لم يسؤني قوله إساءة فقط بل طعن قلبي طعنة نجلاء لا أعلم إن كنت أبرأ منها أو تقضي علي؟
فحملق يوسف بك فيه حملقة المستهجن، وقال: هل لك من مطمع بالفتاة؟ - ليس لي بسواها مطمع. - ماذا تقول يا حسن؟ - أقول: إن نعيمة كل آمالي، فإذا لم أنل يدها كان وجودي في هذا العالم عبثا وحياتي لغوا؛ فلأجلها أحيا وأدرس وأسعى إلى العلى. - ولكن ألا تعلم نسبة نعيمة إليك؟ - أعلم أنها كنسبة الثريا إلى الثرى، ولكنني سأجتهد أن أرقى في سلم العلى حتى ارتفع من الثرى إلى الثريا. - لا تؤاخذني يا عزيزي حسن إذا خامرني الظن بغرورك، لا أشك أنك قد تصير كفئا لمثل نعيمة، ولو كنت أباها لما ترددت في أن أهبك يدها - إذا هي رضيت - ولكن أنت تعلم أن أباها يعتد جدا بكرم محتده ورفعة أصله ومقامه الاجتماعي؛ فما هو ممن يجود بيد ابنته لمن هو دونه أصلا ومقاما، وإن كان فوقه علما وهمة؛ لأنه من أهل الزمان الغابر الذين يحافظون أشد المحافظة على الأصل، وهو لا ينسى أنك ابن رجل كان من بعض حاشيته، لا تؤاخذني على هذا الإفصاح؛ لأننا نتكلم الآن بحرية ضمير. - أعلم ذلك جيدا يا عزيزي يوسف، وما أنا مغرور، ولكنني أتذرع إلى استرضائه بأمرين؛ الأول: أني أجتهد أن أصير في المستقبل القريب ذا شأن في الهيئة الاجتماعية يرضيه؛ إذ أسعى إلى جمع ثروة وإلى مقام سام. والثاني: أن تفصح نعيمة بأنها لا تقبل سواي بعلا، وحينئذ لا أظن أن حسن باشا يكون مستبدا إلى حد أن يزوج ابنته بالرغم منها بزوج لا تريده ويحرمها زوجا صالحا لها، هي تبتغيه. - كلا الأمرين ممكن، ولكنهما صعبان. - لا أنكر أنهما صعبان؛ أما الثاني فهو في حكم المقرر إذا حصلت على الأول، ولذلك سأبذل - إن شاء الله - الهمة القعساء في سبيل الصعود إلى مراتب العلى، ومتى حان الوقت لهذا الصعود أخبرك بما أفعله لأجله، فإن في رأسي أفكارا عديدة بمشروعات مهمة متى أخبرتك عنها عضدتني فيها، فلندع الحديث عنها الآن إلى حينه. - إذن بينك وبين نعيمة علاقة حب الآن. - نعم، ولكن ليس أحد سواك يعرف ذلك.
فسكت يوسف بك هنيهة سكتة المبهوت ثم قال: عجبا! كيف اتصلت إلى نعيمة وهي أعز من جبهة الأسد، وأمنع من بيض الأنوق، أولا؛ لأن أباها مبالغ في حجبها، وثانيا لأنها تمتاز جدا على أترابها بآدابها وحشمتها وبمبالغتها في الاحتجاب، فإنها ما بلغت سن الثامنة حتى تنقبت وتحجبت، فإن كانت في المدرسة فهي كالسجينة، أو في البيت فتلازم خدرها، أو في المنتزه البعيد عن الناس فهيهات أن يراها أحد. - أما رأيتها قط. - رأيتها مرة في العام الغابر، وأنا داخل إلى دار أبيها لزيارة، وكانت بلا نقاب فدهشت لجمالها الفاتن وملامحها الجذابة، ولكنها هرعت في الحال مختبئة مني، وقد تيقنت حينئذ أنها أسمى جمالا وكمالا مما يصفونها به فأتعجب كيف اتصلت إليها وصارت بينكما هذه العلاقة الحبية.
فابتسم حسن وقال: إن لمعرفتي بها قصصا تكاد تكون غريبة لا أكتمك إياها، ولكني أتوسل إليك أن تكتمها. - سبحان الله يا حسن، أما عرفتني حق المعرفة، فما بالك تحذرني؟ أي سر من أسرارك أفشيته؟ - لا شك عندي أنك كتوم؛ ولذلك أقص عليك ما جرى بيننا؛ لأنه قصة تفكهك وتلذ لي على حد قول الشاعر:
حديثه أو حديث عنه يطربني
هذا إذا غاب أو ذاك إذا حضرا
الفصل الثاني
عند ذلك استوى حسن في مكانه، وجعل يروي حكايته، قال: لا يخفى عليك أن المرحوم أبي - على ما كان عليه من السذاجة والوضاعة - كان محبوبا كثيرا لدى حسين باشا عدلي أبي نعيمة؛ لأن أبي كان غيورا جدا على مصالح الباشا، وكان يقضي له أحيانا بعض المهام الخطيرة، وكان عدلي باشا يثق بأمانته كل الوثوق، ويعتقد بحسن تربيته وآدابه، وهو الآن يعتقد بي أني ابن أبي في هذه الخصال.
وكانت أمي تتردد كثيرا إلى دار عدلي باشا، وكانت لها دالة كبرى على زوجته، فمنذ حداثتي كنت أدخل معها أحيانا إلى دار الحريم وأرى نعيمة، وبقيت أراها وأجتمع بها أحيانا حتى في أثناء عودتها إلى البيت في الفرصة المدرسية حين كان عمرها يناهز الثانية عشرة، وأنا أكبرها بنحو السنتين، وكانت نار الغرام قد جعلت تلعب بقلبي حتى إني لم أعد أطيق البعد عن نعيمة، وكانت أمها - إلى ذلك العهد - لا تحظر اجتماعنا؛ لظنها أننا في سن لم يقدح فيها شرر الحب بعد، كأنها نسيت عهد صباها وما كان يتحرك في قلبها من كوامن الهوى.
وما هي وحدها بغافلة عن هذه المظنة بل إن جميع الوالدين يظنون أن أحداثهم قبل الرابعة عشرة لا يحسون بنبض أفئدتهم في الحب فيدعونهم يختلطون بناتا بصبيان. نعم إن الحب في عهد الصبوة أقل خطرا، ولا سيما إذا كان الصبي والبنت قد ربيا على التقى والفضيلة؛ لأنه يكون روحيا أكثر منه حيوانيا حينئذ، ولكنه لا يقل في حدته عن الحب بعد سن البلوغ، فمنذ سن العاشرة. كنت أحس بولوعي بنعيمة وألاحظ أنها تحس بشيء مما أحس به.
Halaman tidak diketahui