لما خلا عماد الدين بنفسه بعد ما انتابه من الأهوال وما مر به من الغرائب، أخذ يفكر فيما رآه وسمعه فلم يزدد إلا استغرابا ، وراجع ما كان يسمعه عن تدجيل ذلك الزعيم فأخذ اعتقاده بكراماته يضعف ، ولكنه لم يستطع تعليل ما شاهده من المعجزات تعليلا معقولا. كيف يطلع على الوقائع قبل وصول أخبارها؟ وكيف يكلم الميت فيجيبه؟ والشعرة فتطلعه على السر؟ وهذه الجنة بما فيها من الطيبات والحور اللواتي يمشين على سطح الماء فلا يعكر ويخاطبن الأطيار فتطيعهن ويلاعبن الأسود فلا تؤذيهن؟! فإذا تمثلت له هذه الظواهر لم ير مندوحة عن الاعتقاد بكرامة الشيخ راشد الدين.
وتعب من التفكير فخطر له أن يتمشى في ذلك الحصن، ولم يبق ثمة ما يمنعه؛ لأنه أصبح من أهله. فنهض ومشى فرأى أرض الحصن وما يحيط به خلوا من النبات إلا ما وراء ذلك الجبل من السهول البعيدة فتذكر ما شاهده بالأمس من أمثال النعيم من الأشجار والأنهار، فمال إلى استطلاع خبره وأين يمكن أن يكون. فصعد إلى بعض المرتفعات لعله يشرف منها على تلك الحديقة فلم يوفق إلى شيء من ذلك لكنه وقع نظره وهو يجيل بصره في السهل الذي نزل فيه يوم وصوله إلى هناك على ركب لم يستطع أن يتبين وجوههم لبعد المسافة. ولما اقتربوا وجدهم ملثمين وهم بضعة فرسان في ركابهم جماعة من المشاة كالخدم. فلم يهمه أمرهم وعاد إلى التفكير فيما هو فيه من الهواجس التماسا لسرعة الخروج من هناك.
وحدثته نفسه أن يفر فوجد ذلك مستحيلا عليه إلا بالتعرض للخطر الشديد وهو في غنى عن ذلك إذا استعان بصديقه عبد الرحيم، ولا شك عنده أنه لا يدخر وسعا في سبيل إنقاذه.
وأعاد نظره إلى ذلك الركب فرآهم دنوا من الجبل حتى حجبهم سفحه عن عينيه. فترجح لديه أنهم من ذلك الجبل أو النازلين في جواره. وأحس بالجوع فتحول إلى مجتمع الفدائيين فتناول الطعام معهم ولم يجد فيهم من يبلغ مبلغه من علو النفس ورقة الإحساس. فازداد رغبة في الخروج من هناك ولبث ينتظر عودة عبد الرحيم وهو على مثل الجمر.
قضى ذلك اليوم واليوم التالي ولم ير عبد الرحيم، فاشتغل خاطره ولم يعرف سبب تخلفه. وزاد بلباله لما شاهد غياب الشيخ دبوس أيضا عن غرفته في أثناء ذينك اليومين. وبلغه أنه في شغل شاغل مع الشيخ الأكبر للمباحثة في أمور مهمة حدثت بعد مجيء أناس وصلوا بالأمس. فتذكر الركب الذين رآهم قادمين أول البارحة، فمال إلى استطلاع حقيقتهم فلم ينبئه منبئ؛ لأن هذه الأخبار لا يتناولها إلا الخاصة من المستنيرين. فصبر نفسه حتى يأتي صديقه عبد الرحيم، فلما استبطأه استفهم بعض الرفاق عنه فقيل له إنه مع نخبة المستنيرين في شاغل عند الشيخ الأكبر.
فازداد شوقا إلى الاستطلاع لكنه لم ير بدا من الانتظار، ومضى نصف اليوم الرابع ولم يره، فضاق ذرعا وأخذ الملل منه مأخذا عظيما وهم بالبحث عنه فإذا هو قادم نحوه، فاستقبله استقبال الظمآن للماء، فأكب عليه عبد الرحيم وقبله وأخذ يعتذر عن تأخره قائلا: «اعذرني يا أخي، كنت في شاغل لم يكن في الحسبان، وكلما عزمت على المجيء إليك يحدث شاغل جديد.»
قال: «نسيت قلقي واضطرابي حال رؤيتك، وأشعر أني أسبب لك تعبا، ولكن يمكنك أن تتخلص من هذا التعب بتدبير مهمة أخرج بها من هذا الحصن. هل وفقت إلى شيء من ذلك؟»
قال وهو يضحك للمداعبة: «وفقت إلى نصف الطلب فقط.»
قال: «كيف ذلك؟»
قال: «أنت تطلب أمرا بالخروج من هذا الحصن لقتل أحد الأمراء، وقد استصدرت لك أمرا بقتل أحد الأمراء، ولكن بلا خروج من هذا الحصن.»
Halaman tidak diketahui