قال: «لا. لم أوفق إلى ذلك، إذ قضت الأحوال أن أذكره له وهو في دار الحريم و...» فقال أبو الحسن مسرعا: «وفي حضور أخته على ما أظن.» قال: «نعم هكذا حصل.» فقال: «لا بد أنها كانت أكثر استغرابا منه. أنا لا ألومها على ذلك كما أني لم ألم أخاها. ولعلك ذكرت لهما شيئا آخر غير ولاية العهد.» قال ذلك وهو ينظر في عيني الجليس ويظهر المداعبة. فابتسم الجليس وقال: «نعم ذكرت لهما وتكلمت بما يمليه علي إخلاصي لك.»
قال هذا وبلع ريقه، فعلم أبو الحسن أن جوابها لم يكن بالرضا ولولا ذلك لانتهج الجليس أسلوبا آخر في التبليغ فرأى أبو الحسن أن يغطي فشله بالدهاء فقال: «أتمنى أن تكون قد ترددت في إجابة هذا الطلب أيضا.» فاستغرب تمنيه وقال: «نعم ترددت قليلا، وأظنها أجلت الحكم في ذلك إلى ما بعد انقضاء هذه الأزمة أو ...»
قال: «كن صريحا يا عماه. إنها رفضت وقد تكون عالقة القلب بأحد، أو ... فليكن ما تريد. أنا لا أعتب عليها، ولكني أعتب على أخيها الخليفة فإنه مطالب بسيرة أخته وسمعتها.»
قال: «أؤكد لك أن أمير المؤمنين حسن الظن بك.» فقال أبو الحسن وهو يتشاغل بتمشيط لحيته: «يكفي. كنت أحسبها عاقلة كما يقولون، ولكن يظهر أنها لا تعرف مصلحة نفسها ولا لوم علي بعد الآن.» لا أعني أني أكف عن فداء أمير المؤمنين بدمي. ولكنني لا أرى وجها للرفض. إلا أن تكون مشغولة ببعض الرجال فهذا شيء آخر.»
قال: «كلا، لكنها قالت إنها لا تريد الزواج.» فضحك أبو الحسن وهو ينهض من مجلسه وقال: «لا تريد أن تتزوج؟! هذا كلام غير معقول. ولكنها سترى بنفسها مضطرة للزواج بغيري وتندم.»
فنهض الجليس لنهوضه وصبر ليرى ما يريده، فقال أبو الحسن: «أظنني أخرتك عن مجالسة أمير المؤمنين، وقد يكون في حاجة إليك، فأرجو أن تؤكد له أني مقيم على ولائه أفديه بروحي، ولا تذكر له شيئا عن سيدة الملك. إنما أقول سامحها الله؛ لأنها لم تحسن المعاملة.»
فودعه الجليس وهو معجب بطيب سريرته وعلو همته وسعة صدره وعاد إلى منزله ينتظر أمر الخليفة.
الفصل الرابع
سيدة الملك
ما كاد أبو الحسن يخلو بنفسه حتى رفس الأرض برجله من الغضب، وقد أخذ الحنق منه مأخذا عظيما وتمشى في الغرفة. ويداه متعانقتان وراء ظهره وهو يعمل فكرته، ويتشاغل حينا بالنحنحة أو السعال أو بحك ذقنه أو يصلح عمامته. ثم وقف وقال يخاطب نفسه: «رفض العاضد أن أكون ولي العهد بعده. لكنه سيراني خليفة. وأما تلك الملعونة أخته فإنها ما زالت ترفض الزواج بي، وإن رفضها هذا لأشد وطأة على نفسي من رفض الخليفة، لكنها ستندم وتعود صاغرة متى رأت ما يبلغ من كيدي. سوف تأتيني صاغرة باكية. وأظنها تحسبني مغرما بها وأني أريد التزوج بها عن شغف بجمالها. لست ممن يتعلقون بهذه الأوهام. ليس في قلبي حب لأحد. لا أحب أحدا. إن حب النساء من الأوهام الباطلة التي تصرف الرجل عن المطالب العالية. إني أطلب ما يقصر عنه أخوها الخليفة نفسه. سأقتل صلاح الدين ولكن ليس إكراما لها ولا لأخيها. سأقتله ليخلو لي الجو. سأقتله وأقتل العاضد وأقتل كل من يقف في سبيل وصولي إلى الخلافة. إنها حق لي.» قال ذلك وكاد صوته يرتفع من عظم التأثر فانتبه لنفسه وسكت.
Halaman tidak diketahui