كان عالم ياسين في تلك الفترة صغيرا ومحدودا، كانت دائرة أصدقائه ضيقة، ولم يكن بطبيعة تكوينه وشخصيته من النوع الذي يسهل عليه إدخال الغرباء إلى مساحته الشخصية بسرعة، كانت اهتماماته تتلخص في كرة القدم والموسيقى، يتابع مباريات الكرة في التليفزيون بشغف، لا يفوته حضور مباراة في الملعب عندما يأتي الزمالك - ناديه المفضل - أو حتى الأهلي لملاقاة الاتحاد أو الأوليمبي أو الكروم على ستاد الإسكندرية. يعرف كل جديد عن أخبار اللاعبين والبطولات، ويمارس كرة القدم بانتظام مع رفاقه، ما بين ملاعب النوادي الشعبية الصغيرة أو الأراضي الفضاء التي تشتهر بتجمع محبي الكرة للعب عليها، وبخاصة الأرض الملاصقة لشريط السكك الحديدية أمام مصنع شركة فورد في مصطفى كامل. ثم يقضي بقية وقته في الاستمتاع بطرب المنشدين والمداحين الذين سحره عالمهم منذ اليوم الذي أدخله إليه فيه شاذلي، الذي كان من المترددين بانتظام على موالد الأولياء وحلقات الذكر وليالي الصوفية. وكان شاذلي يحفظ في ذاكرته عن ظهر قلب جدولا مفصلا لتواريخ «الليالي» كما كان يطلق عليها؛ وهي موالد أولياء الله الصالحين في طول مصر وعرضها، ما بين ليلة أبي الحجاج في الأقصر إلى ليلة أبي الحسن الشاذلي في الصحراء الشرقية، إلى السيد البدوي في طنطا، إلى عبد الرحيم في قنا، إلى إبراهيم الدسوقي والبوصيري وأبي العباس وابن الفارض والرفاعي، وحتى موالد الإمام الحسين والسيدة زينب وبقية آل بيت النبي الذين تحتضن القاهرة رفاتهم.
بدأ ذلك الهوس يوم كان ياسين جالسا في الشقة ذاتها قبل ما يزيد عن العام مع شاذلي الذي كان عائدا لتوه من إجازة العيد، بعد أن قضاها في مدينته. قال له شاذلي يومها بفخر وسعادة بالغين وهو يضع بحذر صينية بلاستيكية تحمل كوبين من الشاي الصعيدي الثقيل على الطاولة الخشبية خوفا من سقوط الطاولة ذات القائم المكسور: اسمع الشيخ التهامي أيها السكندري. لا تعرفون أنتم يا أبناء المدن الكبيرة شيئا عن هذه الكنوز.
أجابه ياسين وهو يرتشف الشاي وترتسم على وجهه علامات المعاناة من كثرة السكر وثقل الشاي: ومن يكون الشيخ التهامي هذا؟ أهو مقرئ من بلدكم؟
يرتشف شاذلي شايه بتلذذ ثم يضيف إليه بعض السكر ويجيب وهو يقلبه بملعقة من الصفيح الرديء: الشيخ ياسين التهامي هذا هو أحد كبار المداحين وشيوخ المنشدين، شهرته ذائعة في الصعيد وفي القاهرة وفي كل مكان، يعرفه ويحبه كل أهل الله ويشدون رحالهم ويركبون القطارات لأيام لكي يحظوا بمتعة الاستماع إليه. اسمع ... اسمع ...
ثم يضع شاذلي في جهاز التسجيل الرخيص الذي يلتف حوله شريط لاصق يمنعه من التفكك شريطا بدا أنه منسوخ أو مسجل، وليس من النوعية التي يمكنك أن تشتريها من أحد محلات التسجيلات الأصلية. شغل شاذلي الشريط فانطلق صوت حشرجة وضجيج غير محدد، ثم يبدأ صوت الناي والربابة وما يصاحبهما من إيقاعات وطبول في التصاعد، وتنساب موسيقى جديدة عليه تماما وسط أجواء من الصخب والتهليل، ثم يبدأ الرجل ذو الصوت الرخيم العريض في الإنشاد:
ينادي المنادي باسمها فأجيب
وأدعو ذاتي عن ندائي تجيب
وما ذاك إلا أننا روح واحد
تداولنا جسمان وهو عجيب
كشخص له اسمان والذات واحد
Halaman tidak diketahui