فقال أبو الحسن: «ومن يتجاسر على تبليغه هذا الخبر؟ لا ينبغي أن يعلم به، أو لعله علم وكظم فأصابته الحمى ... أتأسف كثيرا لأني اطلعت على هذه الفعلة، ولكن ما العمل؟ لا بد من تدبير حيلة ننقذ بها عرضنا من العار!» فتألم الجليس مما سمعه واعتقد صحته وهو سليم القلب كما علمت، فأوشك أن تدمع عيناه من الغضب فوق ما هو فيه من الكدر على مرض الخليفة. وكان ما زال واقفا فقعد وهو خائر القوى. فأخذ أبو الحسن يتظاهر بالتخفيف عنه. وهو يعد ذهنه لمكيدة يفوز بها بمرامه فقال: «يحق لنا البكاء في هذا اليوم، فلنبك يا عزيزي فلنبك!» وأخذ في البكاء حتى نسي الجليس حزنه واشتغل بالتخفيف عن أبي الحسن فقال له: «لا بد من الصبر يا مولاي، إن البكاء لا ينفعنا شيئا. لا بد من تدبير طريقة.» فأسرع أبو الحسن إلى مسح عينيه وتظاهر بالجد والاهتمام والتفت إلى الجليس وقال: «نعم لا بد من تدبير طريقة، ولكن الأمر أعظم مما يظهر لك يا عماه.» قال: «وهل بقي ما هو أعظم من ذلك؟» قال: «إن الأمر نفسه عظيم كما علمت، ولكنني أفكر في المستقبل وأراقب ما قد تأتي به الأقدار مما لم يكن في الحسبان.» فظل الجليس ساكتا يفكر ولم يجب، حتى قطع أبو الحسن سلسلة أفكاره بالسؤال قائلا: «من هو طبيب مولانا أمير المؤمنين؟»
قال: «طبيبه الشيخ السديد رئيس الأطباء، وهو لا يثق إلا به لسعة علمه وطول اختباره.»
فقال أبو الحسن: «الشيخ السديد؟ هل هو ماهر في صناعة الطب؟»
قال: «كيف لا وقد نال الحظوة عند الأئمة الفاطميين من أيام الآمر، رحمه الله؟! وكان صغير السن وأبوه طبيب قبله ثم ورث هذا المنصب بعده. وما زال يطبب الأئمة - رحمهم الله - إلى الآن وقد أصبح شيخا طاعنا في السن.» فقال: «وماذا يقول عن مرض مولانا، هل سألته؟» قال: «سألته ولكنه لم يجبني جوابا صريحا.» قال: «إني أخاف جواب الأطباء إن لم يكن صريحا؛ لأنهم إذا خافوا على مريضهم الموت جعلوا كلامهم عنه مبهما!»
فأجفل الجليس عند سماع لفظ الموت؛ لأنه كان يحب العاضد وقال: «لا سمح الله يا سيدي، لا سمح الله أن يكون على الإمام العاضد بأس.»
فقال أبو الحسن: «أعوذ بالله أن يخرج من فمي أو يمر بذهني سوء يصيب إمامنا، وأطلب إلى الله إذا كان قد كتب شيء على أمير المؤمنين أن يفديه بروحي. ولكن العاقل من فكر في الأمر قبل وقوعه ولا سيما في الإمامة؛ لأن الإمام قطب تدور عليه أمور الدولة وبه تتعلق القلوب. والإصابة فيه غير الإصابة في آحاد الناس. وهذا معنى قولي لك إن المسألة أعظم مما تتصور. هل فهمت مرادي؟»
فأدرك الجليس أنه يعني لو مات العاضد كيف يكون حال الأمة بعده فقال: «فهمت يا بني، إن الأمر جليل ولكن ...»
فأسرع أبو الحسن وهو يروغ كالثعلب وقال: «كلنا عبيد الموت يا عماه، وعسى أن تكون حياة الإمام العاضد أطول من حياة كل منا. وأضرع إليه تعالى أن لا يميتني إلا في حياته.» ودمعت عيناه فتأثر الجليس وشاركه ذلك الشعور في الظاهر وقال: «ذلك ما نتمناه جميعا خصوصا لأن مولانا - حفظه الله - ليس لنا ملجأ سواه، وقد كابد في إمامته من أولئك الأكراد ما لم يكابده سواه لولا حزمه وتعقله لا أدري كيف كانت حالنا.»
فاعتدل أبو الحسن في مجلسه كأنه فطن لأمر مهم وقال: «هذا ما يدور في خلدي ويجول في خاطري ويحوم حول لساني ولا يطاوعني قلبي عليه. إذا كان هذا حالنا الآن فكيف يكون شأننا لو حدث ما نتمنى موتنا قبله. لو أن في بيت العاضد رجلا حازما يخلفه لكان خيرا، ولكنهم أطفال كما تعلم، وهذا المنصب لا يستطيعه إلا المحنكون نظيرك. كم كنت أود أن يكون لك يد في هذا الأمر.»
فاستعظم الجليس هذا الإطراء وأخذ يتنصل من هذا الحق فقال: «إني عبد خادم لا يقال لي مثل هذا القول، وإنما يطمع في هذا الأمر من كان مثلك يا أبا الحسن.»
Halaman tidak diketahui