هدف صلاح، وسعيه (حتى وسط الجيل المكيافيلي الباطني الذي يعايش) كلاهما من معدن الخلق، والصراحة، والانخراط. ولكن ابن نعوم اللبكي - صقر القضية اللبنانية في عهده - أقرب الناس إلى دخول الحكم، لو عرف المداجاة قلامة ظفر، ولو نام يوما على أفكاره حيال مساس بحقوق بلاده، نومته أحيانا على الطوى من أجل لبنان، ومن أجل كرامته. وهكذا يؤذي الشاعر فيه رجل السياسة أذى لا أحب ولا أنبل! وكأني به واحد جماعة أبى معدنهم أن يجيئوا دست الحكم إلا راغمين روح الشر، لا بواسطة مماشاته أو الزلفى في العتبات.
لقد أغنى بلادنا كثيرا هذا الفتى الأسمر.
زاد شعره كر العنادل في الجبل، فالضوء المجلبب منعطفاتنا أصبح بعده أنعم وأكثر مخملية، والظلال المنطرحة على السهل غدت أطرى وأندى.
أي غزارة لا تود بعده أن تشق لمعاندة الأمر الواقع! أي إعصار تجرأ قبله على الجهر في وجه الدوحة الهرمة: «سأحطمك وإن سقطت علي!» أي ديمة كانت في سوى لفتاته ديمة، أو كانت لتهمي لو لم تومئ يداه!
وله نبرة علية وحنون معا، ترد الحسن أحسن، فالأشياء بعد أن يعالجها قلمه أكثر من أشياء. صديق لمعظمها هو، ورفيق حياة، وخدين كأس، صحبها منذ هدوء التلة - تلك التي هي في غير لبنان، تراب وحجر - إلى قلق الغصن تحت البلبل، إلى عصف الشوق في الصدور، الشوق الذي لا اسم له في غير لغتنا!
حتى إذا توغل بعض التوغل في جهاده، هذا المخلص، الأبي، الكبير، الطموح، المتوحد مع قضية بلاده، الشجاع، القاطع كالسيف، المتواضع المضحي بذاته أحيانا؛ تنحيا لرفيق نضال، العنيد في المضي إلى الحق، السمح الضربة، البحر العطاء، والشاعر، الشاعر أبدا، ذو القلب الطفل، المستعد للوئام إذا ثبت له صحة العكس؛ فإنما يدرك الناس أي إرث من دربة القتال، واستئناف مدرسة في المروءة ، ودك الأنبياء الكذبة، والذود عن حياض الأقداس، وخدمة الحق لوجه الحق، يمكنهم أن يجمعوا من وراء القصبة التي براها هذا الفتى في مستوى خلقه وحسه، فإذا هو وبال على ذات يده وصحته، ونعمة على لهاف المتتلمذين للحق، والجمال.
واحدة من ألف إعلانهن خيانة لشيمتهن الحيية: يوم راح الاستقلال - وهو صفحة نور خطها لبنان المعاصر - يبهر نفرا من الذين اتفق أن كانوا بين أبطاله، فلم يفهموا حماسة الشعب لهم إلا فرصة سانحة للتعهر في المغنم، فاستثمروا، وانتقموا، ونكلوا بالخصم، عندئذ افتتح ابن اللبكي، وحده، وسط ذلك الجو الإرهابي، حملة تحطيم الأوثان، وتنوير الرأي، والتفريق بين عصمة الاستقلال، وذل الاستغلال!
وكما أن صلاحا السياسي أخ للقيم، فصلاح الشاعر أخ للطيب، والليل، والربوة، وهدير الموج. تعلمنا بعده كيف نشم حفنة من أرضنا فنتعبد لها، وكيف نبصر ثلما في البحر وراء شراع، فنقوم إلى ملك بنيناه، وهناك، في نهايات الأرض وسيعا سعة الطموح في الصدور.
يتغنى صلاح فيحرك في القلوب دفئا. وهو كأنما يقول لا ينظم.
وكيف - إلا إذا قسرت المستحيل على طاعتك - يمكن التأليف بين أناقة، وسذاجة، بين الدعوة إلى أقصى المطالب، والترصن في القول ترصن البنفسج في كب الشذا؟
Halaman tidak diketahui