وأمسكت بيده ومشت فمشى، وأومأت إليه أن يتبعها فوق تلك القناة فتردد هنيهة فجذبته بيده وهي تقول: «لا تخف امش.» فمشى فإذا هو يخطو على شيء صلب يفصل بين قدميه وبين الماء. فظن الماء جمد تحت قدميه. ووصل إلى الجانب الآخر وسار مع الفتاة وهو شديد الرغبة في معرفة حقيقة ما يراه، فلما سمع قولها قال: «هل أنا باق هنا؟»
قالت: «أنت حديث العهد، وإنما جئت لترى ما أعده المولى لأتباعه ومريديه إذا قاموا بأوامره. وعسى أن تكون من المستحقين.»
فعلم أنه هناك إلى أجل ولا يلبث أن يعود. فمشى لترويح النفس وعيناه تنتقلان بين الأشجار والرياحين ويرى الأطيار تتنافر بين أيدي تلك الحورية، وفيها الكراكي والطواويس بألوانها الجميلة. والبلابل والحساسين تتجاوب بالتغريد أو الزقزقة. والفتاة تناديها فتأتيها وتقع على كتفيها أو على يدها وتنتقل كما تأمرها كأنها تفهم لغتها.
ثم سمع عماد الدين زئيرا علم أنه زئير الأسد، وكان قد سمعه مرارا فأجفل وقال: «أليس هذا زئير الأسد؟»
قالت: «بلى، وهل خفته؟ إن الأسود لا تؤذي أهل هذه الدار.» ومشت حتى دنت من مربض لأسد تحت شجرة، فإذا هو مقع وعيناه تبرقان لكنه لم ينتقل من مكانه، فتقدمت الفتاة إليه ومدت يدها إلى رأسه وعبثت بشعره كما تعبث بشعر الهر فلم يتحرك، فاستغرب عماد الدين ذلك أيضا.
وجاء إلى السير فوقع نظره في بعض جوانب الحديقة على غرف مفردة تغطيها الأزهار والأغصان فسألها عنها فقالت: «هذه مساكن الذين استحقوا البقاء هنا يتمتعون بالملذات والنعيم، لا يعكر عليهم ذلك أحد.»
وبعد المسير برهة بين صعود وهبوط وقفت به الفتاة عند حائط وقالت له: «انظر إلى هنا.» فنظر من كوة في الحائط تشرف على واد أجرد لا شيء فيه من الماء ولا الخضرة. فأجفل لما رآه هناك من الثعابين والوحوش المفترسة تسرح بين جماجم البشر فقال لها: «أظن هذه هي الجحيم.»
قالت: «نعم هذه هي، فلو لم تطع الشيخ الإمام لكنت في عداد المغضوب عليهم هنا.»
لم يشأ أن يقف هناك طويلا. فتحول وعادت معه حوريته وهي تلاطفه وتقطف من الثمار وتعطيه وهو كالتائه في أفكاره لا يدري ماذا يرى. وإذا هو يسمع صوتا اهتزت له جوارحه وجمد الدم في عروقه؛ لأنه صوت سيدة الملك كأنها تستغيث به. فأخذ يتلفت يمينا وشمالا وهو يحسبها على مقربة منه والحورية تنظر إليه بذهول قائلة: «ما بالك؟ ما الذي أوقفك؟» قال: «ألا تسمعين شيئا؟» قالت: «كلا، ماذا تسمع؟»
فأطرق وهو يصيخ بسمعه فلم يعد يسمع شيئا. فرجح عنده أنه مخطئ وأنه سمع ما سمعه لفرط تفكيره في سيدة الملك، فأتت روحها لزيارته أو هو صوتها جاء للسلام. لكنه لم يطمئن إلى هذا الفكر والصوت الذي وصل إليه صوت استغاثة، وساءل نفسه أهي في شدة؟ وإذا كانت كذلك فما أجدره أن يسعى في إغاثتها.
Halaman tidak diketahui