لو بقيت هكذا لعشرين سنة فلن تتقدم أية خطوة إضافية، لتترك سوق العمل وهي لم تزل مطلوبة، بدلا من أن تضطر إلى تركه عندما تصبح عبئا على أصحاب العمل مع تقدمها في السن وارتفاع راتبها دون تقدم مهني حقيقي، لقد عاصرت خلال سنوات عملها أكثر من زميل وزميلة ممن تقدموا في السن، يضطرون إلى الاستقالة أمام تفضيل أصحاب العمل للبدلاء الأصغر سنا والأقل راتبا، فلتنسحب الآن إذن مرفوعة الرأس، لتترجل عن الفرس وهي منتصرة، لعل تلك التضحية تحسب لها وتوضع في رصيدها، إن لم يكن أمام ياسين فأمام نفسها على الأقل.

أكتوبر 2013م

على الأريكة العريضة ذات الوسائد التي ترهلت حشواتها بفعل الزمن بغرفة المعيشة في بيت أبيه القديم في بولكلي، جلس ياسين يتناول إفطاره كعادته عندما يكون مسافرا، كان ذلك الصباح هو الأخير له في الإسكندرية، لم تزل مدينة الرب تطل على الدنيا متألقة باهية رغم تكاثر الغبار على ثوبها الأبيض العتيق، تفتح المدينة القديمة عينيها بتعب السنوات الرديئة، وتلقي السلام على البحر القديم الذي ألقى إليها يوما بفارسها الأول القادم من الشاطئ الآخر، ترتشف المدينة قهوة الصباح مترقبة يوما ثقيلا ثقل هواء الخريف الرطب، تدهورت حالتها كثيرا عن أيام عصرها الذهبي، يوم أن كانت قبلة المهاجرين الهاربين من جحيم حروب أوروبا التي لا تنتهي، لم يبق من الإيطاليين واليونانيين والقبارصة والفرنسيين الذين اكتظت بهم شوارعها ومقاهيها لعشرات السنين إلا أسماء مبهمة لمحطات ترام وشوارع ضيقة لا يتذكر أحد أصل تسميتها. يغيب كل يوم مبنى بديع ذو تصميم إيطالي أو إنجليزي بما يحمله من تاريخ وحكايات وذكريات، لتنشق الأرض بعد سويعات عن مسخ خرساني قبيح يحتل مكانه، يخترق قلب السماء ويحجب شمس النهار عن الشوارع الضيقة العتيقة بظله الرمادي الكئيب، وواجهته السوقية الرخيصة، يزحف القبح على وجه هذه المدينة كوحش أسطوري غاشم، يلتهم الجمال والتاريخ ويتقيأ مسوخا بدائية قميئة تكاد تسد شرايين الحياة، وتمنع مدينة الرب من التنفس بعد ثلاثة وعشرين قرنا وهبت فيهن النور للدنيا.

سيبدأ اليوم فصلا جديدا من حياته بعد الانفصال عن فريدة، وبعد أن قرر العودة للعمل موظفا والبدء من الصفر مرة جديدة في مدينة جديدة، القاهرة التي لم يحبها يوما ولم يحتمل زحامها وضجيجها وجوها المغبر على الدوام، شركة كبيرة متعددة الجنسيات تعمل في مجال النقل البحري سعت إلى توظيفه مديرا لعملياتها في مصر للاستفادة من خبرته الطويلة وعلاقاته المتشعبة بالسوق المصري. سيعيش وحيدا من جديد، للمرة الأولى منذ الفترة التي قضاها وحيدا في بيت أبيه قبل الزواج، فضل أن يبقى الأولاد مع أمهم في شقة سموحة، وأن يستقر هو بعيدا في القاهرة، وأن يأتي لزيارتهم كلما سنحت له فرصة، اجتهد كثيرا ليتقبل فكرة العودة إلى العمل موظفا ينتظر راتبه في نهاية كل شهر، بعد أن كان شريكا في ملكية شركة ناجحة، لكن ذلك كان الخيار الوحيد المتاح أمامه، بعد أن قام هو وشركاؤه بتصفية الشركة التي ظلت تخسر لعدة شهور كانوا يدفعون فيها الرواتب الشهرية لموظفيهم، الذين لم يكن لهم ذنب في خسارة الشركة وعلى أمل انصلاح الأحوال، لكن الأحوال لم تنصلح؛ فاضطروا لبيع أصول الشركة لتغطية ما تراكم عليها من ديون، وخرج كل منهم بمبلغ زهيد هو كل ما تبقى من حلمهم ومن سنوات شقائهم ونحتهم في الصخر. خرج من تلك الأزمة التي تواكبت مع أزمة الطلاق ليجد أن عليه أن يبدأ من جديد في حياته الشخصية والعملية على حد سواء، ولكن بمعطيات جديدة هذه المرة؛ إنه يواجه العالم هذه المرة وحيدا. يعود إلى المنافسة في سوق العمل بعد أن ابتعد عنها لسنوات سبقه فيها الكثير من نظرائه، بينما كان هو منشغلا بإدارة شركته، استغرقه تقبل الوضع الجديد بعض الوقت حتى قرر أنه ليس بإمكانه إلا أن يتفاءل، أدرك أخيرا أن التفاؤل هو خياره الوحيد، لا يمكن أن يترك نفسه فريسة للاكتئاب، لا يمكنه أن يستسلم الآن، ما زال داخل اللعبة ولم يخسر بعد، أنت تخسر فقط عندما تقرر الانسحاب. أراح ظهره على الأريكة الخشبية القديمة، وحاول تصفية ذهنه استعدادا لبدء ذلك الفصل الجديد من عمره، أغمض عينيه وبحث طويلا في ثنايا عقله عما يمكنه أن يصفي ذهنه ويعالج روحه فوجد نفسه ينشد:

أحبك حبين حب الهوى

وحبا لأنك أهل لذاك

وأشتاق شوقين شوق النوى

وشوقا لقرب الخطى من حماك

Halaman tidak diketahui