قالت: «ألا تريد أن تردها إليها كما رددتها في المرة الماضية؟»
قال: «بلى. وأنا جئت إجابة لدعوتك؛ لأنك قلت إن سيدة الملك تستصرخني، فهل هناك باعث مهم؟»
قالت: «إنما بعثها على ذلك رغبتها في مكافأتك. وقد كلفتني أن أدفع إليك هذا العقد.» واستخرجت عقدا من اللؤلؤ لم يقع بصر عماد الدين عليه حتى دهش. وقدمت العقد إليه فتناوله ولم ينظر إليه بل أعاده إليها وهو يقول: «شكرا لمولاتي. إنني في غنى عن تحميلها هذه الثقلة لأني لم أفعل ما فعلته طمعا في المكافأة.»
فاستعظمت هذه الأنفة منه وقالت: «إني مأمورة بإيصال هذه الهدية إليك، فإذا كنت لم تقبلها فإني أدعو صاحبتها لتقدمها بنفسها، ولكن احذر أن تكون قاسيا يا عماد الدين.»
فزاده هذا التعبير بيانا لما توسمه في عبارتها الأولى، فسكت وقد ارتبك في أمره. •••
أما هي فنهضت وخرجت وتركت العقد في مكانها على البساط، وظل عماد الدين وحده وهو مرتبك لا يدري ما يقول أو يعمل. ثم عادت ياقوتة وسيدة الملك وراءها وقد التفت بالنقاب حتى لا يظهر إلا عيناها وبعض جبينها فلاحظ في عينيها ذبولا وقد تغيرت عن ذي قبل. فلما رآها دخلت وقف لها وتأدب وأطرق فتقدمت إليه وهي تتماسك وقالت: «اجلس يا عماد الدين. إنك ذو فضل على حياتي وشرفي ولا حاجة إلى الوقوف لي. اجلس. قد أتعبناك بهذه الدعوة الليلة وأزعجناك فضاعفت فضلك علينا.» قالت ذلك وهي تقعد وتشير إليه أن يقعد فقعد، وظلت ياقوتة واقفة وهي تتناول العقد عن البساط ثم دفعته إلى سيدة الملك وقالت: «هذا العقد دفعته إليه حسب أمرك فلم يقبله.» فتناولته واتجهت نحو عماد الدين وقالت: «أترفض هدية صغيرة قدمتها إليك وأنت قد أهديتني حياتي؟» ومدت يدها نحوه والعقد في كفها وهي تتوقع أن يمد يده فيتناوله منها. فلما أبطأ تصدرت ياقوتة للكلام قائلة: «بماذا أوصيتك يا عماد الدين؟ ألم أقل لك لا تكن قاسيا؟»
فخجل ومد يده وتناول العقد وهو يقول: «إني أقبله هدية لا مكافأة.» ولما مد يده ليتناوله لمست أنامله كفها فأحس ببردها وارتعاشها، وأحست هي برعشة كهربائية سرت في عروقها. وبان البشر في محياها فقعدت ياقوتة وهي تضحك وتقول: «ها إنه قبله منها ولم يقبله مني.»
فقطع كلامها قائلا: «لأنك أردت أن آخذه مكافأة على خدمة فلم أقبله طبعا؛ لأني إن كنت قد فعلت خيرا فلم أفعله طمعا في المال ... و...»
فقطعت ياقوتة كلامه قائلة: «طمعا في أي شيء إذن؟ يظهر أنكما تعارفتما قبل ذلك اليوم ... و...» وضحكت فاستغرب تعريض هذه الحاضنة بحب متبادل بينهما وهو لا يعلم بشيء من ذلك، وإنما يعلم أنه استلطفها ومال إليها ولم يحلم أنها استلطفته أو مالت إليه. ولذلك لم يفكر فيها لاعتقاده استحالة حصوله عليها. فلما سمع ذلك التعريض تحرك قلبه وأوشك أن يشعر بالأمل فاعترض أفكاره صلاح الدين وما سمعه في ذلك اليوم من خطبته إياها، فأنكر على نفسه أن يتصدى لأمر يخص مولاه وهو يفديه بروحه. وأصبح يعد حديثه معها خيانة، لكنه لم يجسر على التصريح بذلك فتجاهل وقال: «إنما فعلت ما فعلته يومئذ مدفوعا بما تفرضه علي المروءة، من يستطيع أن يرى سيدة الملك بين يدي الأشرار يريدون أن يلحقوا بها الأذى ولا يفديها بروحه؟»
فالتفتت سيدة الملك نحوه وقد ضايقها النقاب وخافت أن يمنعها عن الكلام فأزاحته عن فيها وقالت: «لا بأس عليك من كشف هذا الوجه بين يديك، فإنك صاحب الفضل في بقائه، إنك تستغرب وجود رجل يستطيع أن يراني في ذلك الخطر ولا يفديني بروحه. لا تستغرب ذلك يا عماد الدين فقد كان في قصري عشرات من أهلي وعشيرتي لم يقدم أحد منهم على ما أقدمت عليه. وكأنك كنت على موعد من تلك الساعة. فدفعت إلي بخصلة الشعر صيانة لها ولي. فهل ألام إذا نظرت إليك نظري إلى ملاك هبط من السماء لإنقاذي؟ ولكني لا أعلم كيف كان شعورك في تلك الساعة.»
Halaman tidak diketahui