100
يبقى لي مائة جنيه أنفقها في سنتين في باريس على درس الحقوق، فانظر ما أجهلني، كنت أظن أن خمسين جنيها تزيد على نفقتي هنا!
وقد جريت على هذه الخطة، فقدمت نفسي إلى أحد المحامين فقبلت مجانا، وجعلت أجتهد في إتقان كل عمل أكلف به، ومن حسن التوفيق أن ذلك المحامي صادف في ذلك العام إقبالا غريبا، فكان يحتاج إلى خدمتي في أكثر الأحيان، فكنت ألبيه حتى أعجبته جدا. وفي الشهر الثالث عين لي جنيها راتبا شهريا، ففرحت جدا بالنجاح العاجل الذي لم أكن أنتظره، وتوسمت خيرا. وفي الشهر السادس وجدت أني أنفع المكتب بأعمالي فطلبت زيادة المرتب، فزادني المحامي جنيها، وحينئذ رضي علي أبي؛ إذ شعر بنجاحي، وبدأ يدرك حسن مستقبلي، وصرت أحسن بسهولة إقناعه بأن يساعدني في الإنفاق على تعلمي المحاماة، وكنت أصرف أوقات الفراغ بدرس الإفرنسية وإتقانها استعدادا لدراسة الحقوق.
وما انقضى العام حتى أصيب أبي بحمى شديدة قضت عليه عاجلا، فحزنت عليه حزنا شديدا - بالرغم من وقوفه عثرة في سبيل مستقبلي - ولما كنت وحيدا له ورثت الأفدنة القليلة التي اقتناها في حياته وبعتها من دون أن أستأذن أمي، وتركت لها نفقتها وأتيت إلى هنا لكي أدرس الحقوق - كما تعلم - وها أنا الآن في السنة النهائية لدراستي.
وقبل أن آتي إلى هنا اجتمعت بنعيمة وأطلعتها على مشروعي وما نويت أن أفعله في المستقبل فسرت جدا، وجددت عهدها معي، وأقسمت أنها لا ترضى بسواي مهما كانت حالة من يطلب يدها حسنة. هذا مجمل قصتي مع نعيمة أيها العزيز يوسف، وأنت تعلم أن نعيمة من نوادر أترابها، فحصولي على نعمة رضاها توفيق غريب، فإذا كان خليل بك مجدي ينازعني إياها فكأنه ينازعني حياتي.
الفصل الخامس
- إني أحس معك يا عزيزي حسن، وأدرك حرج موقفك، ولكن إذا كنت ضامنا رضى نعيمة وواثقا من عهدها، فلماذا تحسب حسابا لمنازعة خليل إياك؟ - ألا تذكر أنه قال: إن حسين باشا وعد أباه حامد باشا حسني قبل وفاته أن يزوجها له متى عاد من أوروبا بشهادة الهندسة، وأنت تعلم أن خليل بك يعود في هذا العام معنا، فإذا أصر عدلي باشا على أن يزوج ابنته بخليل فماذا تفعل وأي قوة لعهدها؟ هذا ما أخاف منه يا يوسف، مهما كانت نعيمة وفية لي فما هي إلا فتاة، والفتاة تحت سلطة ولي أمرها المطلقة، وإذا غدت نعيمة زوجة لخليل فلك بعدي العمر الطويل.
فتأمل يوسف بك برهة وهو يلاهي نفسه بتقليب كتاب بين يديه، ثم رفع نظره إلى حسن وقال: إني أشعر بحرج موقفك يا حسن وأقول: ليتك لم تعرف نعيمة؛ لأن منازعك خصم شديد وأهله ناس أشداء البأس لا يصلى لهم بنار، وأنت لا سلاح لك لمقاومتهم إلا حب نعيمة لك وهو سلاح ضعيف جدا لا يكاد يفيد، بل يخشى أن يستعمل ضدك، فلقد حرت بماذا أنصحك وأنت في هذا الموقف الحرج؟ وكيف أقدر أن آخذ بيدك في قصدك هذا؟ على أني أقول لك: «دع التقادير تجري في أعنتها» ومتى حان حين النزاع؛ ترى ماذا تفعل؟ ومع ذلك يجب أن تحذر تمام الحذر من منازعك يا حسن؛ فإنه أقوى منك مالا وجاها ونفوذا. - هذا ما لا أجهله يا يوسف؛ ولهذا تراني أفتكر دائما بمشروعات مختلفة بنية أن أدرسها عسى أن أنفذها فأكسب منها كسبا وافرا يقدرني عاجلا على أن أظهر بمظهر الكبراء، وأقدر أن أنازع خليل منازعة القوي. - بأي شيء تفتكر مثلا؟ - لعلك تستجنني إذا سردت لك شيئا من الأفكار التي تخطر لي؛ لأنك إذ قابلتها بي تجدني شيئا حقيرا بالنسبة إليها، ولكن إذا كانت لك ثقة الرجل الحزوم بنفسه لا ترى شيئا عظيما علينا. وما الأفراد الذين قاموا بالمشروعات الجسام إلا بشر مثلنا، وإنما امتازوا عن سواهم بأشياء زهيدة في حقيقتها عظيمة في نتيجتها، وهي الإقدام والثبات والاستبصار، فإذا كنت تعتقد أن العظيم لا يكون إلا ابن العظيم، وأن الحقير في دنياه حقير في عقله وعزمه وعمله، فلا داعي لأن أبسط لك شيئا من آمالي. - عجيب يا حسن! متى كنت أستخف بآرائك حتى تستهل حديثك الجديد بهذه المقدمة؟ ولماذا تفترض أني أعتقد بأن الرجال العظام لا يكونون إلا من سلالة عظام؟ لم يقم بين البشر أعظم من نابليون مع أنه من سلالة كورسيكية تكاد تكون خاملة الذكر، فهات ما عندك.
وعند ذلك كشف يوسف بك ساعته، فوجدها قد تجاوزت العاشرة، فقال: لقد فات موعد الذهاب إلى الكومدي فرنسيز، فدعنا نقضي بقية سهرتنا هنا؛ فإني أستلذ البحث بالمواضيع الجدية، فقل ما تريد أن تقول.
نحن الطلبة المصريين، نقضي في هذه البلاد وفي بعض ممالك أوروبا ردها من الزمان يكفي لدراستها والاطلاع على أسرار رقيها ونجاحها، إذا وجهنا نظرنا إلى هذا القصد، ولا يخفى عليك أن أوروبا الآن مثال العمران ونموذج التقدم بالرغم مما يعتور تمدنها من المفاسد، وسائر العالم يمشي الآن في تمدنه على خطوات أوروبا ويحذو حذوها بالرغم منه، رضي أناسه أو لم يرضوا، ومصرنا في جملة الممالك الشرقية الجارية في هذا المجرى أيضا، فكل ما نراه من محاسن المدنية ومحامد العمران سنقتبسه شيئا فشيئا على أيدي أناس مختلفين، غالبهم من الأجانب، فلماذا لا يقتبس شيء من ذلك على يدنا نحن الذين نختبر الأحوال هنا بأنفسنا، وندرس مزايا المدنية على مهل زمنا ليس بقصير؟ بل لماذا نقضي الوقت في باريس هذه أم الدنيا ولا ندرس جميع محاسنها، ونقتبس منها لبلادنا ما نستطيع اقتباسه فننتفع وننفع البلاد في وقت واحد؟ - صواب ما تقول، وما هي إلا غفلة منا، ولا ريب أننا إذا بقينا غافلين سبقنا الأجانب إلى جميع موارد الرزق ومصادر الكسب في بلادنا، وقد سبقونا إلى جانب كبير فيما مضى، فلماذا ندعهم يسبقوننا إلى الباقي. - هذا ما أريد أن أقوله. - وماذا خطر لك أن تقتبسه من مزايا المدنية التي هي مورد كسب لمقتبسيها؟ - لا يخفى عليك أننا الآن في عصر الكهرباء، وللكهرباء مستقبل مجيد، ولسوف ترى أنها مستخدمة في أشياء كثيرة، فلماذا لا نستخدمها نحن في بلادنا كما يستخدمها أهل أوروبا؟ - مثلا. - خذ النور مثلا. لماذا لا نسعى بتأليف شركة في مصر لإنشاء النور الكهربائي فيها وتوزيعه على المنازل والحانات ... إلخ؟ ولا ريب عندي أن شركة تتألف لهذا الغرض تصادف إقبالا من الجمهور وتربح أرباحا باهظة.
Halaman tidak diketahui