إن التناقض يضرب بمعوله في كيان إسرائيل من أساسه، فإنها قد أنشئت لتكون وطنا قوميا لليهود، فهل هي كذلك الآن؟ وكيف يمكن أن تكون وطنا قوميا لهم بأي معنى من معاني الوطنية؟
إنها لا تسع يهود العالم، ولا يهود العالم يرغبون جميعا في الانتقال إليها. قد صدف عنها من رحلوا إليها، وتبين للكثيرين منهم أن مقامهم في الديار الأجنبية أنفع لهم من محاولتهم العقيمة في البلاد التي يزعمون أنها وطنهم المختار. وإذا طال بإسرائيل عمرها وجاء اليوم الذي يتكرر فيه اضطهاد النازية والفاشية فليس من البعيد أن تصد إسرائيل سيول الهجرة إليها كما تصدها الأمم الأخرى؛ لأنها لا تستطيع أن تؤويهم، بل لا تريد إيواءهم باختيارها، سواء قصدوا إليها للإقامة الدائمة أو للإقامة الموقوتة.
ومع هذا التناقض صعوبات أخرى، لم يتغلب عليها اليهود قط ولن يتغلبوا عليها، وهي الصعوبات التي تخلقها بينهم شكاستهم المعهودة منذ كانوا قبل أربعة آلاف سنة في جزيرة العرب، إلى أن أخرجتهم شكاستهم منها، ثم أخرجتهم من العراق، ثم أخرجتهم من كنعان، ثم أخرجتهم من مصر، ثم أخرجتهم من فلسطين، ثم عرضتهم للعدوان والبغضاء في كل وطن وبين كل أمة. ولولا أن الخطب في المرحلة الأخيرة أكبر من طاقتهم، لظهرت شكاستهم هذه على عادتها بين طوائفهم المختلفة التي برزت حتى الآن في الدويلة الصغيرة، وعندهم منها حزب الرجعة وحزب الفرنجة، وعندهم منها الماليون والشيوعيون، والشرقيون والغربيون، وفي وسعهم - على الرغم منهم - أن يخلقوا للشكاسة أسبابا لا تخطر على بالهم ولا على بال أحد. فلن يزالوا كما وصفهم القرآن الكريم مع حلفائهم
تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون .
وتعود بنا صفتهم بأنهم لا يعقلون إلى وهم شاع عنهم بين من يعتقدون أنهم شعب ممتاز بالذكاء والنبوغ، وقد عرضنا لهذا الوهم مرة، ورجعنا إلى حقيقته فكانت الحقيقة أنهم عالة على ثقافات الأمم. فإن فضل كل أمة راجع إلى ثقافاتها التي أنشأتها، ولكنهم هم يعيشون بين كل أمة ويأخذون من كل ثقافة، وإذا نظرنا إلى النجاح في عالم المال فلا امتياز فيه لليهود على طائفة أخرى تنتفع بالفرصة التي ينتفعون بها، وشاهدنا على ذلك عدد الأثرياء في مصر بين طوائف الأرمن والإغريق وأمثالهم من أمم البحر الأبيض المتوسط، فإنهم قد يزيدون على أثرياء اليهود أو يساوونهم في العدد، وقد يزيدون عليهم كذلك أو يساوونهم في مقدار الثراء وتنوع مصادر الإثراء، وقلما يرجع نجاح الإغريقي أو الأرمني إلى تضامن بينه وبين أبناء جلدته كما يتضامن يهود العالم.
وعلينا - بعد - أن نقدرهم ونسبر غورهم، ولكن بالمقياس الصحيح الذي لا مبالغة فيه من ناحية القوة، ولا من ناحية الضعف، ولنذكر أسباب بقائهم في دويلتهم كما نذكر أسباب تداعيهم وانحلالهم، ولا ننسى أن الدول الكبرى تعينهم تعصبا على الإسلام والعرب وإن لم يكن تعصبا لهم، ولكن البنية لا تستمد الحياة من معونة غيرها إن لم يكن فيها قوام الحياة، ولن تحيا إسرائيل إذا بقيت مقاومة العرب راصدة لها في كفة انحلالها وفنائها ولو دامت لها معونة الثقلين، وهي لا تدوم ...
الفصل الرابع والعشرون
الصهيونية العالمية في الختام
شركة تبحث عن رأس مالها القديم، فتعلم أن الكثير منه قد تبدد، وأن ما بقي منه يوشك أن يضيع.
تلك هي الصهيونية في العصر الحاضر، أو في المرحلة المتوسطة بين ماض عاشت فيه على استغلال الاضطهاد واللعب بأعمال الصيرفة والمضاربات وتسخير الطوابير الخامسة في المؤامرات الخفية، وبين مستقبل يجور على كل حصة من هذه الحصص التي تجمع منها رأس مالها، ويوشك أن يكشف حسابها جميعا، إن لم يأت على بقية منها بعد بقية ، وعلى رصيد منها بعد رصيد.
Halaman tidak diketahui