وما زلت أذكر إلى الآن أروع جملة نطقت بها على مسرح الحياة، حين أجبت سامية في حزم وعزم وتؤدة: ستعيشين، كما كان يجب أن تعيشي قبل أن يغرر بك النذل محيي.
وطويت ستار هذا الفصل بيدي، وأنا أطفئ نور حجرتي بعد أن أوصلت سامية إلى منزلها، وعدت إلى حجرتي لأنام هادئا مطمئن الضمير قرير العين، ورفع الستار عن الفصل قبل الأخير، وأنا أؤكد أنه قبل الأخير لكي أطمئنكم على أن الرواية لن تطول حتى يعلو تثاؤبكم، وتتحرك أجسادكم في قلق كأنها تدعوني لأختصر القصة ... إني لن أختصر القصة؛ لأنها من تلقاء نفسها أوشكت على النهاية ...
إن ستار هذا الفصل يفتح في شقة صغيرة بشارع ضيق من شوارع القاهرة التي يسميها الناس، امتهانا لأصحابها، حواري وأزقة، إنه ليس زقاقا ضيقا، وليس حارة حقيرة، وإنما هو شارع متواضع، والشقة نفسها ثلاث حجرات، والأثاث هو الأثاث نفسه الذي كان عندي قبل بداية القصة، لم يزد عليه غير بضعة أوان وأدوات الزينة لامرأة ترضى من زينتها بالقليل، وأنا وسامية وخادمة صغيرة في هذه الشقة ... أنا وسامية زوجان، دخلت هي بيت الزوجية لتمحو آثامها، وتتطهر من ماضيها، ودخلت أنا بيت الزوجية لأضيف إلى كتاب حياتي صفحة بيضاء أتقرب بها إلى الله، وما أجمل أن يصنع الإنسان الخير! وما أجمل أن يكون الزواج حسنة من الحسنات، ومنة على الزوجة! أليس ذلك فارقا كبيرا بيني وبين الكثيرين؟ أن أعيش من زوجة تشعر في الصباح وفي المساء أنني لست زوجا فحسب، وإنما ملاك رحمة يأسو الجراح؟
واستمر هذا الفصل - بمنظره نفسه الذي سردته لكم - عاما كاملا، ويجب أن أعترف أن كل ما جد على سامية هو حياة الشرف.
إن مواردي لم تكن لتسمح بأن تبدو سامية خيرا مما كانت من قبل، ولا أن تأكل خيرا مما كانت تأكل ... كنا نذهب كل أسبوع مرة إلى السينما، ونتنزه بقية الأيام على شاطئ النيل السعيد حيث أخرج لساني لذكرى الفتاة التي أحببتها ذات يوم، وأنا أقول: هربت مني لتنعمي بحياة الرذيلة ... وها هي ذي امرأة قد هربت من حياة الرذيلة لتحيا حياتي المتواضعة، يا قصيرة النظر، إنها قد وجدت من يئويها ... أما أنت فهل ستجدين يوما من يئويك؟
وكان قلبي يفيض بالفرح والسرور، وأنا لا أسمع جوابا على هذا السؤال ... وأحس بالرثاء للهاربة المسكينة، وفي خلال العام لم يحدث بيني وبين سامية أي خلاف، وإن كنت ألحظ أحيانا وجومها وشرودها، وألحظ أحيانا أخرى نزعة كآبة تجعلها تقضي ساعات نزهتنا على شاطئ النيل ساكنة لا تتكلم ... وكنت أعلل ذلك دائما بأنه قلق السعيد على سعادته خوفا من أن تفلت يوما من بين يديه، أو ندم الخاطئ على خطئه الماضي يشتد وطأة كلما ازداد نقاء وطهارة ... ظل هذا تعليلي طوال الأيام الأخيرة من عام زواجنا الأول حتى كان يوم عيد زواجنا فأردت أن أزيدها عطفا، وقررت أن أحتفل بهذا اليوم ... قررت فيما بيني وبين نفسي، ولم أقل شيئا ... وأخذت أفكر كيف أحتفل بعيد الزواج فخطر لي أول الأمر أن أقيم وليمة صغيرة، وأدعو أصحابي ليروا بعيونهم ما فعلت من مجد ... ولكني استبعدت الخاطر لعدة أسباب، فأعز أصدقائي بينهم عبد السلام، وقد حل بيننا جفاء خفيف اصطنعته بنفسي لكي أبعد عن حياتي الجديدة ظلال الماضي المعتمة في حياة سامية ... أما بقية الأصدقاء فقد أطالوا لسانهم في زواجي، واستهجنوا تصرفي، ولن يقنعهم الطعام الجديد، ولا السهرة اللطيفة بأنهم كانوا خاطئين ... إنما الذي يقنعهم فعلا هو أن تمر على هذا الزواج سنوات يبدو فيها كأنه حصن متين، وانتهيت إلى رأي، ثوب جديد، وسهرة رائعة، هذا هو خير احتفال بزواجنا، وأحسن هدية أقدمها لسامية.
وأحضرت الثوب، وأخفيته حتى قبل الغروب ... ودعوت سامية من المطبخ حيث كانت تعد العشاء، وقلت بلهجة الآمر: اخلعي ثوبك هذا، وارتدي هذا الثوب الجديد، واستعدي للخروج بعد عشر دقائق ...
وخرجنا إلى الطريق، وأخذنا نتصفح الإعلانات، وقلت: ما رأيك في فيلم مصري؟
وقالت سامية بلهفة: لا مانع ... أنت تعرف أني لا أحب الأفلام الإفرنجية التي ترغمني عليها كل أسبوع.
وسارعت بالضحك، فأضاعت سحابة الضيق التي كانت توشك أن تجثم على صدري، فقد كنت أظنها إلى اليوم سعيدة بسهرتنا الأسبوعية ... وابتعت تذاكر السينما، ودخلت أنا وسامية حتى وصلنا إلى الباب، وإذا بضوضاء شديدة وتصفيق وهتاف ... ووجدت عامل الباب يسحب يده دون أن يأخذ التذاكر من يدي، ثم يشير إلينا أن نفسح الطريق ... وصلنا أنا وسامية إلى أحد الجانبين، وإذا بصفين من الشبان يفسحون الطريق للقادم العظيم ... وقلت لسامية قبل أن يتقدم موكب القادم: إنه، بلا شك، وزير خطير، أو ... ولكني لم أتم، فقد بدا أمامنا الوزير الخطير بطلعته البهية، ولم يكن وزيرا، وإنما حسناء، حسناء رائعة القوام تخطر في معطف من الفراء الأبيض الناصع، أخذت تخطر حتى أصبحت أمامنا، ورأتها عيناي في وضوح، واستطعت خلال هالة الأناقة، وبرغم شعرها المصفف كأنه سبائك الذهب أن أتبين الوجه، وتنطلق من فمي صيحة تقابلها صيحة أخرى من سامية ... وقلت لسامية، وأنا لا أملك دهشتني بعد أن ابتعد موكب الحسناء: تعرفي دي مين؟
Halaman tidak diketahui