قلنا إن مدحت باشا أول من أسس مطبعة آلية في مدينة السلام؛ إذ إن الطباعة الحجرية سبقت مدحت باشا؛ فقد وجدت فيها «مطبعة كامل التبريزي» الحجرية المجلوبة من إيران سنة 1861، حيث طبعت بعض الكتب منها «سبائك الذهب في موقعة قبائل العرب» لمحمد أمين السويدي.
وقد جلب مدحت مع المطبعة الآلية مطبعة حجرية متقنة هي «المطبعة العسكرية» التي سميت ب «مطبعة الفيلق»؛ لتقوم بطبع ما يحتاج إليه الجيش، والمنشورات والأوامر والكتب الفنية والعسكرية، وكانت مطبوعاتها سرية لا يطلع عليها إلا كبار الضباط؛ خشية تسرب الأسرار العسكرية إلى الخارج. وهكذا أصدر مدحت باشا جريدة «الزوراء» أول جريدة رسمية في العراق باللغتين العربية والتركية.
لم تطل ولاية مدحت باشا للعراق أكثر من ثلاث سنوات، ولكنه في هذه المدة القصيرة حقق جانبا كبيرا من الإصلاحات وترك آثارا لا يزال بعضها ماثلا ينتفع به الشعب إلى اليوم؛ فهو فضلا عن نجاحه المحمود في إخماد الفتن بين القبائل وإخضاع إمارة نجد المتمردة للسلطة مد أسلاك البرق في البلاد العراقية وما جاورها، ونظم البريد، ومهد طريق المواصلات، ونفذ قانون التجنيد، وأصلح نظام الجباية لخزينة الدولة، وشيد مدرسة الصنائع ومستشفى الغرباء، وأسس المدارس العسكرية والإدارية، وأقام معملا للنسيج، وأوجد إدارة نهرية، وبدأ بتطهير نهري دجلة والفرات، وشرع في إنشاء الأسطول الأول للتجارة والنقل والقوة العسكرية، وأسس معملا للحديد، وجلب الأجهزة والأدوات لاستخراج النفط، ومد ترامواي الكاظمية، ووزع الأراضي الأميرية على الأهلين بثمن بخس، وبدأ بتنسيق دواوين الحكومة، وبكلمة نفخ روح التجديد في هذا الإقليم المترامي الأطراف.
بهذه النزعة الإصلاحية فكر مدحت باشا في خلق الصحافة العراقية، فوضع حجر الأساس فيها بجريدته «الزوراء»، وكان أهل العراق يومئذ لا يعرفون من الجرائد إلا النزر اليسير الذي يرد عليهم من الخارج، وبخاصة من إستانبول «عاصمة السلطنة»، حيث سبقت تركية في معرفة الصحافة، فظهرت فيها أول جريدة رسمية باللغة التركية سنة 1831 بأمر السلطان محمود، وقد أسماها «تقويم وقائع». ولعظم تفشي الأمية عهدئذ وندرة المتعلمين؛ كان أغلب قراء الصحف من الموظفين، وهؤلاء يعرفون التركية أكثر من العربية ، فكانت الجرائد التركية الواردة من قاعدة الخلافة هي التي يطالعها الناس. أما الصحف العربية فنادرة كل الندرة، يقرؤها الأدباء وهم قلة في الطبقة المهذبة. ولعل جريدة «الجوائب» لأحمد فارس الشدياق التي برزت في عالم الصحافة في الآستانة سنة 1860 كانت أكثر الجرائد العربية تداولا في أرض الرافدين؛ لأنني أجد في خزائن رجال الجيل الماضي من المتعلمين العراقيين طائفة من «مطبوعات الجوائب» العربية في الآداب والعلوم أكثر مما أرى من نتائج مطابع مصر والشام في تلك الحقبة.
جريدة الزوراء
جعل الوالي العظيم جريدته «الزوراء» لسان حال الولاية. ظهرت لأول مرة في ربيع الأول سنة 1286ه بثماني صفحات وباللغتين العربية والتركية؛ إذ التركية لغة الدولة الرسمية في العهد العثماني، وجاء في صدرها ما يأتي بحروفه:
هذه الغزتة تطبع في الأسبوع مرة يوم الثلاثاء، وهي حاوية لكل نوع من الأخبار والحوادث الداخلية والخارجية.
2
وقد نشرت في استهلالها «الفرمان العالي لمدحت باشا» بتوليته ولاية بغداد، وهذه بعض فقراته المترجمة إلى العربية بلغة ذلك العهد:
وزيري سمير الدراية مدحت باشا
Halaman tidak diketahui